في رواية “سنوات النمش”، يقدّم وحيد الطويلة عملًا روائيًا معقدًا، حيث تتداخل فيه الأبعاد الاجتماعية والنفسية والفلسفية في بناء سردي واحد. الرواية، التي تعتمد على أسلوب سردي مميز واشتغال لغوي فني، تشكل فضاءً سرديًا غنيًا بالمفارقات. تركز الرواية على سرد قصّة عائلة تكاد تكون مجسّدًا للمجتمع نفسه، في عالمٍ يغلب عليه التنافر بين القيم والأفعال. وبالرغم من ملامح التراجيديا التي تميز النص، فإن الكاتب يراهن على لغة تكاد تكون السمة الجوهرية لهذا العمل الأدبي، ما يجعلها تأخذ بعدًا نقديًا يتجاوز كونها رواية اجتماعية، إلى عمل يتأمل في معضلات الإنسان ومواقفه من الحياة والموت.
1. بين الشخصيات والواقع الاجتماعي: العائلة كمرآة للمجتمع
“سنوات النمش” ليست رواية عن عائلة محددة، بل هي رواية عن المجتمع نفسه بكل أبعاده. في هذا السياق، العائلة هي نموذج مصغر للمجتمع بكل ما فيه من تعقيدات وصراعات. يقدم الطويلة عبر شخصياته مجموعة من النماذج الاجتماعية التي تجسد قوى متصارعة: هناك “الحرامي المحترم” الذي يمتلك الأرض ويحارب الآخرين للاستحواذ على المزيد، وهناك “العمة عديلة” التي تحتج على الزواج المفروض عليها من قبل رجال العائلة، لكن هذه الثورة تظل فردية، لا تغير شيئًا في بنية المجتمع، بل تعيد التأكيد على استمراريته.
الحديث عن السرقات وأسلوب الحياة الذي تدور فيه شخصيات الرواية، ليس مجرد تصوير للفساد الاجتماعي، بل هو أداة تساؤل عن آليات القوة في المجتمع. الحرامي في هذه الرواية ليس مجرد لص، بل هو رمز للقوة التي تفرض نفسها من خلال الاستغلال والتسلط. يتشبع النص بالعديد من التناقضات التي تجسد هذه الفكرة، وكأن الطويلة يسعى إلى تسليط الضوء على التمييز الطبقي الذي يشكّل جوهر العلاقات داخل هذه العائلة، والتي هي، كما أشرنا، مرآة للمجتمع بشكل أوسع.
2. اللغة: الفصيحة والدارجة بين التوظيف الإبداعي والرمزية
من أبرز ما يميز رواية “سنوات النمش” هو الاستخدام المزدوج للغة الفصحى والعامية. هذه الخلطة اللغوية ليست مجرد أسلوب أدبي فني، بل هي مفتاح لفهم تكوين الشخصيات وتصوراتهم للعالم. يستخدم الكاتب اللغة كأداة فاعلة لإظهار التوترات الطبقية، الثقافية، والأيديولوجية التي يعاني منها مجتمع الشخصيات. فاللغة، التي تتراوح بين فصحى مكتملة التراكيب وعبارات عامية شائعة، تقوم بتشكيل الهوية السردية وتوضّح التباينات بين الطبقات والمواقف الاجتماعية.
توظيف اللغة الفصيحة والعامية في هذا النص له تأثير خاص، خاصة في مجال التحكم في الإيقاع الروائي. فالأحداث تنتقل من مشهد إلى آخر بموازاة مع توظيف طويل للغة، الذي يحاكي حركة الزمن والذاكرة. إنّ “اللغة” هنا ليست مجرد أداة توصيل، بل هي عنصر بناء جوهرى يدعم فكرة الذاكرة التي تشهد الأحداث وتكتبها بشكل مستمر. هذا التداخل بين الفصيح والعامي يعكس التقاطع بين الماضي والحاضر، ويجعل من النص أشبه بتوثيق لغوي مشهدي، يقدّم لنا عائلة متشابكة العلاقات والتقاليد.
وهكذا، تتحوّل اللغة في “سنوات النمش” إلى نموذج حيّ لما كان يشغل الأدب العربي في فترات سابقة، حيث نجد نوعًا من التعايش بين الفصحى والدارجة، كما كان الحال في أعمال مثل “الأيام” لطه حسين و”الطريق” لعبد الرحمن الشرقاوي. في هاتين الروايتين أيضًا، كانت اللغة أداة تعبير عن الهوية الاجتماعية والثقافية، حيث يكون الفصحى مرجعية ثقافية، بينما العامية تمثل الروح الحية للناس وحياتهم اليومية.
3. السرد وتقنيات الإيحاء: من اللقطات إلى المشهد المتكامل
يتميز أسلوب السرد في “سنوات النمش” بكونه متشظيًا في ظاهره، لكنه يتكامل في جوهره. يبدأ الطويلة عمله بلقطات صغيرة تبدو في البداية معزولة عن سيرورة الأحداث الكبرى، لكن سرعان ما تتداخل هذه اللقطات مع أحداث الرواية لتكملها وتغنيها. هذا الأسلوب يجعل من الرواية أشبه بـ تجربة سينمائية تعتمد على تقنيات السرد المتقطع، التي تجعل القارئ يقترب من الشخصيات تدريجيًا من خلال مشاهد قصيرة لكنها عميقة في دلالاتها.
إن “اللقطة” في هذه الرواية تتجاوز كونها صورة بصرية، بل هي أداة تعبيرية تشي بشيء أكبر. على سبيل المثال، في مشهد الحديث عن “الغواية” يخلق الطويلة عالمًا مصغرًا من خلال وصفه للعملية الزراعية البسيطة، مثل تنقية الدودة أو جني القطن، ليُظهِر حالة الاستلاب والاغواء التي تتعرض لها الشخصيات. هذا الارتباط بين العمل الجسدي والأنماط الرمزية في الرواية يعبّر عن السلطة والعنف غير المعلن، وهي تقنيات توظيفية ذات دلالة فلسفية أعمق.
4. السيرة الذاتية والخيال الروائي: تهجين بين الماضي والحاضر
الروائي في “سنوات النمش” لا يقتصر على كتابة رواية من خيال بحت، بل يدمج بين الواقع والخيال عبر تأثير سيرته الذاتية على البناء الروائي. من خلال الراوي الذي يتحدث عن نفسه وتاريخه الشخصي، يطرح الكاتب تساؤلات حول العلاقة بين الكاتب وعالمه الأدبي. يتساءل الراوي في النص عن وظيفته في هذه الحياة، وعن كيفية مسح النمش الذي يظل يرافقه طوال الوقت. هنا، يتلاعب الطويلة بالحقيقة والخيال ليخلق نصًا معقدًا، يبدو فيه الشخصيات وكأنها تمثل تمثيلات مختلفة للذات الإنسانية، تتنوع بين محاولات التمرد والقبول بالواقع.
التحول في نهاية النص، عندما يعلن الراوي عن زوال النمش عن روحه، هو تحول ليس فقط على مستوى الشخصيات، بل على مستوى الرؤية العامة للنص. ففي هذا السياق، يمكن القول إن الرواية تطرح فكرة التصالح مع الذات، أو على الأقل التأقلم مع الواقع، من خلال الاعتراف بالضعف والفساد اللذين لا يمكن الهروب منهما.
5. الخاتمة: “سنوات النمش” كوثيقة سردية تتأمل في المجتمع والحياة
رواية “سنوات النمش” ليست فقط شهادة على واقع اجتماعي، بل هي عمل أدبي يتخذ من اللغة أداة لتفكيك التراكيب الاجتماعية وتعريتها. تستخدم اللغة، السرد، والرمزية لفتح أفق واسع من التساؤلات حول الإنسانية والمجتمع، متجسدة في عائلة تتصارع مع نفسها ومع المحيط. تُظهر الرواية أن النمش ليس مجرد عيب في الجسد، بل هو حالة اجتماعية تمثل الفساد وال اختلالات الأخلاقية التي تدور في فلكها الأفراد والمجتمعات.
الطويلة هنا لا يعرض لنا مجرد قصة، بل يقدم لنا دراسة لغوية وفكرية عن الزمان والمكان، ويجعل من “النمش” ذاته مادة حية تخضع للزوال والتغيير.