تعتبر وزارة الثقافة المصرية أنّ العام الحالي 2025 هو عام أم كلثوم بمناسبة مرور 50 سنة على رحيل السيدة التي قالوا عنها، حقيقة أو مجازاً، إنها الوحيدة التي استطاعت جمع العرب على شيء واحد عندما كانت الأسر والأصدقاء والأقارب يلتفون حول أجهزة الراديو من المحيط إلى الخليج وهي تقدم أغانيها في الخميس الأول من كل شهر.
عاشت أم كلثوم 76 عاماً، وبدأت حياتها الفنية في عمر الثالثة عشرة منشدة للتواشيح الدينية وساعدها حفظ القرآن الكريم في سن مبكرة على تكوين دراية كبيرة باللغة العربية وقدرة واضحة على نطق الكلمات وإخراج الحروف بصوت رقراق كالذهب بعد أن يمر بمرحلة الصهر ويتخلص من شوائب النحاس.
عاصرت “الست”، التي لقبت أيضاً “بقيثارة الشرق” و”شمس الأصيل” و”كوكب الشرق”، الكثير من التقلبات السياسية في مصر والمنطقة بما في ذلك الانتقال من الملكية إلى الجمهورية والحروب العربية مع إسرائيل. بالرغم من ذلك لا توجد دراسات بارزة تركز على أم كلثوم كحالة من حالات العلاقة “المستمرة والمتغيرة في شكلها وأهدافها من حين لآخر” بين الفن والسياسة.
يقول النقاد ومؤرّخو الفن إنّ أم كلثوم، بعد أكثر من 100 عام من ظهور أغانيها الأولى وبعد 50 عاماً من رحيلها، لا تزال تتربع على عرش الأغنية الشرقية.
قدمت أم كلثوم أغانيها باللغة العربية الفصحى وبالعامية المصرية وللشعراء العرب القدامى والمعاصرين وقدمت الأغنية الدينية والوطنية والعاطفية وأغاني المناسبات.
يقول كريم (24 عاماً) الذي كان يجلس في مقهى (أم كلثوم) بوسط البلد بالقاهرة بينما تتردد في الخلفية أغنيتها الشهيرة (أنت عمري) “مهما كان إيه الأغنية إللي بتسمعها تحسها معمولة ليك أنت”.
كذلك كان لعقلية أم كلثوم دور في صناعة أسطورتها الباقية حتى الآن، فيرى ميشيل مدحت (27 عاماَ) الذي كان أيضاً يجلس في نفس المقهى أنها “كانت بتختار الكلمات إللي بتغنيها ودي أكتر حاجة بتميّز أم كلثوم، ما كانتش بتغني أي حاجة وخلاص”.
أما المتخصصون فلهم آراء أخرى ويلقون الضوء على جوانب قد تخفى على الجمهور العادي. يشير الصحفي سيد محمود الناقد بمجلة الأهرام العربي إلى الحضور الطاغي أو ما أصبح يطلق عليه “الكاريزما”.
يقول إنّ “ثومة” كانت تتمتع بالقدرة على التجديد والابتكار والتنويع ذلك لأنها “مش معزولة عن عصرها، وده إللي خلاها دايما موجودة… لأنها عارفة الجملة الجديدة فين وبتروح لها”.
ويضيف أنّها كانت حالة فريدة بحضورها الطاغي في ليل القاهرة وأن “أم كلثوم بتقدر تصل إليك في القاهرة من كل مكان، إما من بلكونة الجيران أو من سائق تاكسي أو من سيارة عابرة أو بتلاقيها في مطعم أو مقهى شعبي. الحضور ده مش متكرر لأي صوت تاني، لأنه مش حضور مبني على الصدفة. مع أم كلثوم أنت مش محتاج للصدفة”.
من جهته يشير الفنان فاروق سلامة عازف، الأكورديون بفرقة أم كلثوم، إلى عنصر المثابرة الذي سمح لعطائها بالاستمرار ولنجمها بأن يلمع طويلاً في سماء الشرق. يقول: “هي بتعمل بروفات 7 أيام 8 أيام، قبل الحفلة وبعد الحفلة، ما تغلطش في كلمة، ما تنساش حاجة”.
