منذ سقوط نظام بشار الأسد في الثامن من ديسمبر/كانون الأول الماضي، باتت سورية ساحة أساسية لتدخلات الاحتلال الإسرائيلي، الذي استهدف بعمليات قصف عنيف ترسانة الجيش السوري العسكرية بهدف منع قيام جيش قوي في المستقبل، بالتوازي مع التدخّل بشكل مباشر في الجنوب السوري. ولم يكتف الاحتلال بذلك، بل يعمل على استغلال مسألة الأقليات المذهبية والعرقية في سورية في محاولة لتقويض الإدارة الجديدة في البلاد، والدفع نحو تقسيم سورية تحت مبرر حماية الأقليات وتحديداً الدروز منهم. حماية لم يطلبها أي طرف سوري، بل إن الاحتلال هو من يروّجها في سياق مخططه لتفتيت سورية وإضعاف قيام دولة قوية قد تكون نداً له في المستقبل. وفي هذا الإطار، استغل الاحتلال أحداث جرمانا خلال اليومين الماضيين ليهدد بالتدخل حال “المساس بالدروز في جرمانا”.
وشكّلت أحداث جرمانا والتوترات في المدينة الواقعة على الأطراف الجنوبية الشرقية لدمشق فرصة لإسرائيل لمزيد من التدخل في الوضع السوري، عبر التحرك بادعاء حماية الدروز، وهو أمر تؤكد المرجعيات الدرزية رفضه، مع تحركها لاحتواء الوضع وعدم ترك أي مبرر للاحتلال لاستغلال الظروف القائمة. وتبذل الإدارة السورية الجديدة وفعاليات أهلية وعسكرية ومجتمعية من محافظة السويداء، جنوبي البلاد، جهوداً لاحتواء أحداث جرمانا عقب اشتباكات بين عدد من “الخارجين عن القانون” وقوى الأمن التابعة لوزارة الداخلية. وتسعى هذه الفعاليات إلى قطع الطريق نهائياً أمام إسرائيل التي تحاول اللعب على وتر الأقليات في سورية واتخاذ أي توتر في الجنوب السوري لمواصلة التدخل في هذا الجنوب.
فقد احتل الجيش الإسرائيلي، منذ سقوط الأسد، مواقع استراتيجية في المنطقة العازلة بعد نسف اتفاقية “فك الاشتباك” (1974) التي ظلت سارية خمسين عاماً، في مسعى لتحويل الجنوب السوري كله إلى منطقة عازلة منزوعة السلاح، خالية من أي وجود للجيش السوري الجديد، وهو ما أعلنه رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بصراحة في كلمة الثلاثاء الماضي. وقال إن الجيش الإسرائيلي سيبقى في جنوب سورية “في المستقبل المنظور”، و”لن نسمح بوجود تنظيم هيئة تحرير الشام أو أي جيش سوري جديد في المنطقة الواقعة جنوب دمشق”، مضيفاً: “ستكون جنوب سورية منطقة منزوعة السلاح”. كما بدأت إسرائيل أخيراً في الترويج الإعلامي لمخطط يحمل اسم “ممر داود”، يقوم على اقتطاع شريط على طول الحدود السورية الجنوبية والشرقية وصولاً إلى مناطق يسيطر عليها مسلحون أكراد في شمال شرق سورية.
وكانت وكالة رويترز قد نقلت قبل أيام عن أربعة مصادر مطلعة أن إسرائيل تضغط على الولايات المتحدة لإبقاء سورية ضعيفة ومفككة من خلال السماح لروسيا بالاحتفاظ بقاعدتيها العسكريتين في طرطوس وحميميم باللاذقية لمواجهة النفوذ التركي المتزايد في البلاد. وذكرت ثلاثة مصادر أميركية وشخص آخر مطلع على الاتصالات، وفق “رويترز”، أن إسرائيل نقلت وجهات نظرها إلى كبار المسؤولين الأميركيين خلال اجتماعات في واشنطن في فبراير/شباط الماضي، واجتماعات لاحقة في إسرائيل مع ممثلين في الكونغرس الأميركي. وقالت المصادر إن مسؤولين إسرائيليين عبّروا لمسؤولين أميركيين عن قلقهم من أن الحكومة الجديدة قد تشكل تهديداً خطيراً وأن الجيش السوري الجديد قد يهاجم إسرائيل في المستقبل.
هدوء في مدينة جرمانا بعد يومين من اشتباكات بين من وُصفوا بـ”الخارجين عن القانون” وعناصر من إدارة الأمن العام في وزارة الداخلية
أحداث جرمانا
ساد مدينة جرمانا، صباح أمس الأحد، هدوء حذر بعد يومين من التوتر الذي تخللته اشتباكات بين من وُصفوا بـ”الخارجين عن القانون” وعناصر من إدارة الأمن العام في وزارة الداخلية، أدت إلى مقتل وإصابة عدد من الأشخاص بينهم مدنيون. واستدعت الأحداث في المدينة تدخّل وفد ضم قيادات من الفصائل المحلية في محافظة السويداء قدم إلى جرمانا بهدف احتواء التوتر، والتوصل إلى تهدئة مع الإدارة في دمشق. وكانت أحداث جرمانا قد تصاعدت، منذ مساء الجمعة الماضي، عقب شجار في ساحة السيوف بين عدد من الأشخاص أدى إلى إصابة شخص من عائلة قبلان في المدينة، جرى نقله إلى مستشفى في العاصمة، وحدوث احتكاك مع عناصر من الأمن العام هناك.
