خير تعريف بمارسيلو سڨيرسكي، أقوال له وأفكار طرحها في كتبه ومقالاته المتفرّقة، ولم أجد أفضل لإيصال أفكاره من اصطفاء بعضها، وهي على قدرٍ من الفرادة والمنهج التفكيكيّ المميّز، إذ يلفتنا إلى مسائل لم يتناولها الباحثون من قبل، كمسألة ” التنزّه ” ووظيفته في الأيديولوجيا الصهيونية داخل الكيان. لكنّني أمرّ بدءًا على مضمون كتابه “ما بعد إسرائيل – نحو تحوّل ثقافي” After Israel – Towards cultural – Transformation الذي صدر عام 2014، وفيه مثل هذا الكلام البليغ: “نحن لا نتحرّك من البيت إلى المدرسة إلى الجيش في قطاعات سرية، نحن نسكن كل هذه المجالات في آن واحد، بسبب ارتباطها بمركز مشترك. قد نفكر بأننا في مدرسة، أو في بيت، لكننا نصبح جنودًا، مواطنين إقصائيين، شعبًا مختارًا، نصبح صهاينة”. يؤكد الباحث الجريء في كتابه المميز والفريد على أنّ المشروع السياسي الصهيوني غير قابل للإصلاح، فالمجتمع الإسرائيلي اليهودي لقّح نفسه بنجاح ضدّ التفكير الأخلاقيّ والسياسيّ. يكتب، قبل المقدمة، وتحت عنوان “بيان”: “كانت إسرائيل فكرة سيئة منذ بدايتها، يوم تمّ تجاهل حياة اليهود المندمجين في المجتمعات المسلمة تجاهلًا تامًا، من قبل الصهاينة الأوروبيين. تحطّمت النوايا الطيبة المتعلقة بتأمين وطن في فلسطين لليهود المضطهدين، بضربة واحدة، باللحظة عينها التي فرضت فيها الصهيونية طرد الفلسطينيين من وطن أجدادهم”، مؤيّدًا إيلا شوحط بأنّ الصهيونية لم تكن يومًا حركة تحرّر لسائر اليهود، ومؤكدًا عدم وجود يهودية وصهيونية إسرائيلية واحدة كاملة وموحّدة، كمشروع تاريخيّ وسياسيّ، فالصهيونية في هذا المعنى لا يمكن استعمالها كمفهوم يشمل جميع اليهود.
تنبع أهمية هذا الكتاب من تقديمه تحليلًا ثقافيًا نقديًا لأساليب تشكيل “الذات الإسرائيلية” من خلال أربعة أنماط مركزية: المتنزّه، المدرّس، الوالد، الناخب. وينطلق من لحظة النكبة العنيفة سنة 1948 واصفًا إيّاها بالاستعمار الكولونيالي لفلسطين، كذلك احتلال الضفة الغربية وغزة والقدس عام 1967، لافتًا إلى تحلّل الإسرائيليين من تحديد هوية الكارثة أو من الاعتراف بأنّها خاصة بهم، ومبيّنًا أن سائر اليهود الإسرائيليين متورّطون في استعمار فلسطين ولا بدّ من تحمّلهم مسؤولية هذا الاستعمار، فمعظم اليهود في “إسرائيل” ينفّذون، في تعبيره، نشاط الصهيونية وسياساتها بعقولهم وأجسادهم. ويجادل بأن الصهيونية ليست مشروعًا تاريخيًا سياسيًا بل سلسلة ممارسات معاصرة، ويرى أن “ما بعد إسرائيل” (يقصد بعنوان كتابه نهاية المشروع الصهيوني ونشوء دولة واحدة للجميع، عربًا ويهودًا) هو عملية فك الارتباط مع الممارسات الصهيونية، واستكشاف طرائق أخرى من الوجود.
أمّا التنزّه في العقيدة والممارسة الصهيونيتين فيعني “أنّ الإنسان يحتاج إلى غزو الأرض بقدميه”، وأنّ الملامح الأيديولوجية والجسدية للتنزّه الصهيوني تغرس شيئًا لا يمكن أن يقوم بالروابط التقليدية بين اليهود في الشتات وعائلاتهم وأصدقائهم في “إسرائيل”. يولّد التنزّه تأثيرًا يجعل الناس قادرين على شعور أقوى ارتباطًا بالأرض عن طريق الجسد والتدفق العاطفي المستمرّ. إنّها “ذاكرة جسدية” تُبنى عمدًا. يُحمِّل التنزّه جسد المتنزّه ماضيًا توراتيًا وماضيًا للرائد الصهيوني المثابر المقدّم كمثال، فيعاد تجسيد كل ذلك في جسد المتنزّه الصهيوني ليغدو جنديًا.
