فى شوارع ودروب وأزقة ضيقة، تطل عليها بيوت عتيقة تعبر عن عراقة الماضى وأصالته، تجتمع خلية نحل من الحرفيين، تغلف أيديهم بالحرير لجمال ما تصنعه من قطع خشبية فاخرة مرصعة بالصدف والأرابيسك، بينما يصطف الزوار والأجانب أمامهم منبهرين ببراعتهم وروعة منتجاتهم.
ظلت أنامل صناع الدرب الأحمر، أحد أحياء القاهرة القديمة، تخرج للعالم أجمل المشغولات اليدوية والمنتجات الفنية من مهن توارثوها أبًا عن جد، فبمهارة وحرفية يجعلون من قطع خشب صماء، تحفًا وأنتيكات مبهرة منها المرصع بالصدف، ومنها المحلى بعظام الحيوانات وقطع الأرابيسك، تكتسب أصالتها بما تحتضنه من تفاصيل.
تجمع المهنة بين الجمال الطبيعى للصدف والأرابيسك وبراعة الأيادى الماهرة، التى تتداخل فى عمل فنى واحد، قد يكون بروازًا أو شباكًا أو كرسيًا أو شكمجية أو علبة بونبونيرة، فالخشب له نجار يقوم بتقطيعه وتشكيله وتركيبه، وللأرابيسك خراط يطوع قطع الخشب لأنماط خطية وهندسية متداخلة، وللأصداف البحرية صدفجى يشكل منها قطعًا هندسية تتزين بها القطعة الخشبية.
جمال المنتج والإبداع فى تصنيعه، يعكس مهارة عدد من الحرفيين فى العمل الفنى المصنوع من الخشب والمُطعم بالصدف والأرابيسك، حسب ما أوضحه عمرو أحمد نادى الشهير بعمرو زيكا، أحد أشهر صدفجية منتجات خان الخليلى بشارع باب الوزير: “الفن العربى يدخل فيه شغل الخرط “الأرابيسك”، والشغل المنبرى، الخشب المتداخل ببعضه البعض، والصدف الذى يستخدم فى تزيين قطع الخشب، وصولًا لمرحلة الدهان والتلميع التى ينفذها الاستورجي“.
لم يرث “عمرو” المهنة أبًا عن جد كأقرانه، وإنما عمل فيها بدافع الحب والموهبة والرغبة فى النجاح: “فى التاسعة من عمرى وخلال إجازة العام الدراسى ذهبت للعمل فى أحد مصانع البساتين، التى كانت تحوِل خشب الأشجار لمنتجات الأرابيسك من الكراسى والأنتريهات وغرف النوم، وهناك وجدت كل عناصر المهنة تجتمع معًا، الخرًاط، والصدفجى، والاستورجى، والمنجد، وصانع منتجات الزجاج، فريق عمل متكامل بدأت معهم كصبى صغير يجتهد فى أن يتعلم كل مراحل التصنيع ويكتسب خبرة متكاملة تساعده على أن يصبح صنايعى ذو خبرة ومهارة وشأن، ومع مرور الوقت تعلمت الشغل العربى بكل مراحله وتفاصيله، سواء النجارة أو الأرابيسك أو الصدف، وأتقنت تصنيع منتجات الزخرفة الإسلامية والقبطية والفرعونية والفارسية“.
مراحل التصنيع عديدة، تبدأ بتجهيز الخامات وتنتهى بالصنفرة والطلاء والتلميع حتى تتحول قطعة الخشب الصماء لتحفة فنية قيمة تنطق جمالًا بالصدف البحري: “بعد تصنيع النجار لهيكل القطعة الخشبية، يبدأ عملى بتجهيز الصدف، ومنه المصرى، والعمانى، والأسترالى، وتنظيفه وصنفرته وتقطيعه لأشكال وأنماط هندسية صغيرة بمقاسات متساوية ومتناسقة، مثل المثلث والمربع وتصنيفه فى مجموعات حسب درجات الألوان، ومن ثم تعشيقه فى قطعة الخشب بناءً على التصميم والشكل المطلوب“.
تتنوع الخامات المستخدمة فى تزيين وتجميل الخشب، لتنتهى بها قطعة فاخرة تخلق إحساسًا جميلًا لدى الناظر: “الخامات المستخدمة فى تزيين الخشب متنوعة، فلا يقتصر التطعيم على الصدف، فنستخدم خامات أخرى من الطبيعة أثمن وأغلى من الصدف، كخشب الجوز والورد والأبنوس، والنحاس، وصدفة السلحفاة، والعظام، وقرن الجاموس، وخف الجمل، وتحتاج الأخيرة لمهارة وحرفية عالية، خاصة وأنها أصعب فى التصنيع ويبذل فيها الصانع مجهودًا أكبر“.
