في ظل التحولات الكبيرة والسريعة التي تشهدها سوريا، يبرز الإعلام كأداة أساسية في مواكبة هذه التغيرات، وتحديدًا الإعلام الاجتماعي؛ فهو الأقرب إلى نبض الناس وتفاصيل حياتهم اليومية، كما في الدراما والأفلام، وحتى البرامج الحوارية.
وفي هذه المرحلة الاستثنائية تزداد الحاجة إلى إعلام يعكس الواقع بصدق، يُعالج المفاهيم المجتمعية السابقة، ويُسهم في بناء هُوية سليمة تقوم على القيم الإنسانية المشتركة.. فما هو دور نقابة الفنانين في هذا المشهد المتغير؟ وما هي الخطط والآليات التي تعمل على وضعها لمواكبة هذه المرحلة؟
في هذا السياق، أجريت لقاءً خاصًّا مع الفنان السيد مازن الناطور، نقيب الفنانين السوريين، الذي تحدث بوضوح عن أهمية اللحظة الراهنة، مؤكدًا أن الإعلام السوري اليوم بحاجة إلى مُعالجة عميقة للمفاهيم القديمة، والانتقال نحو بناء إعلام حر واعٍ يخدم الإنسان لا النظام.
الفن مرآة الشعوب، ويجب أن تكون شفافة لتطرح بصدق واقع الناس وآمالهم وآلامهم، وتسلط الضوء على تحدياتهم واحتياجاتهم
تصحيح المفاهيم هو الخطوة الأولى
يرى الفنان مازن الناطور أن الإعلام في سوريا مارس في الماضي أدوارًا تقليدية، وغالبًا ما اقتصر على النقل السطحي للأحداث، أو تبني روايات أحادية الاتجاه.
لكنّ المرحلة الحالية تستوجب إعادة تشكيل المفاهيم الإعلامية والفنية من الجذور، بحيث يكون الإعلام فضاءً مفتوحًا للنّقاش، والتنوّع، وطرح وجهات النظر المُختلفة دون خوفٍ أو قيود.
أضافَ الناطور: “المفروض كل الأعمال الدرامية التي سيتم إنتاجُها من جديد تتحدث بكل شفافية عن الواقع، وترفع صوت الناس، وتحاكيهم أيضًا بهدف رفع الوعي، وتحقيق التواصل بين أطياف الشعب، وإعادة ربط العقد الاجتماعي السوري، وبناء الثقة بين مكونات المجتمع والدولة”.
ولكن، هل الفنان السوري جاهز لأداء دوره؟ أم إنه يحتاج بدايةً أن يعيد النظر بمفهوم الفن ومسؤوليته من جديد؟
يؤكد الفنان السيد مازن أن فكرة توظيف الاختصاصات الاجتماعية والنفسية في الفن، لتصبح برامج قادرة على معالجة الناس وليس فقط نقل واقعهم، هي مرحلة مهنية عالية المستوى من الممكن العمل عليها، ولكن بعد إعادة تشكيل مفاهيم الفنان حول الفن وتوظيفه لخدمه الإنسان والمجتمع، وتصحيح المفاهيم المشوهة التي بناها النظام السابق من خلال استخدامه الفن لدعم منظومته الفكرية.
وهنا لا بدّ من تسليط الضوء على تحدٍّ كبير ومهم جدًا، وهو أن مفاهيم الفنان – كمفاهيم كثير من أطياف المجتمع وشرائحه- ربما تحتاج لإعادة تشكيل سليم يبني في المجتمع ولا يهدم، مفاهيم كالهُوية الإنسانية والوطنية والثقافية أيضًا، واستخدام الفن لأجل الرسالة، وأن تكون الرسالة هي الدفاع عن قيم لا أشخاص.
وتابع السيد مازن الناطور: “الفن مرآة الشعوب، ويجب أن تكون شفافة لتطرح بصدق واقع الناس وآمالهم وآلامهم، وتسلط الضوء على تحدياتهم واحتياجاتهم”.
تنوع الوسائل.. ضرورة لا ترف
شدّد الناطور على ضرورة تنوع الوسائل الإعلامية وتحديث أدواتها لتواكب التطورات العالمية، كخطوات أولى للإعلام الحر.. التنوع بالمصادر، والتنوع بالطرح من زوايا مختلفة.
وبالحديث عن الفنانين الذين ارتكبوا جرائم إنسانية أخلاقية، شدد الفنان مازن الناطور على أن نقابة الفنانين لن تتبع أساليب الإقصاء أو التهميش، التي مارسها النظام في السابق بحق كثير من الفنانين؛ بسبب مواقفهم السياسية أو آرائهم الشخصية.
