قوات الحكومة السورية في طرطوس، 7 مارس 2025 (علي حج سليمان/Getty)
تتداخل مجموعة من العوامل الداخلية والخارجية التي دفعت نحو تفجّر معارك الساحل السوري وعودة المواجهات بين فلول النظام المخلوع وقوات الحكومة، في انعكاس واضح لحجم التحديات والمخاطر التي تحيط بسورية واستقرارها بعد ثلاثة أشهر من إطاحة نظام بشار الأسد. وتؤكد السلطات السورية أن الهجوم الذي بدأ منذ أيام يأتي في إطار مخطط يجري العمل عليه منذ فترة من قِبل فلول النظام المخلوع بدعم من أطراف خارجية، خصوصاً مع بروز أسماء قيادات في النظام السابق بوصفها أطرافا أساسية في إشعال هذا الصراع وقيادته ومنها التابعة للعقيد السابق في جيش النظام سهيل الحسن في اللاذقية، ووسط اتهامات لإيران وأطراف أخرى بدعم هذه الأحداث بهدف إرباك الحكم الحالي، ووضع عقبات في طريق تثبيت حكمه، على أمل أن يؤجج ذلك حالة التمرد لتعم بقية المناطق، خصوصاً في جنوبي البلاد، وشمالها الشرقي.
وبدا واضحاً أن المشهد في الأيام الماضية تخطى الأحداث المحدودة التي كانت تسجل في الأسابيع الماضية مما ساعد على احتوائها السريع. فالهجمات الأخيرة في الساحل السوري كان جلياً أنها منظّمة ومنسقة ضمن خطة معدة سلفاً وتم تنفيذها في لحظة غليان شعبي في محاولة لتوظيف عوامل عدة، من بينها مخاوف أقليات وتضخيم تجاوزات جرى تسجيلها خلال العمليات الأمنية في الساحل إلى جانب الاستياء الذي يتسع من تسريح آلاف الموظفين. كما يأخذ البعض على السلطات الجديدة عدم المسارعة بإطلاق عملية العدالة الانتقالية عبر محاسبة المسؤولين عن قتل السوريين أو سجنهم وتعذيبهم في السنوات الماضية بشكل قانوني وواضح، وإطلاق مسار تسويات مع فلول النظام كان ناقصاً ولم يمنع بقاء سلاح بيد فلول النظام السابق. كل ذلك تضاف إليه حملات تحريض وتجييش عبر وسائل التواصل الاجتماعي خلال الأشهر الأخيرة ضد الحكم وبدوافع طائفية واتهامات باستهداف فئات معينة من الشعب السوري، ليفتح هذا الخليط المجال أمام اشتعال الأوضاع في الساحل السوري ويضع السلطات الجديدة في واحد من أخطر التحديات التي تواجهها منذ ثلاثة أشهر والتي تتزامن مع استهداف إسرائيلي لا يتوقف للأراضي السورية ومخططات علنية لإضعاف الدولة السورية وحتى تفكيكها.
خلفيات معارك الساحل السوري
وتواصلت المواجهات في الساحل السوري بين قوات الأمن وأنصار النظام السابق أمس الجمعة في مناطق مختلفة، ولا سيما في محافظة اللاذقية التي شهدت ليلة ساخنة الخميس ـ الجمعة، خصوصاً منطقتي جبلة والقرداحة، أسفرت عن مقتل العشرات من الطرفين، إضافة إلى محافظتي طرطوس وحمص، وهي المحافظات الثلاث التي تعد الحاضنة الرئيسية لنظام الأسد. ووصلت تعزيزات كبيرة من مناطق مختلفة إلى الساحل السوري، في إطار جهود قوات الأمن العام ووزارة الدفاع السورية لملاحقة العناصر المسلحين الذين سيطر المئات منهم على العديد من البلدات والقرى والمراكز الحكومية والعسكرية، قبل أن تتمكن قوات الحكومة من استعادة الكثير منها.