أدى انتشار الشائعات وحملات التحريض على وسائل التواصل الاجتماعي إلى محاصرة مجموعة أهلية أخرى مخفر المدينة، الذي جرى تفعيله حديثاً من قِبل وزارة الداخلية بموافقة الفعاليات الاجتماعية والدينية في المدينة، وفق شبكات محلية أشارت إلى هذه المجموعة طردت عناصر المخفر بعد تجريدهم من أسلحتهم. وبحسب مصادر محلية، فقد اعتدت مجموعة مسلحة تطلق على نفسها اسم “لواء درع جرمانا” على عناصر من الجيش السوري، أول من أمس السبت، ومنعتهم من دخول المدينة بأسلحتهم. ووفق ما نقلته وكالة الأنباء السورية “سانا” عن مدير مديرية أمن ريف دمشق المقدم حسام الطحان، فإنه “أثناء دخول عناصر تابعين لوزارة الدفاع إلى جرمانا بهدف زيارة أقاربهم، جرى إيقافهم عند حاجز يتبع لما يُعرف بدرع جرمانا ومنعهم من الدخول بسلاحهم”. وأضاف الطحان أنه “بعد تسليم عناصر وزارة الدفاع أسلحتهم، تعرضوا للضرب والشتائم من قبل عناصر الحاجز، قبل أن تُستهدف سيارتهم بإطلاق نار مباشر. وعلى خلفية حادثة إطلاق النار من حاجز في جرمانا، قتل أحد العناصر على الفور، فيما أصيب آخر وأسره عناصر الحاجز”.
في سياق تطورات أحداث جرمانا نقلت “سانا”، مساء أمس، عن الطحان قوله إن “قواتنا بدأت الانتشار داخل مدينة جرمانا، وذلك بعد رفض المتورطين في اغتيال الشهيد أحمد الخطيب، العامل في وزارة الدفاع، تسليم أنفسهم”، مضيفاً: “سنعمل على إلقاء القبض عليهم لتقديمهم للقضاء العادل”. وشدد على أن القوات “ستعمل على إنهاء حالة الفوضى والحواجز غير الشرعية التي تقوم بها مجموعات خارجة عن القانون امتهنت عمليات الخطف والقتل والسطو بقوة السلاح”، لافتاً إلى أن “المسلحين الخارجين عن سلطة الدولة رفضوا جميع الوساطات والاتفاقات، ونحن بدورنا أكدنا أنه لن تبقى بقعة جغرافية سورية خارج سيطرة مؤسسات الدولة”. وتابع: “لمسنا من أهالي مدينة جرمانا تعاوناً كبيراً في هذا الشأن”.
وأعلن شيوخ ووجهاء مدينة جرمانا، في بيان أول من أمس، رفع الغطاء عمن وصفوهم بـ”الخارجين عن القانون”. وقال شيخ مدينة جرمانا أبو عهد هيثم كاتبة، خلال لقائه وفداً جاء من محافظة السويداء، إن “جرمانا جزء لا يتجزأ من سورية الأم، ودمشق ستبقى قبلتنا”، مشدداً على أن أهالي جرمانا متفقون على ضرورة محاسبة المسؤولين عن الحوادث الأخيرة. كما أكد مشايخ وأهالي جرمانا، في بيان في اليوم نفسه، أنهم قرروا “رفع الغطاء عن جميع المسيئين والخارجين عن القانون”، و”العمل على إعادة تفعيل مركز ناحية جرمانا وبأسرع وقت وبكفاءات قادرة على إدارة الواقع بحكمة واقتدار”. كما شددوا على أن “جرمانا وعبر تاريخها لم تكن يوماً إلا جزءاً من غوطة دمشق، ولن يكون لها يوماً عمق آخر غير العمق الدمشقي والسوري”، مضيفين أن “جرمانا، التي طالما تغنت بأنها سورية الصغرى ومدينة السلم الأهلي والعيش المشترك، لن تدخر فعالياتها الاجتماعية والروحية وعقلائها جهداً في الحفاظ على هذه الصورة بجميع الوسائل المتاحة”.
استغلال إسرائيلي
جاءت تلك البيانات رداً على محاولة الجانب الإسرائيلي استغلال أحداث جرمانا لمزيد من التدخل في الشأن الداخلي السوري تحت مزاعم “حماية الدروز”، التي يتخذ منها مدخلاً لاحتلال أراض سورية وفرض واقع جديد في جنوب سورية. وتعد جرمانا بلدة متنوعة ديمغرافياً، إذ تضم اليوم نسيجاً سكانياً من أغلب المحافظات السورية، إلا أنها مركز للدروز في محيط دمشق إضافة إلى بلدة صحنايا. وجاء في بيان لديوان نتنياهو أن رئيس الحكومة ووزير الأمن يسرائيل كاتس أصدرا تعليمات للجيش بحماية سكان جرمانا، التي تقع على بُعد حوالي 60 كيلومتراً من الحدود الإسرائيلية. وأضاف البيان، مساء أول من أمس، أن “الجيش الإسرائيلي سيضرب السلطات السورية في حال مساسه بالدروز في جرمانا”، مضيفاً أن “إسرائيل لن تسمح للنظام الإسلامي المتطرف في سورية بالمساس بالدروز”، على حد وصف البيان. من جهته، هدّد كاتس، مساء السبت، بالتدخل عسكرياً في سورية ضد قوات دمشق “إذا أقدمت السلطات على المساس بالدروز”.
مصدر: الإدارة الجديدة تبذل جهوداً حثيثة لاحتواء التوتر في جرمانا والسويداء وعدم منح أطراف خارجية أي ذريعة للتدخل في الشأن السوري
جهود لاحتواء التوتر
تتعامل الإدارة السورية الجديدة بـ”هدوء” وحذر مع ملف الجنوب السوري نظراً إلى تعقيدات الموقف. وبحسب مصدر مقرب من الإدارة تحدث لـ”العربي الجديد”، تبذل هذه الإدارة جهوداً حثيثة لـ”احتواء التوتر في جرمانا والسويداء وعدم منح أطراف خارجية أي ذريعة للتدخل في الشأن السوري”. وأشار إلى أن الإدارة السورية “حريصة على التعامل مع هذه المواقف بكل سعة صدر من منطلق الحرص على الوحدة الوطنية واحترام التنوع الموجود في البلاد”، مضيفاً أن “الإدارة بصدد تفعيل حوار للخروج من الحالة الطائفية إلى الحالة الوطنية”. تعليقاً على أحداث جرمانا الأخيرة، رأى الأكاديمي السوري المنحدر من محافظة السويداء يحيى العريضي، في حديث مع “العربي الجديد”، أن احتواء الموقف يتطلب “تحكيم العقل والحكمة باتقاء ما يُبثّ في وسائل التواصل الاجتماعي من معلومات مغلوطة وغير صحيحة تعكس تشوّه الوعي والمواقف الرعاعية”. كما دعا العريضي إلى “عدم الانسياق وراء تصريحات المحتل (إسرائيل) الذي يعنيه دمار البلد بعد أن خسر منظومة الأسد العميلة”، مضيفاً: “السوريون ليسوا مسؤولين عن تصريحات نتنياهو أو غيره”.
يحيى العريضي: يجب النظر في غياب موقف واضح من الحكومة المؤقتة، والقلق من عدم تحملها مسؤوليتها باتخاذ الموقف السياسي المناسب
واعتبر العريضي أن “المستجدات في المنطقة الجنوبية وفي جرمانا ليست مسؤولية محلية، بل مسؤولية وطنية”، مشدداً على أنه “عوضاً عن مطالبة المجتمع الأهلي بمواقف رسمية، يجب النظر في غياب موقف واضح من الحكومة المؤقتة، والقلق من عدم تحملها مسؤوليتها باتخاذ الموقف السياسي المناسب”.من جهته، رأى الباحث السياسي حازم نهار، في حديث لـ”العربي الجديد”، أنه “لا توجد مشكلة خاصة بالدروز في سورية”، وعلى ذلك، فهو لا يتفق مع استخدام مصطلح “الملف الدرزي”، منبهاً إلى “خطورة استخدام مثل هذا التعبير أو ما يماثله”.
حازم نهار: الحلول العسكرية والأمنية قاصرة وخطرة، ولن يكتب لها النجاح في حصر السلاح بيد الدولة والحفاظ على السلم الأهلي
وأضاف أن هناك “استحقاقات سياسية مطلوبة على مستوى الوطن السوري كله، وهذه الاستحقاقات تحتاج إلى حل سياسي”، موضحاً أن “الحلول العسكرية والأمنية قاصرة وخطرة، ولن يكتب لها النجاح في حصر السلاح بيد الدولة والحفاظ على السلم الأهلي”. وبرأي نهار، فإن “الحل المطلوب هو حل سياسي، وهذا بيد السلطة بشكل أساسي”، مشيراً إلى أن “المؤتمر الوطني السوري (اختتم الثلاثاء الماضي) كان فرصة مهمة لإنتاج هذا الحل لكنها ضاعت”. لذلك فباعتقاد نهار، “يفترض أن يقدم الإعلان الدستوري أساسيات هذا الحل السياسي: التعهد ببناء نظام سياسي ديمقراطي لا مركزي، التعهد ببناء جيش وطني سوري لا يتدخل في الحياة السياسية، إنشاء الهيئة السورية للعدالة الانتقالية، التعهد بأن يصاغ الدستور المقبل من قبل جمعية سورية تأسيسية منتخبة”.