“يؤدي الآباء دورًا مركزيًا في صهينة أبنائهم وعسكرتهم، من خلال سكوتهم عن الأدلجة العسكرية المكثفة في المدارس، بحيث يمسي الجيش والحرب ظاهرتين طبيعيتين في المجتمع”
وفي فصل “المدرّس” يكشف سڨيرسكي العلاقة بين وزارة التعليم الإسرائيلية والجيش الإسرائيلي من أجل تحفيز الشبّان على الخدمة العسكرية، حتى أن عسكريين ذوي رتب عليا يزورون المدارس للتحدث إلى التلاميذ، ويلقي مديرو المدارس محاضرات عن أهمية التجنيد اجتماعيًا. بذلك يشكّل التعليم الإسرائيلي مسارًا قوميًا عسكريًا. أمّا الفصل الثالث فمخصص لموضوع “الوالد” أو “الأب” توضيحًا للطبيعة العسكرية الأبوية في المجتمع الإسرائيلي.
يؤدي الآباء دورًا مركزيًا في صهينة أبنائهم وعسكرتهم، من خلال سكوتهم عن الأدلجة العسكرية المكثفة في المدارس، بحيث يمسي الجيش والحرب ظاهرتين طبيعيتين في المجتمع الإسرائيلي، والثرثرات العادية عن التجارب العسكرية أمام الأطفال أيام السبت والعطلة أمر مألوف يؤدّي دورًا خطيرًا في غرس العنصرية في نفوس الصغار. تملأ الحكايات العسكرية غرف المنازل، والأحاديث العسكرية عن الجيش تضاف إلى قائمة الحياة العامة. يرى الأطفال آباءهم يغادرون سنويًا لأداء خدمة الاحتياط ثم يرونهم عائدين ببزّاتهم العسكرية وسلاحهم. كذلك تخدم النساء اليهوديات إلزاميًا كل سنتين، وبذلك تكون الخدمة للجميع، ما يُدخل إلى وعي الأطفال أن الجيش مجرّد دائرة طبيعية أخرى من الحياة في مجتمع “إسرائيل”. يُعِدُّ الآباء أبناءهم للجيش مثلما يُعدّونهم للمدرسة (ذات يوم ستصبح جنديًا). لا فصل في هذا الكيان بين الدولة والعائلة، بين المدرسة والجيش، بين العام (الدولة) والخاص (العائلة)! الخاص هو امتداد للعام، والعكس صحيح. كلاهما في اتصال واندماج من خلال وظائف تنتج “رعايا”. العسكريتاريا الإسرائيلية حاضرة في كل مكان: جنود في الشوارع، أسلحة في الأماكن العامة…
في الفصل الرابع بعنوان “الناخب” يصف سڨيرسكي مواطَنَةَ الإنسان الفلسطيني في “إسرائيل” بالمواطنة الكسيحة، فالمواطنون الفلسطينيون يعانون إقصاءً بنيويًّا على المستوى العرقي في الحكومة وفي الحكم. ورغم أن المشاركة الانتخابية تمنح الكيان السياسي العضوي “صدقيةً” ما وتدعم الصورة “الديمقراطية” (الزائفة بالتأكيد) لدولة الاحتلال، فإنّ اقتراع اليهود يُنتج الغالبية التمثيلية التي تُصدر القوانين وتُقرّ السياسات وتنظّم الحقوق والمصالح. ويبرّر التصويت في الانتخابات استمرار مشاريع “إسرائيل” الوطنية، وتحديدًا منع عودة اللاجئين الفلسطينيين، والاضطهاد العسكري الفاشيّ للفلسطينيين في الضفة وغزة والقدس، والإقصاء الداخلي من الحكم، والمساواة الكاملة لمواطني الدولة باستثناء الفلسطينيين، والمنع البنيوي لحياة مشتركة بين العرب واليهود. مشاركة العرب انتخابيًا تضاعف حصص “إسرائيل الديمقراطية” في السوق العالمية.
