حتى يوم 1 نوفمبر/تشرين الأول 2022، كان الشاب الثلاثيني ثائر الشعر “سام بانكمان فرايد” -أو “SBF” كما يُسمّيه الإعلام- يُجسِّد كل ملامح الشاب الأميركي المهووس بالتقنية (Geek)، الذي يملك ثروة ضخمة تُقدّر بحوالي 16 مليار دولار، باعتباره المؤسس والمدير التنفيذي لمنصة FTX، ثاني أضخم منصة تداول عملات رقمية في العالم، بتعاملات يومية تقدر بمليارات الدولارات.
إلى حد ما بات هذا النموذج -نموذج الشاب الملياردير التقني- مألوفا في الصحافة العالمية، ولم يعد لافتا كما كان يحدث في الماضي، ولكن ما حدث بعد هذا التاريخ هو الذي لم يكن مألوفا إطلاقا، فخلال بضعة أيام فقط من هذا التاريخ، فقَدَ هذا الشاب ثروته بالكامل، وتهاوت شركته من شركة عملاقة قيمتها 32 مليار دولار إلى قاع الإفلاس، في واحدة من أسرع وأقسى تجارب ضياع الثروات، على حد وصف صحيفة بلومبيرغ الاقتصادية العالمية.
فما الذي حدث؟ وما المصيبة التي يمكن أن يرتكبها شخص ما تجعله يخسر 16 مليار دولار في بضعة أيام؟! (1)
بطاقة تعريفية
يمكن وصف سام بانكمان حقا بأنه “فتى وادي السيليكون”، حيث وُلد ونشأ وترعرع في هذه المنطقة لأب وأم أستاذين في القانون بجامعة ستانفورد العريقة. عُرف عنه حبه الشديد لممارسة ألعاب الطفولة وعلى رأسها الشطرنج، واهتمامه الشديد بالرياضيات والتقنية، وهو أمر طبيعي لطفل وُلد ويعيش في قلب وادي السيليكون حيث كبريات شركات التقنية العالمية.
لاحقا، التحق بانكمان بمعهد “MIT” العريق ليدرس تخصص الفيزياء، في الوقت الذي كان يشغل وقته بدراسة مقررات جانبية خارج المسار الأكاديمي، والاهتمام بدورات كسب المال وإدارة الوقت. وبحسب وصفه هو لنفسه في عدة لقاءات، لم يكن سام طالبا مجتهدا، ولكن يبدو أنه كان يجهز نفسه لشيء ما.
بعد إنهاء دراسته الجامعية، بدأ بانكمان حياته العملية بالعمل في شركة تداول أوراق مالية تُدعي “جين ستريت”، تعلّم فيها مفهوم “المُراجحة (arbitrage)”، وهو نوع من التجارة يجعلك تشتري أصولا (assets) بأسعار منخفضة في أسواق معينة، ثم تذهب لبيعها بأسعار أعلى في أسواق أخرى. هذا المجال بالتحديد كان السبب الأساسي في دخول الشاب الطموح لعالم العملات المشفرة “الكريبتو” باتباع الأسلوب نفسه(2).
المراجحة

في العام 2017 كانت العملات الرقمية المشفرة تتضخم بشكل هائل، وأصبح المتعاملون فيها يتاجرون عبر منصات التداول الخاصة، وهو ما شجّع بانكمان على الدخول في اللعبة بعد أن لاحظ أن بعض العملات الرقمية تُباع بأسعار مختلفة عبر المنصات، فعلى سبيل المثال، أسعار تداول البيتكوين في منصات التداول الآسيوية، في كوريا الجنوبية واليابان تحديدا، تكون أعلى من أسعارها في منصات التداول الأميركية والغربية. هذه الاختلافات تخلق فرصة للمستثمرين لتحقيق هوامش أرباح تستفيد من فروقات الأسعار أثناء عمليات البيع والشراء (3)، وهو ما يُطلق عليه مصطلح “كيمشي بريميام” (Kimchi Premium).
بدأ سام بنفسه، يشتري البيتكوين من منصات تبيعها بسعر رخيص، ثم يبيعها في منصات أخرى تتداول البيتكوين بأسعار مرتفعة، محققا هامشا ربحيا. وبعد مرور شهر من تحقيق أرباح متواضعة، جمع سام مجموعة من زملائه المقتنعين بالفكرة، وأطلقوا شركة للتداول بالأسلوب نفسه، أسموها “ألاميدا ريسيرش” (Alameda Research)، بدؤوا من خلالها تطوير أساليب مراجحة فعّالة، وطوروا طرقا لنقل الأموال من وإلى البنوك عبر الحدود بكفاءة وبدون مشكلات.