يقول الناقد الفني محمود عبد الشكور، في مقال في جريدة “الشروق” المصرية، عن أم كلثوم بعنوان (سيدة المونودراما الغنائية): “الطرب لا يشترط إلا الاستعراض الصوتى، بينما الأداء الدرامى يشترط الفهم والإحساس والمطابقة بين المعنى والتعبير، وعلى قدر المطلوب بالضبط، ثم ضرورة انعكاس ذلك على الوجه ولغة الجسد، وهذا ما كانت تفعله ثومة ببراعة فطرية ومصقولة معا، حتى قال (الملحن محمد) عبد الوهاب إنه لم تجتمع فى صوت مغنية أخرى هذه القدرة على التعبير عن القوة والضعف معا”.
ويضيف عبد الشكور: “كيف يمكن أن تشخص ثومة، صوتا وأداء، إحساس عاشقة فى العشرين، وهى تغنى ‘يا مسهرنى‘ بينما كانت قد تجاوزت وقتها سن السبعين؟!”
حالة تستعصي على النسيان
تصف ربة المنزل داليا محمد (47 عاماً) أم كلثوم بأنّها صوت يرفرف على حياتها ويصاحبها في كل أحوالها المزاجية.
وتوضح “اسمعها في كل وقت في النهار وفي الليل.. بتروقلي مزاجي وتخليني متسامحه مع الضغوط اللي حواليا.. حتى وأن بسوق عربيتي في الزحمة بسمعها بحس كأني طايرة (محلقة في الهواء) والدنيا رايقة وجميلة من حواليا.. يا حلاوتك يا ست وحلاوة صوتك”.
وتضيف “شوف أغانيها العاطفية لسه عايشة إزاي.. وأغانيها الدينية مع رياض السنباطي.. ملاحم مش مجرد أغاني.. حاجات عايشة من أكتر من 80 سنة”.
لم يحظَ فنان في العالم العربي كله بما نالته أم كلثوم من تكريم رسمي وشعبي.
وتوجد إذاعة مصرية تبث على الموجة المتوسطة تحمل اسمها. كما يتردد صوتها من إذاعات وقنوات تلفزيونية أخرى في مواعيد ثابتة يوميّاً. وهناك أيضاً إذاعات عربية وأجنبية تحمل اسم أم كلثوم أو كوكب الشرق مثل إذاعة صوت الغد – كوكب الشرق التي تبث من رام الله بالضفة الغربية المحتلة.
لم يرتبط الوجدان العربي “بالست” بسبب اللغة الفصحى في الكثير من أغانيها فحسب بل إنّ البصمة الأهم كانت في أغنياتها الوطنية التي ترفع الروح المعنوية في أوقات الأزمات والحروب خاصة بعد حرب 1967، مما زاد العلاقة متانة بينها وبين الجمهور.
من أشهر أغانيها الحماسية “طوف وشوف” و”مصر التي في خاطري” و”مصر تتحدث عن نفسها”. وعندما توفيت أم كلثوم شارك الناس في جنازتها بالألوف في عام 1975.
يعلق محمود على ذلك بقوله “وداع أم كلثوم هو كان جزء من التضامن مع مسيرة فنية كبيرة، الجنازة جات بعد سنوات قليلة جدا من انتصار أكتوبر. المصريين بيعتبروا أم كلثوم بطريقة أو بأخرى شريكة في انتصار أكتوبر. هي لم تغن لأكتوبر، لكنها غنت لحفلات المجهود الحربي لتعيد بناء الجيش المصري”، مشيراً إلى حرب أكتوبر تشرين الأول 1973.
ومن أشهر أغانيها في مسيرتها الطويلة “نهج البردة” و”سلوا قلبي” و”الأطلال” و”أنت عمري” و”قصة الأمس” و”ألف ليلة وليلة” و”الرضا والنور” و”حق بلادك” و”نشيد الجلاء” و”أغدا ألقاك” و”هذه ليلتي” و”من أجل عينيك” و”الحب كله” و”ثورة الشك”.
ومثلما غنّت للشعراء القدامى وشعراء العصر الحديث، شدت أيضاً بألحان زكريا أحمد وأبو العلا محمد ومحمد القصبجي ورياض السنباطي ومحمد عبدالوهاب ومحمد الموجي وبليغ حمدي وسيد مكاوي وكمال الطويل.
كانت أم كلثوم حالة فريدة صنعتها نشأتها وتربيتها الأولى وموهبتها الفذة والتزامها الشديد وتضافرت مع كل ذلك عوامل وظروف سياسية ومجتمعية ربطتها بالوجدان العربي كله وهو ما ضمن لها الاستمرار وجعلها حالة تستعصي بشدة على النسيان.