تتمحور هذه المبادرة حول سؤال جدوى الفن ضمن الواقع الفلسطيني (العتبة)
في ظلّ المحو الثقافي الذي يهدّد التراث والهويّة الفلسطينيين، تأتي العروض الموسيقيّة التي تنظمها مبادرة العتبة (Gradus)، لتعيد تعريف العلاقة بين الموسيقى والمقاومة، ولتحكي قصصاً يتردّد صداها بين الماضي والحاضر. تتنوّع هذه العروض بين التأليف الموسيقي المشترك والاستكشاف الفني الذي يجمع الموسيقيين والكتّاب معاً، ليكون الإبداع مساحة للصمود والتعبير.
تتمثّل مبادرة العتبة التي تشرف عليها وتديرها المؤلفة الموسيقية وعازفة البيانو، دينا الشلة، في منصة لإنتاج موسيقى جديدة تعكس الواقع الفلسطيني، وتعزّز التعاون الفني بين الموسيقيين. تأتي هذه المبادرة في إطار برنامج سنوي يُنظّم بالشراكة مع مركز خليل السكاكيني الثقافي، وبتمويل من الصندوق العربي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية.
تُنتج المبادرة حالياً سلسلة عروض موسيقية بعنوان “تعبيرات في المقاومة الثقافية”، وتهدف إلى منح الموسيقيين فضاءً حرّاً للتعبير عن واقعهم والتفاعل مع الظروف التي يمر بها الشعب الفلسطيني. تتألف السلسلة من 12 عرضاً موسيقياً تقدم مؤلفات جديدة صُمّمت خصّيصاً لهذا المشروع. منذ انطلاقها في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، قُدّمت حتى الآن ستة عروض، استكشفت كل منها عوالم صوتية وأساليب إبداعية متنوعة.
انطلقت “العتبة” عام 2017 بوصفها مبادرةً لإقامة العروض الموسيقية التي تركز على التأليف الجديد، فتسعى إلى إنتاج موسيقى بجودة عالية لتوثيق الزمن الذي نعيشه. ترى دينا الشلة أن التوثيق الموسيقي لحاضرنا هو تحدٍّ كبير، إذ يواجه الموسيقيون صعوبة في العثور على أصواتهم الخاصة وسط الاعتماد على الفلولكلور. تشدد المبادرة على ضرورة الاستمرارية في الإنتاج الموسيقي داخل فلسطين، ودعم الموسيقيين المحليين في مساعيهم إلى خلق محتوى جديد يعكس الواقع الاجتماعي والسياسي. تأتي سلسلة “تعبيرات في المقاومة الثقافية” ردّ فعل مباشراً على التحديات الحالية، فتوظّف الموسيقى أداة للتوثيق والتعبير عن التجربة الفلسطينية.
شهدت المبادرة خلال العامين الماضيين نقلة نوعية بفضل توفر دعم مادي مكّنها من الاستمرار في الإنتاج، ودفع مستحقات الموسيقيين، وتنظيم ورش ومحاضرات في الموسيقى. من بين هذه الأنشطة، محاضرات قُدّمت في مؤسسة القطان بمشاركة موسيقيين بارزين مثل أحمد الخطيب، وكاميليا جبران، وعيسى بولص، وورش تأليف موسيقي أقيمت في مدينتي بيت لحم ورام الله.
واجه الفنانون في بداية حرب الإبادة على قطاع غزة صعوبة في تقديم أعمالهم وسط اعتقاد سائد بأن الموسيقى مجرد أداة احتفالية لا تعبر عن الواقع. تقول الشلة: “سلسلة تعبيرات في المقاومة الثقافية أثبتت العكس، فمنحت الموسيقيين مساحة للتعبير عن الإبادة، والخوف، والفقد، والأسر، والقهر، والظلم، والنزوح والشتات، والمقاومة من خلال الوجود والاستمرار في الإبداع. برزت هذه السلسلة لتثبت أن الموسيقى ليست مجرد احتفال، بل وسيلة قادرة على نقل المشاعر والتجارب الحقيقية بصدق وعمق”.
ومن خلال هذه العروض، سُلّط الضوء على مواضيع متنوعة، أهمها المقاومة بوصفها حالة حياة، ومنها “أنا لست في غرفة ضيقة” (أكتوبر/تشرين الأول 2024). عرض يروي قصة من قصص الأسر في فلسطين، يجمع عدداً من الموسيقيين، منهم إبراهيم نجم، ونسيم ريماوي، وفارس أمين، وحسام برهم، ومجدل نجم، مع الكاتبة داليا طه. يهدف العرض إلى استكشاف قوة الموسيقى كأداة مقاومة. عبر مونولوغات قصيرة، يستعرض العمل كيف شكّل الغناء والتأليف وسيلة للأسرى لتجاوز ظلمة الزنازين، مؤكّداً دور الفن في مواجهة القمع.
كذلك، قدّمت فرقة غيلان عرض “النكبة” (نوفمبر 2024)، الذي يستكشف قدرة الموسيقى على الصمود رغم الدمار. عبر عشر مقطوعات يؤديها الإخوة كنعان (معن ومحمد)، ينتقل العرض بين ذكريات الطفولة في سلوان والحاضر، ليعكس علاقتهم بالهوية والتاريخ. تتنوع الألحان بين الحنين والواقع القاسي، متسائلة: كيف تستمر الموسيقى وسط الكابوس؟ وهل يمكنها أن تبقى شاهدة على ما يُمحى؟
في ديسمبر/كانون الأول 2024، قدّمت دينا الشلة والمؤلف الموسيقي روبن برلتون عرضاً بعنوان “ومع ذلك، ما زلت أشعر بكِ في كل مكان”. يستلهم هذا العمل أحداث الواقع الفلسطيني الراهن، ويطرح تساؤلات حول تأثير العنف والدمار على الذكريات، والعقول، والتاريخ، والمخاوف، والرغبات، سواء الشخصية أو الجمعية، ويستكشف لحظات تأملية بين القرارات الفردية للتعامل مع الألم، والتعبيرات الأوسع عن الحزن الجماعي. موسيقياً، يقدم العمل مزيجاً من الألحان المتناثرة، والأشكال المتكررة، والأنغام المتضاربة، بتنسيق موسيقي يتراوح بين التأملات الهادئة والتراكيب الصوتية الكثيفة والمشحونة، ما يعكس الإحساس بالفقد والتجاوز.
تحت عنوان “أصداء المقاومة”، قدّم طارق عبوشي، في يناير/كانون الثاني الماضي، عرضاً بمشاركة كل من عبد الرحمن علقم، وتشارلي رشماوي، ووسيم قصيص. يركز العمل على استكشاف الإرث الموسيقي الفلسطيني، فيجد طارق عبوشي في هذا الموروث جمالاً موسيقياً وعمقاً شعرياً فريداً. تعكس هذه الثروة الثقافية، المتشكلة عبر قرون من الطقوس والاحتفالات، روح الشعب الفلسطيني. وككل موسيقى فولكلورية، تعكس أيضاً المشهد السياسي والاجتماعي الذي يحيط بها.
خلال الشهر الماضي، وتحت عنوان “من ماضي البكائيات لحاضرنا” قدّمت مايا خالدي عرضاً من تأليفها، بمشاركة سارونا، وفارس أمين، وزينة عمرو. يتقصّى العمل طقوس الفقدان في التراث الفلسطيني. يعود المؤلَّف إلى تقاليد البكائيات، إذ كانت النساء يقدن الغناء والنحيب في مراسم العزاء، وهو إرث بدأ في التلاشي. من خلال البحث في هذا التاريخ النسائي، تعيد مايا خالدي إحياء كلمات خمس أغنيات عن طقوس الموت، مؤلفة لها موسيقى جديدة تعكس تجربة الفقدان والصمت الذي غلف هذا الصوت.
بالنسبة لدينا الشلة، الموسيقى ليست احتفالية فقط، بل هي فعل توثيق ومقاومة، مؤكدة أن “العتبة” أتاحت للموسيقيين الفرصة لتقديم رؤى فنية صادقة تعبّر عن الواقع من زوايا متعددة سواء عبر استكشاف مشاعرهم من خوف وفقد وقهر، أو حتى الاحتفاء بالحياة كوسيلة للصمود والاستمرارية. تقول: “قررت أن أجمع زملائي الموسيقيين في هذه السلسلة لأننا نريد أن نتحدث عن هذا الزمن، أن نوثقه، أن نحاكي جمهورنا ونوصل أصواتنا. نحن هنا، والموسيقى هي لغتنا”.
تمثل “العتبة” منصة حيوية لدعم الإبداع الموسيقي في فلسطين، فتتيح للفنانين التعبير عن واقعهم بابتكار. من خلال التركيز على التوثيق الموسيقي، وتعزيز التعاون الفني، وتنظيم العروض والمحاضرات، وتسهم في خلق فضاء موسيقي يعكس القضايا الثقافية والاجتماعية الملحّة، ويعزز من دور الفن في سرد الرواية الفلسطينية المعاصرة. تبرز “العتبة” مع استمرار الاحتلال في محاولاته لطمس الثقافة الفلسطينية كمبادرة ضرورية تعزز الهوية الموسيقية الفلسطينية، وتوثق اللحظة الزمنية الراهنة من خلال أعمال موسيقية أصيلة. “العتبة” ليست مجرد مبادرة، بل مساحة حرة للموسيقيين الفلسطينيين، إذ يمكنهم التعبير عن تجاربهم، وتحدياتهم، وأحلامهم من خلال الموسيقى. وبينما تستمر العروض في تقديم أصوات جديدة تروي قصصاً من قلب الواقع الفلسطيني، يبقى السؤال مفتوحاً: كيف يمكن للفن أن يكون أداة للتغيير والمقاومة؟