بعد 3 أشهر من إطلاق ألاميدا، حقق سام ورفاقه نموا هائلا وصل إلى تحقيق أرباح يومية -بحسب بي بي سي- تقدر بمليون دولار، وخلال العام 2018 ارتفع معدل تحويلات بيع العملات الرقمية وشرائها إلى حوالي 15 مليون دولار يوميا بين الأسواق والمنصات المختلفة بحسب بلومبيرغ؛ ما جعل الصحافة العالمية تطلق على سام لقب “موبي ديك حيتان الكريبتو” بسبب أثره الكبير والسريع في سوق العملات المشفّرة.
هذا النمو السريع جعل بانكمان ينقل مقر شركته إلى هونج كونج في العام 2018، وذلك بعد تأكده من أن سوق هونج كونج أكثر مرونة وأقل قيودا من السوق الأمريكي (4).
تأسيس FTX

في بداية عام 2019، قرر سام بانكمان بأن لديه إمكانية أكبر من مجرد منصة مراجحة تستفيد من فروقات أسعار العملات الرقمية، وأن لديه الفرصة لبناء منصة تداول عملات رقمية شاملة، وبالفعل، وبالاستعانة بفريقه الذي أصبح يضم خبراء في العملات الرقمية، انطلقت المنصة بعد 4 أشهر من التطوير باسم “FTX”، اختصارا لعبارة “تداول المستقبل (Futures Exchange)”.
عد عدة أشهر من إطلاق FTX، بدا واضحا أنها ستحقق نموا كبيرا، حيث أطلقت المنصة عددا من الخصائص المغرية للتداول من خلالها، مثل تقليل الرسوم، وزيادة أنواع العملات الرقمية التي يمكن تداولها، وإتاحة خيارات سحب وتحويلات العملات بشكل أكثر مرونة. هذا الصعود السريع واللافت للنظر جعل منصة “باينانس” (Binance)، أكبر منصة تداول عملات مشفرة في العالم، تتقدم للاستحواذ على حصة 20% من منصة FTX بعد عدة أشهر من إطلاقها.
خلال العامين 2020 و2021، تصاعدت منصة FTX بمعدل صاروخي، حيث افتتحت المنصة فرعا في السوق الأميركي، واستحوذت على 15 شركة ناشئة متخصصة في تداول العملات المشفرة، وحصدت جولة تمويلية ضخمة بقيمة 900 مليون دولار بواسطة 50 مستثمرا عالميا من بينهم سوفت بنك وسيكويا كابيتال. لاحقا، نقلت المنصة مقرها الرئيس من هونج كونج إلى جزر البهاما.

في يناير/ كانون الثاني 2022، جمعت منصة FTX جولة تمويلية ضخمة أخرى من الفئة C بقيمة 400 مليون دولار بواسطة تحالف من المستثمرين، ليرتفع تقييمها إلى 32 مليار دولار، تزامنا مع حملة تسويق ودعاية ضخمة بمئات الملايين من الدولارات للترويج لمنصة FTX وتداول العملات المشفرة، شملت رياضيين وسياسيين وفعاليات ورعاية لفرق كرة قدم أميركية وفرق كرة سلة شهيرة، أضخمها على الإطلاق كان حقوق رعاية لمجمع ميامي الرياضي لاستضافة الألعاب بتكلفة 135 مليون دولار لمدة 19 عاما، ليتحول اسم المجمع الرياضي العملاق إلى “FTX Arena”.
ومع كل هذا التصاعد في نشاط FTX عالميا، وبمعدل تداول ضخم وصل إلى 10 مليارات دولار يوميا على المنصة، لتصبح ثاني أكبر منصة تداول عملات مشفرة حول العالم، نمت ثروة سام بانكمان لتصل إلى 26.5 مليار دولار في أعلى مستوياتها، ليصبح أغنى شاب في العالم في الثلاثين من عمره صنع هذه الثروة الضخمة بدون أن يرثها(2)(4)(5).
هدوء قبل العاصفة

من المعروف أن منصات التداول للعملات المشفّرة يكون لديها عملتها الخاصة التي يُطلق عليها اسم “توكين” (Token)، هذه العملة الخاصة لكل منصة تداول عادةً ما تُستخدم في دفع رسوم المعاملات -رسوم بيع العملات المشفرة وشرائها على اختلاف أنواعها- على المنصة بدلا من الأموال النقدية، باعتبارها عملة موثوقة خاصة تابعة لمنصة التداول الرئيسية. في حالة منصة FTX، فالعملة الخاصة المشفّرة بها هي FTT، التي تُدار التعاملات بها من خلالها.
