منذ انبثاق تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وتغلغلها العميق في صلب المعيش اليومي للإنسان، غدت موضوعا يشغل اهتمام الباحثين في ميادين مختلفة، لما لها من آثار هيكلية ممتدة على كافة مناحي الحياة، ولا سيما في نسق العولمة التي أفضت، بما يرافقها من تشابك بنيوي في الحقول الاقتصادية، وتداخل عميق في النظم الثقافية، وتداخل وظيفي في المنظومات السياسية، و التوجه نحو تأسيس تحولات هيكلية معمقة في مفهوم استراتيجي ومتطلب انساني جوهري و هو الأمن. هذا المدلول المركب و المتعدد الأبعاد، الذي يعد طابعا مفاهيميا وإجرائيا في آن واحد من حيث دلالاته، وتمظهراته، وماهية التهديدات التي باتت تتربص به داخل المجتمع الشبكي على حد تعبير مانويل كاستلز، الأمر الذي أسهم في إرباك الأساس النظري التقليدي الذي كان يؤصل للدولة القومية بوصفها الفاعل الحصري والمركزي في تحديد التهديدات الأمنية والتعاطي معها، ليفتح المجال أمام تصور أممي جديد يعيد هندسة مفاهيم القوة، ويعيد تركيب آليات الصراع، ويعيد صياغة ديناميات التفاعل في النسق الدولي المعاصر.
هذا التحول الذي يعتبر نقطة انعطاف حاسمة، حيث أعاد توطين مفهوم الأمن ضمن سياقات متعددة المستويات، لم تعد تنحصر في الامن القومي الكلاسيكي، بل أدرج ضمن مجالات متنوعة ترتبط بالاقتصاد، والثقافة، والبيئة، والتكنولوجيا، والمجتمع. ما جعل، مفهوم الأمن ينتقل من مرحلة كان فيها صلبا و مقيدا، إلى مفهوم سيال، تعددي الأبعاد، يعكس تركيبة شاملة و متغيرة تحكمها تدافعات العولمة ومقتضياتها، وتسارع التطورات التكنولوجية البالغة التعقيد، والانفجار المعلوماتي الذي أعاد تشكيل أنماط إدراك التهديدات الأمنية ومصادرها، وهو ما يستدعي إعادة التفكير في مداخل التحليل الأمني وآليات التعاطي مع الأخطار المستجدة ضمن إطار نظري أكثر شمولا وتركيبا.
وفي مجرى هذه التحولات التي يعرفها الحقل الأمني على الصعيد المغربي، سواء على مستوى بنيته المؤسسية و آليات اشتغاله الدلالية والمادية، يبرز موضوع الرقابة الشعبية على أداء العناصر الأمنية، كواحد من أبرز المؤشرات على تقاطع السلط داخل المجتمع، وتوسع دائرة المساءلة خارج قنواتها التقليدية.
ولعل المداخلة التي ألقاها السيد عبد الهادي الدكالي، رئيس المنطقة الإقليمية للأمن بخريبكة، خلال الندوة المنظمة من طرف المديرية العامة للأمن الوطني ضمن فعاليات المعرض الدولي للكتاب بالرباط، تحت عنوان “الشرطي والرقابة الشعبية عبر مواقع التواصل الاجتماعي”، تحاكي وعي المؤسسة الأمنية المغربية بطبيعة المرحلة الجارية، والتي ضبط حركيتها داخل فضائه الاستراتيجي، متجاوزا هذا المنعطف الاشكالي من تكتيك الإنفاذ، إلى الانتقال نحو رؤية مستقبلية اكثر تفاعلا و إنفتاحا على الفضاء العام، بكل امتداداته الرقمية والاجتماعية.