وقال الناطور: “نحن لسنا فرع مخابرات، القانون يحاسب، ولا نريد أن نكرر سياسات النظام السابق، الذي حرم كثيرين من الفنانين من حقهم في العمل فقط لأنهم عبّروا عن رأيهم، فقد تمت محاربتنا في رزقنا، وتم منعنا من التمثيل، وهذا ما لن نقبله اليوم”.
وأضاف: “نحن نؤمن بدولة القانون، ومن يخطئ عليه أن يتحمل المسؤولية أمام القضاء، وليس بتصفية الحسابات الشخصية. كما أن الشارع السوري اليوم أكثر وعيًا ونضجًا، والمُشاهد ذكي ويملك القدرة على التمييز والاختيار”.
وأكد أن النقابة لن تكون جهة إصدار أحكام أخلاقية أو سياسية على الفنانين، بل ستكون جهة داعمة للمسار القانوني، حريصة على حماية الحريات والكرامة المهنية.
مع ولادة سوريا الجديدة، يتعين على الإعلام أن يتجدد بدوره، لا ليواكب فقط التغيرات السياسية والاجتماعية، بل ليقودها أيضًا؛ فالإعلام الحر والمسؤول هو حجر الزاوية في أي تحول حقيقي
دور النقابة في المرحلة القادمة
وحول دور نقابة الفنانين في هذه المرحلة المفصلية، كشف الناطور أن النقابة تخطط لإطلاق عدد من المشاريع الجديدة التي تسهم في دفع عجلة التغيير الإعلامي والثقافي، ومنها ورشات عمل لإعادة تشكيل مفهوم الفن، ورفع الوعي بوظيفته وآلياته وكيفية استخدامه لصالح الإنسان والمجتمع.
الفن والإعلام.. تكامل لا انفصال
أكد الناطور أن العلاقة بين الفن والإعلام يجب أن تكون تكاملية، مشيرًا إلى أن الفنان هو في جوهره ناقل للواقع وصانع للرؤية، والإعلام هو الوسيلة التي تتيح له إيصال هذه الرؤية للناس.
ولذلك، فإن إشراك الفنانين في النقاش الإعلامي، وإعطاءهم مساحة للتعبير عن رؤاهم، هو أمر أساسي في بناء إعلام يعبر عن الناس، ويخاطب عقولهم وقلوبهم في آن واحد.
مع ولادة سوريا الجديدة، يتعين على الإعلام أن يتجدد بدوره، لا ليواكب فقط التغيرات السياسية والاجتماعية، بل ليقودها أيضًا؛ فالإعلام الحر والمسؤول هو حجر الزاوية في أي تحول حقيقي.
وكما قال الفنان مازن الناطور: “علينا أن نعيد بناء الثقة بين الناس والإعلام، ولن يكون ذلك ممكنًا إلا إذا كان الإعلام صادقًا، حرًّا، ومبنيًّا على قيم الاحترام والتعددية”.
سوريا لا تحتاج إلى فن يُجمّل القبح أو يُسكّن الألم، بل إلى فن يواجه، ويُضيء ويُعالج. والمسؤولية الآن هي ربما أكبر من مجرد تمثيل أو إنتاج، إنها مسؤولية صناعة وعي جديد
ختم الناطور رسالته متوجهًا إلى المشاهد السوري: “ارفع راسك فوق، إنت سوري حر.. لما تشتغل بحرية ووطنية وراسك مرفوع، سوريا سترتفع بأبنائها”.
من خلال ما طرحه الفنان مازن الناطور، تتضح ملامح توجه جديد أكثر نضجًا وواقعية، يسعى إلى تجاوز أخطاء الماضي، وتأسيس إعلام يعكس الحقيقة، ويخاطب المواطن باحترام وشفافية.
ويبقى الأمل بأن تتحول هذه الرؤى إلى خطوات عملية، تسهم في خلق مساحة إعلامية حرة ومسؤولة، تواكب تطلعات السوريين في الداخل والخارج، تبدأ من عودة الإعلام السوري كمنبر رسمي ومصدر أساسي لخطاب الدولة مع الشعب، ثم تعدد المؤسسات الإعلامية، والعمل على برامج إعلامية اجتماعية، سواء كانت بالفن (أفلام، دراما، أغانٍ، لوحات) أو بالبرامج الحوارية؛ فالفن الحقيقي لا يطلب إذنًا ليكون، ولا ينتظر موافقة ليقول الحقيقة.
اليوم، سوريا لا تحتاج إلى فن يُجمّل القبح أو يُسكّن الألم، بل إلى فن يواجه، ويُضيء ويُعالج. والمسؤولية الآن هي ربما أكبر من مجرد تمثيل أو إنتاج، إنها مسؤولية صناعة وعي جديد، وهوية لا تُبنى على الخوف، بل على الحرية والكرامة.. هُوية إنسانية وطنية ثقافية، تعيد النبض لسوريا وشعبها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.