تحدث خيام اللامي عن التأثيرات الغربية على الموسيقى العربية (إكس)
جمعت الموسيقى حوالي 30 شاباً وشابة أتوا لمناقشة واقع الموسيقى واستعادة الهوية في المشرق العربي ضمن مبادرة “رواق”، التي ينظمها مهرجان بيروت أند بيوند الموسيقي. وحضر ثاني لقاءات “رواق” في مكتبة برزخ في شارع الحمرا البيروتي العريق، الأحد الماضي، شباب مهتمون بالموسيقى ويريدون لها أن تكون وسيلة لاستعادة هوية عربية مهدّدة. أما من تولوا الإجابة فهم من صُنّاع الموسيقى: الأكاديمي والموسيقي العراقي خيام اللامي والموسيقي السوري حسن نخلة والمنتجة التونسية دينا عبد الواحد، فيما تولت الباحثة يارا مراد إدارة هذه الحلقة الموسيقية.
في مستهل اللقاء، أثار خيام اللامي مسألة الميل نحو سلوك اتجاهات أوروبية للحصول على اعتراف الغرب بموسيقانا، بينما تراثنا الموسيقي الشرقي يزخر بكنوز يُمكننا البناء عليها وتطويرها، كاشفاً عن مشروع تعاون مع الجامعة الأميركية في بيروت يصب في هذا الاتجاه.
بدورها، تحدثت دينا عبد الواحد، وهي منتجة ودي جي، عن نشأتها في الدوحة وبدايات احتكاكها بموسيقى بلدها الأم تونس ومنها “موسيقى الأعراس”. وكيف قاربت تجارب موسيقية عديدة لتكتشف أن لا مفر من العودة إلى الهوية الموسيقية الأم التي يفهمها أهلها، منتقدةً تجارب هجينة تمزج الهويات من دون دراية بمضمونها.
أما الفنان السوري حسن نخلة، فقد كان متصالحاً مع فكرة امتزاج الهويتين الغربية والشرقية في أعماله من دون أي خشية من أبعاد ونتائج هذا المزج، وهو الأمر الذي سهّل له العمل في برلين وفتح آفاقاً أكبر أمامه، على حد تعبيره.
بدا للعيان أنها جلسة تجمع باحثين عن هوية أكثر منها استعادة للموسيقى. لا المكان ولا الجلسة الشرقية يشبهان اللغة الإنكليزية التي طغت على مداخلات الثلاثي الموسيقي ومفرداتهم، مثلما برز اتجاه نحو طرح مشكلة اعتراف الغرب بهذه التجارب ومعيار القبول بها في المهرجانات الأوروبية، لكأن العالم العربي لا يقف فقط عند مفترقات طرق بالسياسة والاقتصاد، بل بالهوية والموسيقى والفن والثقافة.
بدا النقاش تعبيراً عن محاولة مزج بين ماضٍ حضاري مجيد وحاضر مضطرب وضائع في خضم تحولات سياسية واجتماعية وثقافية. إنه واقع يزداد تعقيداً كل يوم، ويفقد معه الشباب بوصلة الانتماء وسط عالم متسارع الإيقاع لا يمنح هؤلاء المساحة الكافية للتعبير عن ذاتهم إلا إذا أرادوا التطبيع مع السائد.
في ظل هذا المشهد القاتم، بدت تجربة “رواق” انعكاساً لشريحة تبحث عن متنفس تُعبر من خلاله عن أحلامها وهواجسها، فكانت الموسيقى ملاذاً لها، مساحةً حرةً يرممون بها أرواحهم المرهقة والمرهفة. لكن حتى في هذا العالم، يجدون أنفسهم حيارى بين هويات متناحرة: بين موسيقى تحمل صدى الماضي العريق، وأخرى تعكس نبض الحداثة والتجديد إلى حد الابتذال. هي رحلة بحث مستمرة عن صوت يُعبّر عن حقيقتهم وسط عالم متغير.
وتأخذنا تجربة “رواق” أيضاً إلى الارتجال الموسيقي، وهي ظاهرة إبداعية عمرها من عمر الموسيقى. وتشي تجاربنا الموسيقية والغنائية العربية بتقديم نموذج استثنائي للارتجال ليس باللحن فقط وانما بالأغنية والموال والتجويد إلخ.. كما أن الموسيقى الشرقية تتميز بالعاطفة والتعبير الحر والثراء المقامي، بينما تتميز الموسيقى الغربية بالتنظيم الهارموني والدقة في الأداء. وبرغم الاختلافات، فقد تأثرت كل منهما بالأخرى، ما أدى إلى ظهور أنماط موسيقية تجمع بين عناصر من الثقافتين، ولو أن تجربة “رواق” كانت أكثر انزياحاً نحو الموسيقى الغربية.
في هذه الأمسية تعرفنا على ثلة تحاول الهروب من السياسة نحو عالم مختلف، لعلها تجد فسحة حياة بعيداً عن ثقل الأزمات والصراعات التي لا تنتهي. لكن السياسة، كقدر محتوم، لم تترك لهم خياراً، بل تسللت إلى تفاصيل حياتهم، جزّأتهم بين أفكار متباينة، ووضعتهم في مواجهة أسئلة صعبة حول الهوية والانتماء والمستقبل.
حاولوا أن يجدوا في الموسيقى والفن والثقافة ملاذاً بعيداً عن الجدل السياسي المستعر، لكنهم سرعان ما وجدوا أن السياسة لا تعترف بالحياد، فكل إيقاع يحمل موقفاً، وكل كلمة تُغنّى تعكس واقعاً، وكل لون فني يصبح ساحة للصراع بين ما كان وما يجب أن يكون. فأصبحوا موزعين بين مدارس فكرية متضادة، بين من يريد العودة إلى الجذور ومن يسعى لكسر القيود والانطلاق إلى آفاق جديدة، بين من يرى الموسيقى انعكاساً للألم ومن يجد فيها ثورة على الغلط في المجتمع.
هكذا، لم يذهبوا للبحث عن السياسة، لكنها بحثت عنهم، ووضعتهم في قلب المعركة، حيث لا مهرب من الأسئلة الكبرى: من نحن؟ وإلى أين نمضي؟ ويبقى السؤال الجوهري هو سؤال الهوية.