ما إن يأتي ليل العاصمة الأردنية عمان حتى تبدأ خلف الجدران حياة من نوع آخر، عالم مواز تنسجه بصمت عاملات المنازل اللواتي لم تمنعهن الظروف الصعبة والمعزولة من تشكيل شبكات اجتماعية حية، تتجاوز طبيعة العمل المغلقة إلى أبعاد إنسانية واجتماعية أكثر عمقاً وتعقيداً.
في الغرف الخلفية والمطابخ وأحاديث الهواتف المتقطعة، تبني عاملات المنازل القادمات من ثقافات ولغات متباينة نمطاً غير مرئي من التواصل والدعم، تتقاطع فيه الحكايات اليومية مع صور التضامن والتكيف.
وبينما يحصر النقاش حول هذه الفئة غالباً في قضايا العقود القانونية والأجور والإقامات، يبقى البعد الإنساني والاجتماعي لعاملات المنازل غائباً عن المشهد العام.
خلفية وأرقام
وفقاً لوزارة العمل الأردنية يتجاوز عدد عاملات المنازل المسجلات رسمياً داخل الأردن 50 ألف عاملة، غالبيتهن من الفيليبين وسريلانكا وبنغلاديش ونيبال وإثيوبيا وغانا، وأوغندا وإندونيسيا وكينيا، إضافة إلى أعداد غير رسمية من العاملات على نحو يضاعف قساوة ظروفهن، ويقلل من فرصهن في الاندماج المجتمعي.
ويقدر تقرير لمنظمة “تمكين” المعنية بشؤون المرأة عدد العاملات في المنازل بصورة غير قانونية بنحو 15 ألفاً، بينما يتحدث مدير وحدة المساعدة القانونية للعمال المهاجرين في مركز “عدالة” لدراسات حقوق الإنسان المحامي سالم المفلح عن استقدام عدد كبير من العاملات في المنازل الأردنية ووصوله إلى 100 ألف عاملة.
وتقول “تمكين” إنها استقبلت 730 شكوى من العاملات بين عامي 2020 و2022 تضمنت قضايا تتعلق بالرواتب والإجازات، وساعات العمل والامتيازات الاجتماعية، أما خلال الربع الأول من 2025 فتلقت 125 شكوى حُلت 89 منها، مما يظهر وجود نظام شكاوى رقابي فعال على رغم التحديات.
وتشير مديرة مركز “تمكين” ليندا كلش إلى أن نحو 62 في المئة من القضايا ضد أصحاب العمل أسفرت عن إدانات، بفضل المساندة القانونية التي تقدم للعاملات.
وتتحدث كلش عن شكاوى تنوعت بين منع عاملات المنازل من السفر وعدم دفع رواتبهن، وغيرها من الانتهاكات كحرمانهن من العلاج الصحي والإجازات والطعام والتواصل مع أسرهن، إضافة إلى تعرضهن للعنف والإهانات.
شبكات عابرة للجنسيات
وعلى رغم القيود المفروضة على حركتهن وتواصلهن مع الآخرين وظروف العمل الشاقة لغالبهن، استطاع عدد من العاملات تكوين شبكات اجتماعية نشطة تعتمد على التجمعات خلال يوم الإجازة الأسبوعية داخل أماكن محددة، مثل محيط السفارات أو الكنائس ووسط العاصمة عمان، التي تضم أسواقاً خاصة بالجنسيات التي تنتمي إليها هؤلاء العاملات، أو عبر مجموعات “واتساب” و”فيسبوك” مغلقة تضم عاملات من جنسيات مختلفة، تُتبادل فيها المعلومات والدعم النفسي والاجتماعي وبخاصة للوافدات الجديدات أو من يعانين بيئات عمل قاسية، بينما تتحول العاملات الأكبر سناً إلى “أمهات روحيات”. وتقول إحداهن وهي عاملة منزل فيليبينية الجنسية تدعى ماريا إنها تلتقي أخريات أسبوعياً، “ليس فقط لتبادل الحديث بل لنتذكر أننا بشر ولسنا آلات”.
ومع أن عاملات المنازل في الأردن يعشن غالباً في عزلة فإنهن ينجحن في بناء مجتمعات بديلة نابضة بالحياة في مواجهة الأيام القاسية، عبر فضاء اجتماعي لا يزال يتعامل معهن بوصفهن كائنات لا صوت لها.
فبعيداً من أنظار الناس وخلال أوقات الاستراحة القصيرة، تمارس هؤلاء النساء طقوساً صغيرة كمكالمة فيديو مع الأم في الفيليبين أو طبخة تقليدية سريعة، أو حتى ملابس بسيطة تعيد لهن شيئاً من الهوية المسلوبة. وبعضهن يبتكر صداقات عابرة للجدران عبر تطبيقات الهواتف، ويتشاركن القصص والأحلام مع عاملات أخريات داخل الحدائق العامة أيام الجمعة، أو عند مراكز الحوالات. وهناك حيث لا أحد يراقب تتفتح الضحكات وتروى الحكايات وتتكون عائلة بديلة ووطن موقت، وسند معنوي في الغربة.