وبالنسبة للأحداث الحالية في الساحل السوري فقد بدأت خلال حملة تمشيط منطقة الدعتور في محافظة اللاذقية يوم الثلاثاء الماضي، حيث انتشر فيديو لعنصر في سيارته يوجه شتائم وعبارات طائفية لأهل المنطقة، ليصدر تصريح عن جهاز الأمن الداخلي في اللاذقية بأنه تم إيقاف هذا الشخص وتحويله إلى لجنة المتابعة ليتم اتخاذ الإجراءات اللازمة بحقه. وتبع ذلك الاعتداء على دورية للأمن العام في محيط قرية بيت عانا، ثم توسعت الاعتداءات لتشمل مناطق عدة. وتحدث مصدر أهلي من مدينة جبلة لـ”العربي الجديد” عن وجود معلومات باستنفار عناصر خارجة على القانون قبيل شهر رمضان لتنفيذ هجمات واسعة على الأمن العام، وبدأت الأحداث يوم الجمعة 28 فبراير/شباط الماضي بعد أن حضر عناصر الأمن العام إلى قرية الدالية لإلقاء القبض على أحد المطلوبين، فرفض الأهالي تسليمه، وقام بعض المسلحين باستعصاء وهجوم على سيارات الأمن، فيما تطوّرت الأمور لتصل إلى اشتباكات داخل المدينة، كانت نتيجتها سقوط ضحايا ومحاصرة مستشفيات من قبل المسلحين الخارجين على القانون، كالمستشفى الوطني ومستشفى النور، وهذا ما أدى إلى تحويل إحدى الصالات التي تتبع لجامع أبي بكر إلى مستشفى ميداني. وأشار المصدر إلى أن التحريض الذي جرى على صفحات “فيسبوك” خلال الأشهر الماضية، أسهم في زرع فكرة الانفصال لدى الكثير من المواطنين، لأسباب طائفية.
لا يمكن إغفال المعطيات المتداولة عن وجود مخطط يُحضّر له منذ فترة غير قصيرة لإشعال الأوضاع في الساحل السوري، خصوصاً بعد عودة غياث دلا إلى واجهة الأحداث
ولا يمكن إغفال المعطيات المتداولة عن وجود مخطط في الساحل السوري يُحضّر له منذ فترة غير قصيرة لإشعال الأوضاع هناك، خصوصاً بعد عودة أحد قادة “الفرقة الرابعة” (التي كان يقودها ماهر الأسد) غياث دلا إلى واجهة الأحداث، معلناً قبل أيام تشكيل ما سماه “المجلس العسكري لتحرير سوريا”، وبدء التنسيق مع قيادات أخرى في جيش النظام السابق. وتشير المعطيات أيضاً إلى تنسيق مع أطراف خارجية، لتتجه أصابع الاتهام إلى إيران التي صدرت من مسؤوليها تصريحات عديدة ضد الإدارة الجديدة في دمشق ومنها قول مستشار المرشد الإيراني علي أكبر ولايتي، قبل أيام، إن هناك احتمالية لاندلاع حرب أهلية في سورية في أي لحظة.
لحظة صفر للتمرد
وأرجع الناشط الإعلامي في مدينة جبلة مهيار بدرة، في حديث لـ”العربي الجديد”، أسباب الوضع الحالي في الساحل السوري إلى تعمّد البعض استغلال سياسات السلطة المحقة بإعادة هيكلة المؤسسات، ليصطادوا ببعض الأخطاء التي يجري تضخيمها من قبل الضباط الهاربين وبعض الناشطين المشبوهين على وسائل التواصل الاجتماعي، وذلك في إطار مخطط يجري العمل عليه منذ شهرين وتم التجهيز لما يسمى لحظة الصفر لاحتلال مدن اللاذقية وجبلة وطرطوس. ورأى بدرة أنه لن يتم تجاوز خطورة الوضع الراهن، من دون تسليم القادة الفعليين لهذا التمرد المسلح وتقديم المجرمين للعدالة، مشدداً على أن تعزيز السلم الأهلي يبدأ بمحاسبة المجرمين من ضباط الجيش السابق وفروع الأمن وتقديمهم للعدالة وحصر السلاح تماماً بيد الدولة.
