في زمنٍ تحاصَر فيه الذاكرة الفلسطينية من كل الجهات، وتشتد فيه عواصف الغربة والنزوح، يبرز الفن كملاذٍ أخير، وكحارسٍ وفيٍّ للهوية والكرامة. من غزة المحاصرة إلى ساحات المعارض الدولية، ومن الألم إلى الأمل، اختار الفنان الفلسطيني “فهد محمد شهاب” أن يحمل حلمه معه أينما ارتحل، رافضًا أن يترك موهبته خلفه، أو أن يساوم على جوهر رسالته الإنسانية.
عشر سنوات من التجربة والبحث والتأمل، تحوّلت خلالها ريشته إلى وسيلة مقاومة ناعمة، وإلى جسرٍ يربط بينه وبين وطنه حتى وهو على بعد آلاف الأميال. “فهد”، الذي غادر غزة قبل شهرين من الحرب، لم يغادرها من قلبه ولا من لوحاته، بل حملها في تفاصيل مشروعٍ فنيّ طموح يوثق الذاكرة الفلسطينية من خلال الطوابع البريدية، في محاولة نبيلة للحفاظ على ما يتلاشى.
في هذا الحوار الخاص، يفتح لنا الفنان “فهد محمد شهاب” أبواب تجربته، ويروي كيف شكّل الفن خلاصًا من ضيق المنفى، وسلاحًا لمواجهة التهميش، وجسرًا لإيصال صوته الفلسطيني إلى العالم، مُؤمنًا أن الأحلام لا تموت طالما هناك من يصرّ على حملها، حتى في أحلك الظروف.
سؤال: كيف بدأت رحلتك مع الفن؟ وما الذي دفعك لاختياره كوسيلة تعبير عن الذات؟
جواب: بدأت رحلتي الفنية منذ أكثر من 10 سنوات، حين اكتشفت أن الرسم يتجاوز كونه موهبة، ليصبح أداة لفهم الحياة. من خلال مراحل تعلّمي المدارسَ الفنية والتعرف على فنانين، طورت أسلوبي وشعرت بالقوة التي يمنحها الفن للتفاعل مع الواقع.
سؤال: عند مغادرتك غزّة قبل الحرب، ما المشاعر التي رافقتك؟ وهل شعرت أن الفن كان عبئًا أم ملاذًا؟
جواب: غادرت غزة قبل شهرين من الحرب محمَّلاً بمشاعر القلق والتردّد، لكن الفن شكّل ملاذًا آمنًا لي. لم يكن عبئًا، بل أداة للتكيّف، وفّرت لي الثبات النفسي رغم فقدان المكان، محيِّدةً عني الشعور بالانتماء الجغرافي وصانعةً ولادة مواجهة جديدة للواقع عبر الفن.
سؤال: تقول إنك حملت تجربتك الفنية معك ولم تتركها خلفك، كيف تجسد ذلك في واقعك الجديد؟
جواب: لم أتوقف عن التفكير بالفن حتى عندما لم أمسك بريشتي. واصل خيالي العمل وابتكرت مشاريع جديدة تعتمد على الطابع الثقافي الفلسطيني كوسيلة للتعبير عن الهوية والذاكرة، وأقمت معارض ومشاركات دولية حتى في بلاد المنفى مثل مصر وبريطانيا.
سؤال: تحدثت عن أن “كونك فنانًا لا يتعلق فقط بالرسم”، كيف ترى الفن كوسيلة للتعامل مع تقلبات الحياة؟
جواب: ترى أن الفن تجربة كاملة، تضيف أبعادًا للتعامل مع الظروف الضاغطة. حين “تشعر” بالأشياء، لا تكتفي بمشاهدتها فحسب، بل تُحولها بإحساسك الشخصي إلى أعمال تحاكي جمهورك، وتخلق مساحة للتعاطف والتفاعل تشكّل وسيلة للحياة وليس مجرد إنتاج.
سؤال: كيف طورت أسلوبك الفني؟ وما هي المحطات التي أثّرت عليك أكثر من غيرها؟
جواب: تطوّر أسلوبي عبر سنوات من التعلّم والممارسة التي شملت التجوال بين مدارس الفن والتفاعل مع فنانين محليين وأجانب. أبرز محطاتي هي الجوائز التي حصلت عليها: المركز الأول في مسابقة “سيدة الإنسانية” في براغ عام 2016، كونها أكّدت أنني أمضي في الطريق الصحيح.
سؤال: ما الفرق بين مشاهدة الواقع وتجربته؟ وكيف انعكس ذلك على أعمالك الفنية؟
جواب: المشاهدة هي مجرد نقل بصري، أما التجربة فهي الانغماس العاطفي والإنساني في الواقع. أنت تجسّد أعمالك من قلب التجربة، فتتنفّس تفاصيلها الصغيرة الكبيرة، وتحوّلها إلى رموز تتحدث عن الهوية، المقاومة، والانتماء.