ذكرنا من قبل أن منصة “باينانس” (Binance)، المنصة الأكبر في العالم لتداول العملات المشفرة التي أسسها ويديرها الصيني “تشانغ بينغ تشاو”، يُختصر اسمه إلى CZ؛ كانت قد استثمرت استثمارا مبكرا في منصة FTX. لاحقا، وبقدوم عام 2021، أعلنت باينانس عن خطتها للخروج من منصة FTX والبدء في بيع حصتها في المنصة بقيمة 2.1 مليار دولار، دُفع جزء منها بالنقود السائلة التقليدية، ودُفع الجزء المتبقي منها بعملة FTT المشفّرة.
حتى الآن كانت الأمور تبدو طبيعية تماما، فعلى الرغم من المشكلات التي ضربت سوق العملات الرقمية المشفّرة وتراجع أسعارها بشكل حاد، فإنها في النهاية كانت مشكلات خاضعة لسعر التداول في الأسواق، حتى جاءت اللحظة المباغتة التي انفجرت فيها القنبلة المدوّية التي جاءت على شكل تقرير نُشر على منصة “Coindesk” المتخصصة في تغطية جميع أخبار سوق العملات المشفرة عالميا(2)(4)(6).
العاصفة
As part of Binance’s exit from FTX equity last year, Binance received roughly $2.1 billion USD equivalent in cash (BUSD and FTT). Due to recent revelations that have came to light, we have decided to liquidate any remaining FTT on our books. 1/4
— CZ 🔶 Binance (@cz_binance) November 6, 2022
في الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، أعلنت منصة “كوين ديسك” (Condesk) عن وثيقة مسرّبة فجّرت مفاجأتين غير سارتين، المفاجأة الأولى أن شركة “ألاميدا ريسيرش” (Alameda Research) التي يملكها سام بانكمان تمتلك -لأسباب غير واضحة- أصولا ضخمة من عملة FTT (العملة المستخدمة في التداول على منصة FTX) تقدر بمليارات الدولارات، وأن ألاميدا تستخدم هذه الأصول بوصفها ضمانات للقروض التي تجمعها لتوسيع نشاطها.
أما المفاجأة الثانية فهو أن أداء شركة ألاميدا غير مستقر بتاتا وعلى شفا انهيارات كبيرة مع التراجع الحاد الذي يشهده سوق العملات المشفرة عموما، وعلى الرغم من أن التقرير يعتبر فضيحة لسام بانكمان ومنصة FTX باعتبار أنه من المفترض ألا تتداخل أعمال الشركتين اللتين يمتلكهما، وأنها تعني بشكل مباشر أنه يتلاعب بشكل غير قانوني بأموال المتداولين عبر المنصة، فإن أهم ما لفت نظر المستثمرين والمتداولين صيحة تحذير بأن عملة FTT ليست متماسكة، وأن هناك احتمالية بانخفاض حاد في قيمتها قد يتسبب في خسائر هائلة.

كانت القشة التي قصمت ظهر البعير هي إعلان “باينانس” (Binance) بعد عدة أيام من صدور التقرير عبر تغريدة لها على تويتر بأنها، وعلى ضوء ما تم الكشف عنه في تقرير كوين ديسك، سوف تبيع كل ما تملك من عملات FTT، بما يعادل 500 مليون دولار، دُفعة واحدة. هذا الإجراء أدّى إلى موجة ذعر عارمة بين المتداولين والمستثمرين، ودفعهم إلى الإسراع إلى بيع ما يملكونه من عملة FTT قبل أن ينخفض سعرها بشكل حاد.
خلال 3 أيام لاحقة، انهالت طلبات البيع وسحب الأصول من منصة FTX بما يعادل 5 مليارات دولار، وهو ما أدى إلى انهيار هائل في قيمة FTT، فضلا عن أزمة سيولة ضخمة جعلت المنصة غير قادرة على تسديد هذا الرقم الكبير في مدة زمنية يسيرة، حيث من المعتاد أن تصل عمليات السحب اليومية في منصة التداول إلى عشرات الملايين من الدولارات فقط.
في هذه الأزمة الكبيرة لم يكن أمام سام بانكمان سوى اللجوء إلى شركة باينانس لإنقاذه من الأزمة، وهو ما جعل CZ، المدير التنفيذي لباينانس، يعلن في تغريدة أن منصته بصدد الاستحواذ الكامل على FTX بعد إجراء “حزمة تحوّط” (Due Diligence) (أي دراسة وضع منصة FTX المالي قبل اتخاذ قرار الاستحواذ)، ومن ثم محاولة طمأنة المتداولين بإمكانية استرداد أموالهم ووقف نزيف الخسائر وإعادة الاستقرار إلى سوق تداول العملات المشفرة بالكامل.