مظاهرة في هارفرد تنديدًا بالإبادة الإسرائيلية في غزة (Getty)
منقّبًا في كتابات سڨيرسكي المتفرقة، أتوقف في بعض مقالاته عند أفكار مميّزة، مرتفعة النبرة، صادقة، رافضة، ومدافعة عن الحق الفلسطيني، مستهجنةً الظلم والموت الرهيبين اللاحقين بالشعب المظلوم واللذين بلغا ذروتهما في إبادة غزة. ففي مقالة له في “ميدل إيست آي” بتاريخ 20 مايو/ أيار 2018، يكتب: “إن العمود الفقري للمشروع الصهيوني يتمثل في التعبئة الاجتماعية للمواطنين الإسرائيليين. إنّ مشهد الجنود الإسرائيليين وهم يحتفلون بقتل الفلسطينيين العزّل فيما يتوجه آخرون إلى شرفات موقتة لمشاهدة إطلاق النار على المتظاهرين الفلسطينيين – كأنهم في سينما في الهواء الطلق – يُظهر مدى انتشار الغرغرينا الاستعمارية في الجسم الاجتماعي الإسرائيلي. ويشكل اليهود الإسرائيليون العمود الفقري لهذا المشروع، إلّا أنّ يهود الشتات هم خزّانه. أينما تنبت المعارضة اليهودية فإنّ شبح الصهيونية موجود هنا لسحقها. كل الوسائل محلّلة: المحاكم الحاخامية في إسرائيل قد تمتلك قريبًا سلطة غير مسبوقة على اليهود غير الإسرائيليين”. وإذ يعود تاريخ المقالة إلى عام 2018 فإن المشهد في غزة لم يكن بفداحة اليوم ومأساويته، بيد أن سڨيرسكي يكتب مذّاك: “لا يكتفي قناصة الجيش الإسرائيلي باتباع سياسة إعدام المتظاهرين الفلسطينيين على حدود غزة، بل إن الحكومة الإسرائيلية تبرّر ذلك أيضًا، معلنةً أن احتجاجات غزة تشكل حالة حرب (…) عندما يبرّر المرتكب جرائمه ويحتفل بها فإن مساحة الحوار تُغلق.
“منقّبًا في كتابات سڨيرسكي المتفرقة، أتوقف في بعض مقالاته عند أفكار مميّزة، مرتفعة النبرة، صادقة، رافضة، ومدافعة عن الحق الفلسطيني، مستهجنةً الظلم والموت الرهيبين اللاحقين بالشعب المظلوم”
يجب عزل إسرائيل حتى تمتثل للقانون الدولي، على النحو الذي تطالب به حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات BDS”. وبنباهة يلفت سڨيرسكي إلى “أنّ التهديد الذي يمثّله الفلسطينيون لإسرائيل لا يكمن في أفعالهم، فمن وجهة النظر الصهيونية، وجود الفلسطينيين في حدّ ذاته مظهر من مظاهر الحرب”.
في الموقع نفسه (ميدل إيست آي) وبتاريخ 25 يناير/ كانون الثاني 2018، ينتقد بشدّة الإعلام الإسرائيلي الذي يراه صدى للمجتمع: “من المؤكد أن وسائل الإعلام الإسرائيلية ليست فقاعة غضب داخل مجتمع محبّ. إنها رجْع صدى لكل المجالات الأخرى في المجتمع”. وفي جانب آخر يضيف في مقالته: “إن وحشية المحرقة اليهودية لم تقضِ على كامل المخزون العاطفي. لقد نجح بعض اليهود في العالم – بسبب تجاربهم المروّعة في أوروبا – بخلق مكان للحب العالمي، فتركوا لنا بذلك إرثًا للعالم مفاده: لقد نجونا من الهولوكوست وتغلّبنا على الكراهية التي سادت تلك المحرقة. ولكن ليس هذا حال إسرائيل. لقد استغلت الصهيونية المحرقة اليهودية كذريعة للعنف اليهودي، والإسرائيليون من خلال احتضان كارثتهم وتكريس حياتهم لممارسة القمع، يتخلّون عن فكرة التخلص من مأساة الهولوكوست. بعبارة أخرى، تحوّلت اللعنة إلى نعمة”. لعنة الهولوكوست الموظفة والمستغلّة صهيونيًّا تحوّلت إلى نعمة استثمار، في معادلة سڨيرسكي.