إن النقاش حول الرقابة الشعبية، حين يثار في العلاقة بين المواطن والموظف الأمني، لا ينبغي إستحضاره كمحور ظرفي أو سلوك خاص مرتبط بأوضاع عارضة، بل إنه يجسد تحولا منتظما في بنية السلطة المعنوية التي كان يحتكرها الفاعل الأمني، ويتم إعادة ترتيبها اجتماعيا من خلال وسائط جديدة، أهمها الفضاء الرقمي، الذي لم يعد مجرد قناة تعبير، بل أضحى بيئة مماثلة لإنتاج السلطة الاعتبارية والمشروعية الاجتماعية. هذا التحول يجد تفسيره داخل النظريات السوسيولوجية التي تناولت مفهوم السلطة الحديثة، ولا سيما ما جاء به ميشيل فوكو في حديثه عن “المراقبة والمعاقبة”، حيث يتغير فيها موقع السلطة من كونها سلطة مراقبة إلى كونها سلطة مرئية وخاضعة للمراقبة المتبادلة. فالموظف الأمني، الذي كان يمارس فعله داخل بنية مغلقة نسبيا، أصبح محكوما بوجود جمهور رقمي دائم المراقبة، يحمل هاتفا مزود بكاميرا، وجاهز لتصوير والنشر، والتقييم، واسقاط الاحكام.
وفي هذا الاطار، وجب استحضار التحول الجذري الذي عرفه مفهوم “العمومية الأمنية”، والذي لم يعد مقتصرا على أجهزة الدولة، بل أصبح منقسما بين فاعلين رسميين غير رسميين لم يتلقوا اي توجيه أو تأطير معين. فالفرد العادي، حين يوثق سلوك الموظف الأمني بالصوت والصورة، ويتداوله رقميا على أوسع نطاق، إنما يمارس، بشكل أو بآخر، وظيفة رقابية كانت إلى وقت قريب حكرا على أجهزة المراقبة الإدارية أو القضائية. وبالتالي، فإن البنية الجديدة للسلطة لا تشتغل فقط من الأعلى إلى الأسفل، بل تتوزع أفقيا ضمن شبكات رمزية متعددة، حيث ترصد عدسات الكاميرا كل فاعل اجتماعي ولا تستبعد أحدا، حتى وإن كان يحمل صفة الضبط والإنفاذ.
هذه الوضعية المعقدة تستدعي التمحيص و التحليل وتجاوز التوصيف السطحي، و اقتحام التداخل المستفيض بين التكنولوجي، والسياسي، والاجتماعي.
فالمسألة ليست مجرد توثيق لسلوك الموظف الأمني، بل هي إعادة ترتيب للعلاقة بين السلطة والمجتمع في عصر تتعارض فيه الحدود بين المجالين الواقعي والافتراضي. ويمكن في هذا الشأن العودة إلى مقاربة “ما بعد البنيوية” في فهم العلاقة بين القوة والمعنى، حيث تنتج الرمزية الأمنية، لا فقط من خلال النص القانوني أو البدلة النظامية، بل كذلك عبر ما يتداوله الناس، ويعيدون صياغته بصيغ بصرية ولغوية في الفضاء الرقمي. وهنا تتقاطع دلالة الأجهزة الأمنية مع شبكات التلقي الشعبي، لتنتج صورة مزدوجة بين الموظف الأمني الضامن المؤسسي للنظام العام من جهة، والضحية المحتملة من جهة أخرى.
هذا التداخل المعقد بين الوظيفة النظامية للموظف الأمني وموقعه المعنوي داخل المجتمع الرقمي، يخلق نوع من الضغط المستمر بين الأداء المهني كما هو مرسوم في الدليل الوظيفي، والتلقي الاجتماعي لهذا الأداء كما يتجلى في تعليقات وتدوينات وتسجيلات قد لا تحتكم إلى السياق أو الموضوعية. وهذا ما يجعل صورة الموظف الأمني، كما يفصلها علم النفس الاجتماعي، نتاجا للتمثلات المتغيرة، التي تعتمد في الغالب على وقائع جزئية، لكنها تدرج ضمن آلية تعرف في حقل علم الاجتماع بـ”التمثيل النموذجي”، أي تحويل الواقعة الجزئية إلى نموذج عام يحاكم عليه الكل.
ولأننا نعيش في ظل ما بات يعرف بالبيئة الاتصالية الجديدة، فإن الفعل الأمني لم يعد مجرد واقعة ميدانية، بل أضحى كذلك حدثا رقميا محكوما بمنطق التداول، حيث يمكن للواقعة الواحدة أن تنتقل من حيز محلي ضيق إلى حيز وطني وربما دولي في غضون ساعات. هذا التوسع في مجال التداول يمنح الرقابة الشعبية قوة دفع كبيرة، لكنه في الآن ذاته يطرح إشكالات معرفية ومهنية وأخلاقية، حول كيفية التحقق من من صحة المحتوى المتداول، و التساؤل حول ما اذا كان
المحتوى الذي يوثق بالصورة و ينشر يعكس حقيقة الواقع كما هي، أم أنه يحيلها على منطق الانتقائية والسرد المتحيز، ومحاولة فهم ما الذي يحدث حين تصبح منصات التواصل الاجتماعي بديلا عن التحقيق القضائي أو الإداري، ومتى تصبح الرقابة الشعبية نوعا من الصور التي تمثل العدالة الشعبوية الرقمية المفتقرة إلى معايير الإنصاف والتحقق.
في خضم هذه التساؤلات المطروحة، لا يمكننا تجاوز البعد السيكولوجي الذي يؤثر على الموظف الأمني، حين صار واعيا بانتقاله من بيئة العمل المقيدة، ومرهقا بأعباء الرقابة الاجتماعية الرقمية. فكل تدخل، مهما كان عاديا و اعتياديا، قد يتحول في عمزة من الزمن إلى مادة إعلامية يتم تداولها على نطاق واسع، وقد تحدث وقعا و أضرارا مهنية وشخصية جمة، قبل صدور أي حكم أو تقرير رسمي حتى. هذا الوعي الجديد بثقل النظرة الرقمية، قد يؤدي من جهة إلى ترشيد الأداء الأمني وضبطه، لكنه من جهة أخرى قد يؤدي إلى ما يسمى بالاحتراق الوظيفي، حيث يصبح رجل الأمن في حالة من القلق المستمر، يخشى فيها من سوء التأويل أكثر مما يخشى من الخطأ نفسه.
ولعل أخطر ما في هذه الوضعية، هو ما يمكن تسميته بـتفكك الهالة الرمزية للسلطة، حين يعاد تأويل فعل الموظف الأمني انطلاقا من صورته في الميديا الاجتماعية، لا من خلال موقعه القانوني أو وظيفته النظامية. وهنا ندخل منطقة معقدة تتعلق بإعادة تشكيل المخيال الجمعي حول السلطة الأمنية، حين لم تعد السلطة تشتغل بقوة الردع فقط، بل أصبحت مطالبة بالاشتغال أيضا بقوة الإقناع، والتواصل، والتفاعل الرمزي. وهو الأمر الذي يقود إلى إعادة تعريف الوظيفة الأمنية من منظور يتم فيه تضمين البعد الاتصالي والسوسيولوجي، لا بوصفه ملحقا بالوظيفة الأمنية، بل باعتباره مكونا بنيويا منها.
إن الحديث عن الرقابة الشعبية التي تطال الموظف الامني، في الوضع المغربي القائم، هو في جوهره حديث عن انتقال من سلطة عمودية إلى سلطة أفقية، ومن فضاء مغلق إلى فضاء مفتوح، ومن مشروعية مفترضة إلى مشروعية خاضعة لإعادة التفاوض الدائم. وهو حديث تفصيلي، عن إعادة رسم التوازنات بين المواطن والدولة، في عصرٍ تصاغ فيه السلطة لا فقط عبر القوانين، بل كذلك عبر الصور، والانطباعات، وسرعة التفاعل. هذه التطورات المحورية، تدفع المؤسسة الأمنية بتركيز جهودها ليس فقط في ضبط و تنظيم المجال، بل الاشتعال كذلك على إعادة بناء مشروعيتها في أعين المواطنين، لا من خلال الخطابات فقط، بل من خلال حضور فعلي داخل الفضاء العام، بكل أبعاده المادية والافتراضية.
و في ضوء كل ما تقدم، يثار السؤال حول الطريقة التي يمكن من خلالها للمؤسسة الأمنية أن تعتمد استراتيجيات ناجعة و منتجة في تدعيم مشروعيتها تماشيا مع تصورات المواطنين، خصوصا في ظل التحديات المعاصرة التي فرضتها التحولات الرقمية، وكذا حول الدور الذي يمكن أن يلعبه تواجدها الفعلي في الفضاء الواقعي والافتراضي من أجل توطيد مدى انسجامها مع النظم القانونية المعتمدة، وبناء ثقة المواطنين في أدائها، بما يساهم في ضمان دورها الفاعل في الحفاظ على الأمن والاستقرار داخل المجتمع.