ورأى المحامي عمار عز الدين أن فلول النظام السابق تسعى إلى زعزعة الاستقرار والأمن، خصوصاً في المناطق التي كانت تعتبر حاضنة شعبية وخزاناً بشرياً لنظام الأسد، فهؤلاء الفلول متورطون في ارتكاب الانتهاكات والجرائم بحق السوريين، ما يجعل من مصلحتهم إثارة الفوضى لأنه مع استقرار الوضع سوف يساقون للمحاسبة والمساءلة أمام القضاء. وأضاف في حديث مع “العربي الجديد” أن هؤلاء تعودوا على حياة السرقة والنهب التشبيح منذ عهد النظام البائد، ما يجعل من الصعب عليهم الالتزام بالقانون. ورأى أن المطلوب فوراً هو سحب السلاح من هؤلاء من خلال حملات أمنية وتفتيش دوري للقبض على وإحالتهم للقضاء حتى قبل صدور قانون العدالة الانتقالية وذلك بالاستناد إلى قانون العقوبات السوري.
كمال شاهين: كان بإمكان الدولة السورية تفادي ما يجري في الساحل، عبر الانتقال إلى مرحلة العدالة الانتقالية والبدء بعمليات جبر الضرر بشكل قانوني
من جهة أخرى، يتحدث آخرون عن أخطاء ارتكبتها السلطات في دمشق. وشرح الصحافي كمال شاهين من محافظة اللاذقية، لـ”العربي الجديد”، كيف أنه في الأيام الأولى لسقوط نظام الأسد، استقبل أهالي الساحل عناصر الأمن بالترحاب، حيث دخلوا إلى مدينة القرداحة وكل القرى الساحلية بسلاسة وهدوء، ولم يتعرض عناصر الأمن هناك لأي اعتداءات على الرغم من قلة أعدادهم، لكن ما جرى أخيراً في بعض المناطق مثل عين شمس في ريف حماة، والدعتور في اللاذقية غيّر هذه الصورة، وخفف من تأييد المجتمعات المحلية للحكم الجديد. واعتبر شاهين أن التطورات الأخيرة ليست لها خلفيات أمنية فقط، وإنما محصلة لما جرى خلال الأشهر الثلاثة الماضية، من فصل آلاف الموظفين الذين كانوا يتقاضون أجوراً لا تتجاوز 20 دولاراً، إلى تأخر صرف رواتب الموظفين القائمين على رأس عملهم، والمتقاعدين المدنيين والعسكريين، إضافة إلى وجود محاولة واضحة لوضع مديرين وموظفين من محافظة إدلب مكان عدد من الخبرات الموجودة في محافظتي طرطوس واللاذقية، فيما اعتبر بعض أهالي المنطقة ما يجري محاولة لتعديل ميزان وظائف الدولة في منطقة الساحل، واستخفافا بالخبرات الموجودة في تلك المنطقة. وأشار إلى فصل 361 ممرضة من المستشفى الوطني في اللاذقية، يشكلن العمود الفقري للمستشفى، لتغدو أقسام التخدير والتعقيم والأمراض المزمنة خالية من الممرضات. واعتبر شاهين أنه كان بإمكان الدولة السورية تفادي ما يجري في الساحل، عبر الانتقال إلى مرحلة العدالة الانتقالية والبدء بعمليات جبر الضرر بشكل قانوني، عن طريق وجود أجهزة قضائية تتابع ذلك، فمن شارك بقتل السوريين أو سجنهم أو اعتقالهم، تجب محاسبته بشكل قانوني وواضح، وليس كما يجري الآن والذي يؤدي إلى زعزعة السلم الأهلي والمجتمعات المحلية، وفق تعبيره.
من جهته، اعتبر المهندس ظهير صالح المنحدر من اللاذقية، وهو متابع للوضع العام، في حديث لـ”العربي الجديد” أن الاحتقان في الساحل السوري ليس وليد اليوم بل ازداد بعد سقوط النظام وذلك لأسباب كثيرة، منها: طرق تعامل عناصر الأمن خلال إلقاء القبض على فلول النظام، سواء كانوا عسكريين أو فاسدين قطعت أرزاقهم بعد سقوط النظام، علماً أن هؤلاء يستمرون في تحريض الشارع والتجييش والاحتقان، باستخدام أشياء موجودة على أرض الواقع، منها الفصل التعسفي للموظفين، وبعض الإهانات الطائفية. ورأى أن الدولة لم تستوعب مخاوف أبناء الطائفة العلوية.
حملات تحريض
أما المحامي عبد السلام الخوجة، وهو أحد الناشطين في مبادرات السلم الأهلي باللاذقية، فوصف الوضع بالخطير جداً ويهدد بانقسام كبير في المجتمع، ودعا جميع الأطراف لضبط النفس وعدم الانجرار وراء التهويل والشائعات وخطابات الكراهية التي تملأ الفضاء الالكتروني. ورأى الخوجة في حديث لـ”العربي الجديد” أن هناك الكثير من الأسباب التي أدت إلى وصول الأوضاع إلى نقطة الانفجار، أولها تهاون السلطة الجديدة في ملاحقة الضباط البارزين ومرتكبي جرائم الحرب وعدم ضبط الأمور أمنياً والتساهل مع بعض مفتعلي المشكلات الطائفية من كلا الطرفين على الرغم من دعوات بعضهم العلنية للتدخل الخارجي والتقسيم، حتى وصل الحال إلى حدوث توتر في أي عملية أمنية يقوم بها الأمن العام في هذه القرى. وأضاف الخوجة أن هناك اصطفافاً طائفياً واضحاً ساهمت فيه مجموعة من الأشخاص معظمهم يقيم خارج البلاد من خلال تزوير بعض الحوادث وتهويل بعضها الآخر. كما ساهم الوضع الدولي المعقّد والتدخّل الإسرائيلي في الشأن السوري في تجرؤ البعض على سلطة الدولة والاستقواء بالأطراف الخارجية لاسيما إيران. ووضع جملة حلول لتجنب الفوضى ومزيد من الدماء أبرزها التسريع بتحسين الوضع الاقتصادي ومراجعة سياسة فصل العاملين في الدولة والتمهل بها أكثر وإشراك “المكون العلوي” في صنع القرار ضمن الحكومة الجديدة، وإقامة حوار فعال بين الأشخاص الوطنيين في المحافظة لضبط الأمور.
عبد السلام الخوجة: تهاونت السلطة الجديدة في ملاحقة الضباط البارزين ومرتكبي جرائم الحرب
وتبرز في المشهد أيضاً حملات التحريض عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وهو ما أشارت إليه الكاتبة السورية رشا عمران، التي لفتت في منشور لها على “فيسبوك” إلى انسياق الكثير من أبناء الساحل خلف حملات التحريض والتجييش التي يطلقها محرضون يعيشون في الخارج ويرتبطون بإيران وبإسرائيل، وهذا تم التأكد منه فعلاً. وأضافت أن هذه الصفحات تضخّم كل حدث فردي أو شخصي يرتكب ضد علوي وتضعه في خانة الثأر الطائفي، مشيرة إلى أن هذا التهويل اليومي منع كثرا من العلويين من الانتباه إلى أن إجراءات التسريح وتأجيل صرف الرواتب تطبّق في كل سورية وليس في الساحل فقط. ورأت عمران أنه مع هذه الظروف والفقر الشديد، بات البعض ينساق لدعوات التسليح ليكونوا من جديد وقودا لمطامع كبار مجرمي النظام من الضباط وتجار الكبتاغون المرتبطين أصلا بأجندة إيرانية.