أيبدأ التعافي حقًّا عندما تخمد أصوات المدافع، أم إن الصمت يخفي جروحًا أعمق؟ أيمكن لأدوات الإعلام الاجتماعي، بما في ذلك الأدب والمسرح والفنون، أن تصبح أدوات حقيقية في علاج المجتمعات الخارجة من أهوال الحرب، أم إنها مجرد مسكنات مؤقتة لا تلبث أن تتلاشى أمام ثقل الماضي؟
في ألمانيا ما بعد الحرب العالمية الثانية، لم تكن إعادة البناء مجرد مسألة ترميم للمدن المدمرة، بل كانت عملية شاملة لإعادة تشكيل الهوية المجتمعية، حيث مارس الأدب، والمسرح، والفن البصري، دورًا مركزيًّا في مواجهة الماضي وصياغة المستقبل.
اليوم، تُطرح أسئلة مشابهة في سوريا، حيث يحاول الفن والإعلام الاجتماعي إعادة سرد الأحداث وصياغة هوية وطنية جديدة. ولكن، هل يمكن للإعلام الجديد أن يتجاوز التوثيق ليصبح أداةً فاعلة في بناء مجتمع جديد؟ وإن كان كذلك، فكيف؟
لم تكن إعادة الإعمار في ألمانيا مجرد عملية هندسية، بل كانت تحمل أبعادًا اجتماعية واقتصادية، حيث تم تجاهل بعض الطبقات في عملية البناء، ما دفع الأدب والفنون إلى تسليط الضوء على هذه الفجوة
الإعلام كمرآة للدمار
الذاكرة الجماعية والمحاسبة الأخلاقية: إحدى أهم وظائف الإعلام بعد الحرب هي الحفاظ على الذاكرة الجماعية، ليس فقط كوسيلة لتوثيق الجرائم والانتهاكات، بل أيضًا لمساءلة المجتمع عن دوره في هذه الكوارث.
في ألمانيا، برزت هذه الفكرة بقوة في “أدب الأنقاض” (Trümmerliteratur)، حيث كتب الأدباء ليس فقط عن المباني المدمرة، بل عن النفوس المحطمة.
في مسرحية “دراوسن فور دير تير” لـ”ولفجانج بورشرت”، تجسدت معاناة الجنود العائدين، العالقين بين الشعور بالذنب والرفض الاجتماعي. غونتر غراس، في روايته “طبل الصفيح”، كشف بسخرية كيف حاول المجتمع الألماني دفن الماضي تحت ركام المباني الجديدة، رافضًا مواجهة الحقائق المؤلمة. أما باول تسيلان، فقد حملت قصائده مثل “فوج الموتى” أصداء المحرقة، حيث استخدم الشعر ليس فقط للتعبير عن الألم، بل لمواجهة الحقيقة دون مواربة.
2. العدالة الاجتماعية وإعادة الإعمار: لم تكن إعادة الإعمار في ألمانيا مجرد عملية هندسية، بل كانت تحمل أبعادًا اجتماعية واقتصادية، حيث تم تجاهل بعض الطبقات في عملية البناء، ما دفع الأدب والفنون إلى تسليط الضوء على هذه الفجوة. تناول هاينريش بول هذا الجانب في أعماله النقدية، مثل “آراء مهرج”، حيث هاجم نفاق المجتمع الألماني بعد الحرب، وسلط الضوء على معاناة الأفراد الذين رفضوا التكيف مع مجتمع يحاول نسيان ماضيه. في المسرح، قدّم بيرتولت بريخت مسرحيته “مادر كوراج وأطفالها”، التي حملت بعد الحرب بُعدًا جديدًا: أنحن ضحايا الحروب أم مشاركون في استمرارها؟ كانت المسرحية محاكمة علنية لقيم المجتمع، لكنها تركت سؤالًا مفتوحًا: أستوعب الألمان الدرس أم اكتفوا بالتصفيق؟
3. إعادة تعريف الهوية الوطنية: بعد الحرب، كان هناك صراع حول تعريف الهوية الألمانية الجديدة، خاصة مع انقسام البلاد بين الشرق والغرب. الأدب والمسرح لم يكونا مجرد وسيلتي تعبير، بل كانا أداتين لفهم التحولات الاجتماعية والسياسية العميقة.
في روايتها “تقسيم السماء”، سلطت كريستا فولف الضوء على الانقسامات بين ألمانيا الشرقية والغربية، مجسدة الصراعات الداخلية للأفراد الذين يعيشون في ظل هذه التحولات.
في الفن التشكيلي، كان أوتو دكس أحد أبرز الأسماء التي رفضت التجميل، حيث رسم لوحات صادمة جسّدت أهوال الحرب، في محاولة لمواجهة الحقيقة دون تجميل.
في سوريا، تنتشر المبادرات الفنية والأدبية التي تحاول تسليط الضوء على معاناة المجتمع، لكن السؤال الأهم هو: أيقتصر دور الإعلام الجديد على التوثيق فقط، أم يمكنه أن يصبح جزءًا من عملية العلاج المجتمعي؟
ما علاقة هذا بسوريا؟ هل يعيد التاريخ نفسه؟
اليوم، تبرز هذه الأسئلة مجددًا في سوريا، حيث يحاول الفن والإعلام الاجتماعي سد الفجوة بين توثيق الماضي وبناء المستقبل. لكن، هل يستطيع الإعلام أن يكون أداة لإعادة الإعمار النفسي والاجتماعي؟
الإعلام الجديد: توثيق أم معالجة؟
في سوريا، تنتشر المبادرات الفنية والأدبية التي تحاول تسليط الضوء على معاناة المجتمع، لكن السؤال الأهم هو: أيقتصر دور الإعلام الجديد على التوثيق فقط، أم يمكنه أن يصبح جزءًا من عملية العلاج المجتمعي؟
هل يمكن للإعلام الاجتماعي أن يصبح مساحة للحوار، بدلًا من أن يكون مجرد أرشيف رقمي للذكريات المؤلمة؟ كيف يمكن استثمار الثورة التقنية لإعادة بناء هوية إنسانية ووطنية قوية؟ من سيصنع الإعلام الجديد في سوريا؟ وعلى أي أسس؟ كيف سيتم إنتاج محتوى يعالج الصدمات والمفاهيم المُشوهة بعين المسؤولية المجتمعية وليس بعين الشفقة؟ أم سيرى السوري مجددًا أفلامًا تعرض مأساته التي يعيشها بطريقة مؤثرة أو ساخرة، بدون تقديم أي معالجة حقيقية؟
في النهاية، الإعلام ليس مجرد عملية نقل وتوثيق للأحداث، بل هو أداة لصناعة قيم وهُوية الإنسان والمجتمع.. فهل سيتمكن الإعلام السوري من تجاوز دور المراقب إلى دور الفاعل في تشكيل مستقبل أكثر وعيًا وإنسانية؟
اليوم، في ظل الحديث عن الإعلام الجديد، أيكون الإعلام مجرد تقديم حكايات مع مؤثرات بصرية، أم الإعلام معالجة عميقة وتخصصات مختلفة تحتاجها اليوم سوريا، تمامًا كما تحتاج التخصصات الأخرى؟
هناك الآلام النفسية والاجتماعية، والمفاهيم المُشوهة والتجارب القاسية، أطفال مجهولو النسب، أيتام، نساء تعرضن للاغتصاب والتعذيب، هناك فقر وبطالة وطبقات اجتماعية متفاوتة.. فمن سيعالج ويرمم ويبني الإنسان، ومجتمعًا كرامة الإنسان فيه غير مرتبطة بالمستوى الاجتماعي والأكاديمي؟ ألا نحتاج أدوات إعلامية لتعريف اليتيم للمجتمع، وإزالة الصور النمطية حول الطفل اليتيم والنساء اللاتي خرجن من المعتقلات، ولأشياء أخرى غير ذلك؟
الإعلام اليوم هو القادر على الوصول لشرائح واسعة، قادر على تصحيح الصور النمطية والمفاهيم الخاطئة، وتعزيز ثقافة احترام الاختلاف، وربط العقد الاجتماعي السوري. ولكن كل هذا وأكثر يحتاج لبرامج متخصصة في كل مجالات وأدوات الإعلام، وبكل تأكيد الاستثمار بالسوشيال ميديا.
أم إن الدراما ستنتج مأساة اللاجئ بطريقة يصرف فيها المشاهد مزيدًا من المناديل التي قد لا يملكها حتى؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.