الهاوية
This afternoon, FTX asked for our help. There is a significant liquidity crunch. To protect users, we signed a non-binding LOI, intending to fully acquire https://t.co/BGtFlCmLXB and help cover the liquidity crunch. We will be conducting a full DD in the coming days.
— CZ 🔶 Binance (@cz_binance) November 8, 2022
بمجرد إعلان باينانس عن قرب استحواذها على FTX، خرج سام بانكمان في عدة تغريدات مُبشّرا المتداولين بأن الصفقة المنتظرة ستحمي عملاء الشركة وستنهي أزمة السيولة العنيفة التي تواجهها أمام تصاعد عمليات سحب الأموال من المنصة، ولكن هذه التغريدات المُطمئنة ذهبت أدراج الرياح بعد يوم واحد فقط من كتابتها عندما أعلنت باينانس أنها بعد مراجعة أوراق الشركة وإجراء الفحوصات القانونية والمالية قررت الانسحاب من الصفقة، وأنها لن تستحوذ على FTX بعد ما اكتشفته من سوء التنظيم واستخدام الأموال في المنصة.
انهار كل شيء، وتهاوت قيمة الشركة إلى 8 مليارات دولار نزولا من 32 مليار دولار في يوم واحد، كما خسر سام بانكمان معظم ثروته التي هبطت في غضون يومين فقط من 16 مليار دولار يوم الاثنين إلى مليار دولار يوم الأربعاء. بعدها بيومين، ومع التسارع الكبير في انهيار الشركة، بقدوم 11 نوفمبر، أعلن سام بانكمان بأنه يستقيل من منصب المدير التنفيذي للشركة، تزامنا مع تقدم منصة FTX وألاميدا ريسيرش وحوالي 130 شركة أخرى تعمل مع المنصتين بالعمولة ببدء إجراءات إعلان الإفلاس.
وبحسب ما نقلته بيزنس إنسايدر عن بلومبيرغ، ففي نهاية الأسبوع الماضي، أصبحت قيمة الفرع الأميركي لمنصة FTX هي “دولار واحد فقط”، لاحقا قدّرت شبكة بلومبيرغ نفسها قيمة منصة ألاميدا ريسيرش التي أسسها بانكمان أيضا بقيمة دولار واحد فقط، قبل أن يُعلن إغلاقها بالكامل مع إشهار الإفلاس(2)(4)(7).
أزمة سوق العملات المشفرة

بدون شك كانت أخبار انهيار ثاني أكبر منصة تداول عملات مشفرة في العالم ضربةً كبرى لسوق الكريبتو حول العالم عموما، الذي لم يتعافَ بعدُ من سلسلة أحداث سيئة ألمّت به في العام 2022. ففي هذا العام، بلغت خسائر سوق العملات المشفرة العالمي رقما هائلا يُقدَّر بـ2 تريليون دولار، مع اهتزاز كبير في ثقة المتداولين في سوق العملات الرقمية الذي ظهر بأضعف حالاته خلال هذا العام، مع تراجع قيمة العديد من عملاته الرئيسية.
تأتي على رأس العملات الرقمية الأكثر تضررا العملة الأشهر والأكثر تداولا “البيتكوين” التي انهار سعرها إلى حوالي 16 ألف دولار، هبوطا من 46 ألف دولار في آخر أيام العام الماضي 2021. وبحسب تقرير لـ”سي إن بي سي”، فإن سوق العملات الرقمية كان يقدر بحوالي 3 تريليونات دولار بنهاية العام الماضي، وانهار إلى 900 مليار دولار، فاقدا أكثر من 70% من قيمته خلال العام الجاري(7)(8)(9).
في النهاية، وعلى الرغم من التصريحات الأخيرة لتشانغ بينغ تشاو، مؤسس باينانس، بأن سوق العملات الرقمية سوف يتعافى رغم هذه الأزمات المتلاحقة التي شهدها خلال العام الجاري، وأنه يحتاج -بحسب تصريحاته إلى CNBC- إلى تضافر الشركات والمؤسسات ومنصات التداول في التعاون لتنظيمه لضمان عودته إلى حالته الأولى، فإن الجميع بات يعرف أن عالم “الكريبتو” لم يَعُد عالم المكسب السريع المضمون كما كان في السابق، بل أصبح -وفقا للشواهد- عالم الخسائر المهولة أيضا!
______________________________________
المصادر: