يمكننا أن نقول إن الموسيقي السوفياتي الكبير ديمتري شوستاكوفيتش كان من شأنه أن يشعر بالسعادة الغامرة يوم رحيله وهو “يشهد” من تابوته كبار القوم في موسكو وهم متحلقون من حول ذلك التابوت يودعونه إلى مثواه الأخير. كان ذلك في عام 1975 بعد نحو ربع قرن من رحيل ستالين الذي لا شك في أن ذلك المشهد الذي يكاد يبدو سوريالياً في نظر الموسيقي الراحل، ما كان من شأنه إلا أن يفرح “أبا الشعب الصغير” (وكان هذا اللقب المُسبغ على ستالين تحبباً يرضيه تماماً) من ناحية لأنه تخلص أخيراً من ذلك الفنان المزعج الذي لم يكن ليطمئن إليه حقاً، وبخاصة لأن عمله الأساس كان سيمفونيته “لينينغراد” وليس عملاً له عن “ستالينغراد”، لكنه كان مضطراً إلى تحمله لأن الناس يحبونه ويحبون موسيقاه من ناحية، وهو – أي شوستاكوفيتش – كان دائماً من الكياسة والإذعان ما ينقذه من براثن السيد الكبير وبطانته. صحيح أن ستالين كان قد رحل منذ زمن، لكن الستالينية كانت لا تزال حيَّة تخيف الموسيقي الكبير جاعلة إياه راغباً في الثأر منها. صحيح أنه لم يتمكن من ذلك في حياته، لكنه وهو راقد في تابوته كان من شأنه أن يبتسم راضياً، طالما أنه يعرف كم سيكون مؤذياً لستالين والستالينيين بعد سنوات قليلة حين يقرأون مذكراته “حينها سيندمون على دموع التماسيح التي يذرفونا الآن فوق تابوتي” كان من شأن الموسيقي الميت أن يبتسم ويفكر لحظة الرحيل. وهذا ما يجعلنا في السطور السابقة نتحدث عن “المشهد السوريالي” و”الثأر” متخيلين الراحل مبتسماً راضياً عما فعل.
الانتصار الأخير
أما ما فعله الراحل فكان بسيطاً: كتب مذكراته ليقول فيها كل شيء، وبخاصة كل تلك الأشياء التي عجز عن قولها، وربما حتى عن التفكير بها في حياته، وتحديداً خوفاً من ستالين والستالينيين. وهو لم يكن مخطئاً في خوفه وفي توقعاته. فالمذكرات التي تمكن شوستاكوفيتش من تهريبها إلى الغرب قبل موته، لن تصدر فقط بعد فترة يسيرة من رحيله، بل ترجمت من فورها إلى عدد لا بأس به من اللغات كان من أهمها الإنجليزية والفرنسية التي صدرت عام 1980 لتشكل واحدة من الصفعات الأكثر قسوة للستالينية. صفعة لولا أن الموسيقي كان في العالم الآخر يومها لما خرج من معركته تلك الأخيرة ضد سيد الكرملين سالماً بالتأكيد. فالحال أن كل فصل وربما كل صفحة في تلك المذكرات كان ينضح بتوصيفات لستالين وللحياة الفنية في عصر ستالين وصولاً إلى تحليلات مدهشة حول شخصية الزعيم نفسه تساوي ألف كتاب وكتاب، بحيث إن كثراً من المؤرخين قالوا إن هذا الكتاب يساوي في قوته التاريخية مجموع الكتب التي صدرت منددة بسيد الكرملين طوال عقود كثيرة. ولقد بدت المفارقة حينها فاقعة بين الهدوء الذي اتسمت به شخصية الموسيقي الوديعة المستكينة والكثافة التي وسمت نصوصه وتحليلاته وما كشفه من حول الزعيم، ولا سيما منه ما يتعلق بأمور صغيرة لعل في مقدمها تحليله لأخلاقيات هذا الزعيم، وبخاصة لغيرته الشديدة من أي شخص كان حتى ولو كان بائع خضراوات بسيطاً يفوز مرة بتقدير ما.