استغلال واحتضان
تتسم العلاقة عموماً بين العاملات في المنازل وأصحاب العمل بتعقيدات تتجاوز التوصيف القانوني، ففي حين تعاملن في بعض البيوت كأفراد من العائلة، تعاني أخريات الاستغلال والعمل لساعات طويلة.
وبينما يواجه بعضهن عزلة شبه كاملة تتحول بعض العاملات إلى جزء عاطفي من روتين العائلة، ويمتلك عدد منهن سلطة غير معلنة بفضل خبرتهن الطويلة مما يجعل حضورهن لا غنى عنه.
لكن كل هذا لا ينفي وجود انتهاكات جسيمة، كتحميلهن مسؤوليات إضافية من دون زيادة الأجر، أو التجسس على خصوصيتهن أو مصادرة ممتلكاتهن بحجة الأمن.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتؤكد المتخصصة في الشأن الاجتماعي رندة محمد أن العلاقة بين العاملات والأسر الأردنية ليست فقط علاقة عمل، بل علاقة ثقافية وطبقية مركبة، لأن العاملات يأتين من بيئات اجتماعية مختلفة، مما يولد سوء فهم دائم واحتكاكات ناتجة من الصور النمطية، مضيفة “العاملات من خلفيات آسيوية تحديداً يتعرضن لتهميش مضاعف بسبب تصورات اجتماعية تقلل من إنسانيتهن، وتختزلهن في دور الخادمة”.
ومع عدم وجود نقابة رسمية تمثل عاملات المنازل، انتشرت مبادرات تطوعية بدعم من منظمات المجتمع المدني التي تنظم ورشاً توعوية لتوفير الدعم القانوني، ومن بين هذه المنظمات Caritas Jordan التي تقدم الدعم لعاملات المنازل، فضلاً عن استشارات صحية وقانونية.
وفي مقابل مئات التقارير التي تركز عادة على الانتهاكات أو المعاملة السيئة التي قد تتعرض لها عاملات المنازل في الأردن، تبرز قصص إنسانية لافتة لعائلات أردنية، تعاملهن معاملة راقية تتجاوز الطابع المهني أو الوظيفي إلى بعد إنساني حقيقي.
من بين هذه القصص قيام سيدة أردنية بتزويج العاملة الفيليبينية التي تعمل لديها منذ أكثر من 10 أعوام على نفقتها لشاب من جنسيتها. بينما تحرص عائلة أردنية على الاعتناء بأبناء العاملة لديهم في بلدها الأم، عدا عن مشاركة كثير من الأسر العاملات لديها في حفلات عيد الميلاد وتقديم الهدايا لهن، في مواقف لافتة تفتح المجال أمام المجتمع الأردني لإعادة التفكير في الصور النمطية والنهج السائد في التعامل مع عاملات المنازل.
لكن كل ذلك لم يمنع من بعض الصور القاتمة في المشهد، وبخاصة بعد وقوع جريمتي قتل اتهمت بارتكابهما عاملتا منزل في إربد ومادبا قبل أعوام، مما دفع في حينه المتخصص الاجتماعي مجد الدين خمش إلى تبرير ارتكاب العاملات المنزليات للجرائم، وبخاصة ضد كبار السن، بقوله إنهن يعشن في بيئات مليئة بالجرائم في بلادهن، فيقسن الخصم الذي أمامهن من ناحية العمر والقوة الجسدية، وينفذن الجرائم بحسب هذا المقياس.
بموازاة ذلك ثمة أرقام رسمية تقدر عدد الجرائم التي ترتكبها العمالة الوافدة في الأردن بنسبة وازنة من عدد الجرائم الكلي، قد تصل إلى الربع.
كلف اقتصادية واجتماعية
في جانب آخر، تظهر دراسات محلية أن لتوسع سوق عاملات المنازل اللاتي تُستقدمن من الخارج كلف اقتصادية واجتماعية، وتقول إحدى هذه الدراسات أن الكلف النقدية تفوق العوائد المباشرة، مطالبة بتسهيل مشاركة النساء الأردنيات في سوق العمل وتنشيط قطاع الخدمات المنزلية، وخلق فرص عمل للمواطنين في وظائف تنظيمية وأمنية ضمن هذا القطاع.