عن موضوع المحرقة نفسه، نقرأ لسڨيرسكي مقالة حديثة في موقع “أرينا Arena” ألهمه إيّاها فيلم المخرج اليهودي البريطاني جوناثان غلايزر “منطقة الاهتمام” The Zone of Interest (2023) الحائز أوسكار أفضل فيلم، فرغم أن غلايزر يعالج موضوع الهولوكوست من “خارج حقل الصورة” بحسب مفردات اللغة السينمائية، إلّا أنّه صاحب خطاب إنسانيّ عَالي النبرة ولم يتوانَ حتى في حفل الأوسكار عن استنكار الإبادة التي تحصل في غزة، ما تسبّب بصدمة للصهاينة والدوائر المحيطة بهم في عقر الدار الأميركية. وكان فيلم غلايزر ملهمًا لمارسيلو سڨيرسكي ليكتب: “يلفت غلايزر انتباهنا إلى الاستمرارية بين الماضي الوحشيّ والحاضر الوحشيّ. ولكنّ هذا الارتباط المنقطع باستمرار لا يعود فحسب إلى قدرتنا المذهلة على التكيّف مع كل شيء، بما في ذلك الإبادة الجماعية وفساد إحساسنا الأساسيّ بالخير والشرّ (…) لقد فشلنا في التفكير في المحرقة بكونها إشارة تحذيرية لكل الممارسات المادية للقتل الجماعي، والنتيجة المترتبة على ذلك تتجلّى في عجزنا عن الربط بين الأهوال ورؤية أوجه الشبه والقواسم المشتركة بين أشكال مختلفة من القتل الجماعي، وبالتالي الردّ الفوري على وقوعها (…) إننا نبدو مستعدين للتكيّف مع الإبادة الجماعية، بل إنّ العديد منّا باتوا غير قادرين على تقييم الإبادة الجماعية والاعتراف بها لدى مواجهتها. إن فيلم غلايزر يدعونا الى استدعاء إحساسنا المفقود بالذعر والرعب في مواجهة القتل الجماعي. من خلال تأكيده على استمرار الوحشية البشرية، يفتح الفيلم الباب أمام المزيد من التأمّل في أوجه الشبه في ما يتعلق بمرتكبي تلك الأفعال، والمؤيّدين السلبيين، والمراقبين الصامتين. أين كان أجدادك خلال الحرب؟ إنّه السؤال الذي يتردّد على لساني حين أقابل ألمانيًا. وبغضّ النظر عن الجهود التي تبذل للابتعاد عن الممارسات والمعتقدات التي خلّفها ذلك الإرث، فإنّ حجم الرعب مرتبط على نحو لا يُمحى بالمجتمع الذي أنتج الإرث ذاك. وسوف يرى الإسرائيليون قريبًا أن نظرة مماثلة سوف تواجههم، بصرف النظر عما إذا كانت محكمة العدل الدولية قد أثبتت النية ورأت أنّ ممارسات إسرائيل تندرج ضمن تعريفات الإبادة الجماعية أم لا (…) وعلى نحو أكثر عمومية، فإن ما يثبت صحة القياس هو طبيعة العتبة التي تمّ تجاوزها، والمجموع التاريخي الذي تمّ تجاوز هذه العتبة من خلاله. والمجموع التاريخي هو مجموع كل الممارسات، قبل النكبة (1948) وبعدها، التي فرضها الاستعمار الصهيوني على الشعب الفلسطيني منذ مطلع القرن العشرين. أما العتبة التي تمّ تجاوزها فتكمن في تفاصيل الرعب. ولتوضيح الوحشية المتدحرجة: منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023 وحتى منتصف مارس/ آذار 2024، لقي أكثر من واحد وثلاثين ألف شخص من سكان غزة حتفهم على أيدي الجيش الإسرائيلي، وبينهم إثنا عشر ألف طفل. كما دُمّر ما لا يقل عن نصف المساكن في قطاع غزة، وتتخذ معسكرات الموت أشكالًا متعددة: لنفكّر في آلاف المدفونين تحت الأنقاض، على مسافة بضعة كيلومترات فقط، محاطين بالجنود والدبابات والمركبات المدرّعة. هذه هي غزة اليوم، حيث يُستخدم التجويع سلاحًا، ويبدو أن القضاء على الحياة في غزة هو الهدف. هنالك مكان خاص في الجحيم محفوظ لرؤساء الدول الذين خفّضوا التمويل المخصص للاجئين الفلسطينيين. إنّ الإسرائيليين لا يستطيعون الاختباء وراء أكتاف دولتهم، ولا يفصلهم جدار من الجهل عن الجرائم التي يرتكبها أقاربهم وأصدقاؤهم وجيرانهم في القطاع. الواقع أنّ التدمير يُحتفى به. أمّا الأعذار فهي غير ذات صلة، وغير مناسبة، وبذيئة. إن الأيام التي كان الإسرائيليون قادرين فيها على السفر حول العالم من دون أن يزعجهم أحد، قد ولّت. سوف نجتذب نحن الإسرائيليين تلك النظرة المزعجة التي كانت تخصّص لمرتكبي الجرائم. أين كنت؟ سيبقى هذا السؤال على كل لسان”.
على وقع هذه الكلمات الأخيرة، يمكن براحة ضمير ضمّ إسم مارسيلو سڨيرسكي إلى قائمة اليهود الإنسانيين، النبلاء، الذين تزيدنا شهاداتهم من الداخل ثقة بأحقية قضايانا وبالبوصلة الصحيحة التي نهتدي بها على درب الفكر والالتزام.
٭ناقد وأستاذ جامعي من لبنان.