سؤال: ما أهمية مشاركتك في معارض دولية ومحلية؟ وكيف أثّرت هذه المشاركات على نظرتك إلى هويّتك الفنية؟
جواب: مشاركاتي كانت جسرا للتواصل الثقافي والعالمي، ونقلت قضيتي إلى الفضاءات الدولية وهو ما جعل هويتي الفنية محمّلة بقيم إنسانية ومجتمعية وقضائية، أكثر عمقًا وتأثيرًا.
سؤال: حدّثنا عن شعورك عند فوزك بجائزة “سيدة الإنسانية” في “براغ”؟ وكيف أثّرت هذه اللحظة على مسيرتك؟
جواب: فوزي بالمركز الأول في “براغ” عام 2016 منحني اسـمًا عالميًا، وأكّد أن الفن يمكنه التأثير بغض النظر عن الأصل أو اللغة، وشكّل تحفيزًا كبيرًا للاستمرار في ربط المضامين الإنسانية والقضية الفلسطينية.
سؤال: كيف كانت تجربتك في المنتدى الثقافي الفلسطيني ببيروت؟ وما الذي حملته معك من هذه المشاركة؟
جواب: شاركت في الدورة العاشرة من الملتقى الثقافي الفلسطيني في بيروت عام 2022، وكانت محطة ثريّة للتبادل الثقافي. شاركت بورش عمل وعروض عرضها أمين عام شؤون اللاجئين وممثّلون من اللجان الرسمية، ما عزز تمثيلي الفني لدى الجمهور الفلسطيني في الشتات.
سؤال: كيف ساعدك الفن في التغلب على التحديات النفسية والمادية في عامك الأول خارج فلسطين؟
جواب: في مصر، واجهت انفصالًا عن الأهل وصعوبات مالية، لكن الفن منحني قدرة على التعبير عن القلق والألم، وحوّل كلاًّ منهما إلى أعمال موثّقة في مجلّات أميركية وكندية وأسترالية، مما شق طريقًا فنيًا لدعم ذاتي وأصدقائي المحتاجين ماليًّا.
سؤال: شاركت بأعمالك في مزادات ومعارض دولية خلال الحرب، هل شعرت أن الفن كان نوعًا من المقاومة أو النجاة؟
جواب: نعم، لقد تحوّل الفن في وقت الحرب إلى منصّة مقاومة وصمود. من خلال مشاركاتي في مزاد بنسخته البريطانية، وفّرت دعمًا لي ولزملائي الطلبة المنقطعين عن الدعم المالي، فكان الفن وسيلة عمليّة للنجاة والدعم.
سؤال: كيف دعمت أصدقاءك من خلال فنك؟ وما الذي علمتك إياه هذه التجربة الإنسانية؟
جواب: ساعدت أصدقائي الذين كانوا في ظروف مالية صعبة عبر أنشطتي الفنية ومبيعاتي. هذه التجربة علّمتني أن الفن أداة لتمكين الآخرين، وأن هدفه لا يقف عند التعبير بل ينتهي إلى تأمين حياة كريمة لمن حولي.
سؤال: تعمل حاليًّا على مشروع فني يوثق الذاكرة الفلسطينية من خلال الطوابع، كيف وُلدت هذه الفكرة؟ وما الرسالة التي تحاول إيصالها؟
جواب: ولد مشروعي من إدراكٍ بأهمية الطوابع البريدية كوثائق تاريخية وثقافية؛ كل طابع يحكي قصة، يوثّق حدثًا أو ذكرى فلسطينية امتدت لأكثر من 100 عام. رسالتي هي إحياء الذاكرة، إظهار أن الفن قادر على رعاية الماضي للحفاظ على الهوية.
سؤال: ما أهمية الطوابع البريدية في حفظ الذاكرة الثقافية الفلسطينية من وجهة نظرك الفنية؟
جواب: الطوابع تمثل صورًا صغيرة لكنها قوية، تحمل رموز الوعي والتاريخ وتربط الناس بقضيتهم من خلال رسوماتها وشعاراتها وتواريخها، ما يجعلها وثائق ثقافية فنية تحتاج للحراسة والتوثيق.
سؤال: كيف كان عرض نتائج مشروعك في المتحف الفلسطيني؟ وما مدى تفاعلك مع الجمهور في ظل الحرب الجارية؟
جواب: عرضت بعض النتائج الأولية من المشروع في المتحف الفلسطيني في “رام الله”، الذي تأسس مطلع الحرب على غزّة، ولاقى تفاعلًا من الجمهور الفلسطيني والدولي، إذ ساهم في تحريك تعاطف الناس مع القضية والذاكرة، رغم ظروف الحرب.
سؤال: في ظل كل ما عشته، ما الرسالة التي توجّهها إلى الفنانين الفلسطينيين الشباب في الداخل والخارج؟ وكيف تحافظ على حلمك حيًا رغم كل شيء؟
جواب: رسالتي واضحة: تجاربكم – حتى الصعبة – هي ذخيرة للفن والحياة. جرّبوا دائمًا، فالتجربة نفسها فوز. لا تهربوا من الفشل، فهو المُعلّم. حافظوا على الحلم حيًّا لأن الإيمان بالذات هو مفتاح الاستمرار، والفن هو الأسلوب لنقل قوتكم إلى العالم، مهما كانت الظروف.