إلى ذلك يُظهر تقرير صادر عن جامعة الملك حسين عام 2023 أن العاملات يعتمدن على شبكات غير رسمية لتبادل المشورة القانونية حول سوء المعاملة أو الهرب، إضافة إلى إيواء بعض النساء الهاربات ضمن تلك الشبكات مما يجعل تلك التجمعات مصدراً للدعم النفسي والاجتماعي بعيداً من الجهات المعنية.
التقرير ذاته يقول إن نحو 25 في المئة من العاملات الفارات يعشـن داخل شقق مستقلة أو مشتركة، مما يشكل بيئة دعم اجتماعي وقانوني ونفسي لهن.
وخلصت دراسة لمنظمة العمل الدولية شملت دولاً عدة من بينها الأردن، إلى أن العاملات يعانين من عزلة شديدة بسبب “نظام الكفالة” وافتقار العاملات للعدالة الاجتماعية، بخاصة أنهن يعشن بعيداً من عائلاتهن لأعوام، في عزلة بدنية ونفسية.
خلال عام 2014 شُكلت “شبكة تضامن عاملات المنازل” بدعم من مركز” عدالة”، إذ تجمع حالياً نحو 400 عاملة استفاد معظمهن من خدمات قانونية واستشارات مجانية.
بينما تشير دراسة أجريت عام 2021 إلى أن 23 في المئة من العاملات في المنازل بصورة غير نظامية تعرضن لإساءة جسدية أو جنسية، وأن 39 في المئة منهن تعرضن للإساءة اللفظية.
ويقدم مركز “عدالة” لدراسات حقوق الإنسان جلسات توعوية متتالية لعاملات المنازل النساء، لتعزيز معرفتهن بحقوقهن القانونية وآليات الحماية وكيفية طلب المساعدة.
وتؤكد المحامية نور الحديد المتخصصة في علم الجريمة أن ثمة أنظمة وتعليمات وقوانين تضبط شؤون العاملات في المنازل، من بينها قانون الإقامة وشؤون الأجانب وقانون شروط استقدام العمال غير الأردنيين.
وتضيف “النظام واضح، ولا يجوز أن يتأخر صاحب العمل عن دفع أجور العاملة أكثر من سبعة أيام من تاريخ بداية الشهر، وبإمكان العاملة أن تتقدم بشكوى إلى وزارة العمل”.
هرب مقلق
وكانت نقابة أصحاب مكاتب استقدام واستخدام العاملين بالمنازل حذرت العام الماضي من تنامي ظاهرة هرب العاملات، إذ تجاوز عددهن 13 ألف عاملة من جنسيات آسيوية وأفريقية.
ووفقاً لهذه النقابة فإن معدلات استقدام العاملات كل عام يراوح ما بين 18 و22 ألف عاملة منزل، وسط مطالبات بوضع حد لهذه الظاهرة التي تسبب بها سماسرة، ومن يمارسون الاتجار بالبشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي لإغرائهن وتشجيعهن على الفرار، مقابل وضع مادي أفضل والعمل بنظام المياومة.
ويؤكد مراقبون أن العاملات الهاربات يلتحقن بسوق العمل الحر غير النظامي، أو ينخرطن في مجتمعات العاملات من جنسيتهن نفسها، كعاملات بنظام المياومة (العمل باليومية)، لأن العمل غير النظامي أفضل من حيث الأجور والحرية. وتراوح الأجور ما بين 300 و500 دولار، ومن دون أية قيود أو إجبار على العمل لساعات طويلة.
لكن في المقابل، فان هؤلاء العاملات في المنازل مستثنيات من أحكام قانون العمل، ويُنظم عملهن وفق نظام “العاملين في المنازل”، ونظام المكاتب الخاصة العاملة في استقدام غير الأردنيين العاملين في المنازل، لكن هذا النظام يحدد ساعات العمل والعطل الأسبوعية ويحفظ للعاملين حقوقهم، وهو نظام متطور.
ويؤكد المرصد العمالي الأردني أن النساء العاملات في المنازل واجهن كثيراً من التحديات خلال جائحة كورونا، إذ لم يحصل عدد منهن على أجورهن ولم تُعوضن عن ساعات العمل الإضافية، وأصبحن عاجزات عن توفير قوت يومهن بعد توقفهن عن العمل.
وتصنف النساء العاملات في المنازل إلى ثلاث فئات، فئة النساء العاملات ضمن عقود في منازل أصحاب العمل، وفئة النساء العاملات بصورة نظامية ويعشن خارج منزل أصحاب العمل، وتشمل الفئة الثالثة النساء اللاتي يتقاضين أجراً على ساعات العمل، وجزء كبير منهن ليست لديهن أوراق قانونية.
وتقول وزارة العمل إن ثمة جولات تفتيشية للوزارة، وفي حال وجود انتهاكات تُحرر مخالفة بقيمة تصل إلى 1500 دولار من طريق المحكمة المتخصصة.