لعنة السيمفونية السابعة
والحقيقة أن شوستاكوفيتش يعبر عن ذلك بأفضل ما يكون من خلال ما يرويه عن حكايته مع سيمفونيته السابعة “لينينغراد” تحديداً، تلك القطعة الإبداعية الجبارة التي من سماتها الأساسية أن الموسيقي كتبها وهو في المدينة نفسها والنازيون يحاصرونها قاتلين سكانها مدمرين إياها بأعتى ما يكون. ومن هنا اكتسبت تلك السيمفونية سُمعة مزدوجة كعمل فني استثنائي وعمل بطولي لا يرقى إلى مستواه في هذا المجال أي عمل. فماذا يخبرنا المؤلف بنفسه عن هذا؟ يخبرنا كم أنه ارتعب وهو يفكر بأن ستالين سيكون، “على عكس الناس جميعاً، مستاء من السُّمعة التي ستكتسبها تلك السيمفونية، في عمق أعماقه” أولاً لأنها تحمل اسم سلفه (لينين) الذي كان يبذل كل جهده لطمسه، “وبعد ذلك لأنها ستوفر لملحنها سُمعة كبيرة وستالين لا يحب أن يحصل أحد على أي تقريظ إن لم يكن هو من يأمر به”. ومن هنا سيقول الموسيقي في مذكراته، ولكن أبداً طوال حياته بالطبع، إنه راح يشعر بأن كل قول حسن في حق “لينينغراد” إنما هو “طعنة خنجر في خاصرتي وحجر في مدماك غيرة ستالين مني وكراهيته لي”. ببساطة إذاً “لم يكن من الضروري إثارة أي صخب من حول السيمفونية كما من حول أية قطعة موسيقية أكتبها”. وبصورة خاصة لم يكن مستساغاً أن يمتدح شوستاكوفيتش، وبخاصة حين يكون الامتداح موجهاً إلى… فن له علاقة بلينين. ففي نهاية الأمر “لم يكن في بلادنا سوى شخص واحد يمتدح. وهذا الشخص لا يمكن أن يكون سوى ستالين. فهو وحده الذي ينبغي أن يشعَّ كشمس ساطعة في كل مجال من المجالات وصولاً إلى الفنون والعلوم بالطبع”.
الغيرة جنون، ولكن
وهنا يؤكد شوستاكوفيتش أن غيرة ستالين من أي مجد يسبغ على غيره قد تبدو نوعاً من الجنون، “لكنه جنون حقيقي”. وهي غيرة كانت لها تأثيرات بالغة السوء والأذى في حياة ومسيرة كثر من الناس “ففي أحيان كثيرة كانت كلمة أو إشارة عابرة كافية لإثارة غضب الزعيم. كانت ملاحظة عابرة تكفي، أو عبارة غير حذرة. كان يكفي لإغضاب الزعيم وإخراجه عن طوره وجود شخص في حضرته يثرثر أكثر مما ينبغي، بل كان يكفي لإثارة جنون ستالين وجود شخص في حضرته يشعر سيد الكرملين بأنه مثقف أكثر مما ينبغي. كان يتعين إزالة مثل ذلك الشخص من الوجود”، وفي الأقل كما يخبرنا شوستاكوفيتش، الذي يضيف “كان ستالين عقرباً حقيقياً يأمر بهلاك كل من يجرؤ على الدنو من وكره”. ولقد كان كثيراً ما يحدث لمعاون يقدم للزعيم تقريراً أن يرصد فجأة نظرة في عيني رئيسه تعلن أنه – أي المعاون – كفء أكثر مما ينبغي، فيفهم أن أمره قد انتهى ولا يتوانى عن أن يقول لمن هم حوله من رفاقه إن “الرئيس مستاء منِّي”، وكانت هذه العبارة في حد ذاتها تعني كل شيء وأسوأ المصائر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ستالين يكره الحلفاء
وفي المجال السياسي الذي لم كن ليبدو على شوستاكوفيتش أنه يعبأ به في حياته، ها هو الموسيقي يؤكد لقرائه أن سيد الكرملين كان يكره الحلفاء، بل يخشاهم خشية مرضية، بخاصة أنه كان يعلم علم اليقين أن ليس في وسعه أن يفعل شيئاً ضد الأميركيين. ومن هنا نجده ما إن تنتهي الحرب يبادر إلى طرد وسجن واضطهاد كل أولئك، بين مساعديه من الذين كانوا خلال الحرب على علاقة ولو بسيطة بالحلفاء. ولقد أسفر ذلك التصرف عن ألوف المآسي التي طاولت عشرات الألوف من أولئك. وكان تأكيد مخبر ما أن واحداً منهم قد تلقى رسالة من حليف من الحلفاء يكفي لإعدام المتلقي رمياً بالرصاص، بحسب ما يؤكد شوستاكوفيتش في مذكراته، مضيفاً بلغة بالغة السخرية أن “الحلفاء السذج كانوا في تلك الأثناء يواصلون بعث رسائلهم إلى معارفهم من دون أن ينتبهوا أن كل رسالة كانت تعني حكماً بالإعدام!”. ويتحدث الموسيقي هنا عما خبره أو عايشه بنفسه في الأوساط الموسيقية التي عرفها من كثب، إذ يورد مثالاً على قوله يتعلق بخرينيكوف الذي كان عيناً لستالين وفهم ما يريده سيده. ففي حكاية يرويها الموسيقي هنا يخبرنا كيف أن “عالم موسيقى من موسكو روى لي مرة أنه ألقى محاضرة حول الموسيقيين السوفيات امتدح فيها سيمفونيتي الثامنة، فما كان من خرينيكوف إلا أن هرع إليه والغضب يأكله، بعد فروغه من محاضرته صارخاً، “هل تعرف هذا الذي تمتدحه؟ إنه شوستاكوفيتش الذي ما إن ننتهي من الحلفاء حتى نصفي حسابه…”.