تمثل الحرفة حالة عشق بين الصانع وصنعته، فهى ليست مجرد مصدر رزق وإنما مصدر إبداع لا حدود له: “تختلف الأذواق مع تنوع الخامات المستخدمة فى التصنيع، فالبعض يحب الجمع بين الصدف والأرابيسك، وهناك من يميل إلى الجمع بين خامتى النحاس والعظام، أو الجمع بين النحاس والخشب أو الصدف، وفى النهاية لكل توليفة جمال خاص يُظهره مهارة الصانع ودقته ولمسته الجمالية وحسه الفنى وخياله وقدرته على تجميع القطع مع بعضها البعض بشكل متناغم وجذاب“.
يضفى الأرابيسك طابعًا مميزًا على القطعة الخشبية بتصميماته وزخارفه الهندسية المتناغمة: “تمر مراحل تصنيع الأرابيسك بالخراطة، والحفر، والتشكيل، والتخريم، والصنفرة، والطلاء، وللخرط أنواع، منه الميمونى، والإسلامى، ولكل نوع تصميمه الخاص، الذى يغلب عليه جماليات الزخرفة والأشكال الهندسية وتكراراتها“.
تتنوع منتجات الصدف بين أنامل صناعها، لتحافظ على مكانتها وهويتها وتتخطى الحدود وتبهر العالم: “أى شيء يمكن تطعيمه بالصدف، نصنع الصناديق، وعلب المجوهرات، والآلات الموسيقية، وعلب الشطرنج، والسيوف، والكراسى، والطاولات، والبراويز، وغيرها، وأكبر منتج نفذته، لوحة حائط بطول أربعة أمتار وعرض ثلاثة أمتار، احتوت على مليون قطعة من الصدف، استغرق تجميعها ما يقرب من أربعين يومًا، ومنتجاتنا تعرض فى بازارات خان الخليلى، الهرم، نزلة السمان، الأقصر، أسوان، وتطلب فى دول عديدة، أبرزها السعودية، الإمارات، البحرين، ليبيا، والولايات المتحدة الأمريكية“.
فى عالم الحرف التقليدية المصرية، وتحديدًا الصدف والأرابيسك، يبرز رامى محمد عثمان، الحرفى الذى أفنى عمره فى هذه المهنة التراثية، والتى ورثها عن والده، مهندس الديكور، ليصبح واحدًا من أبرز صانعى المنتجات العربية الأصيلة.
لكل حرفى قصة تبدأ بخطوات صغيرة، لكنها تترك أثرًا كبيرًا فى مسيرته، بدأت رحلة رامى فى عالم الصدف والأرابيسك منذ أن كان طفلًا فى السادسة من عمره، إذ اعتاد أن يرافق والده إلى ورشة النجارة والصدف، ليغوص فى تفاصيل الصنعة ويكتسب أسرارها خطوة بخطوة، ورغم إكماله لتعليمه حتى مرحلة الدبلوم، إلا أن تركيزه الأول كان على تطوير مهاراته الحرفية، ساعيًا إلى تقديم منتجات متميزة تجمع بين الأصالة والجودة.
وراء كل قطعة أرابيسك قصة إبداع تبدأ بفكرة وتنتهى بتحفة فنية نابضة بالحياة، يعتبر الشغل العربى، كما يصفه رامى، ليس مجرد حرفة، بل هو فن ينبع من الخيال ويتحول إلى واقع ملموس من خلال عمليات دقيقة ومتقنة، تبدأ بتشكيل القطعة الخشبية، وتمر بمراحل تصنيع مختلفة، حيث يتم تفصيل الخشب، ثم إدخال زخارف الأرابيسك عليه، وبعدها تأتى مرحلة تطعيمه بالصدف الطبيعى، وأخيرًا مرحلة التشطيب والتلميع لإخراج المنتج بأفضل صورة.
مع تطور الزمن، تغيرت استخدامات الأرابيسك، كما أكد رامى أن هذه الصناعة تطورت بشكل كبير، فلم تعد مقتصرة على المساجد والبيوت الإسلامية كما فى الماضى، بل امتدت لتشمل تصميمات حديثة مثل الأثاث العربى، المجالس العربية، غرف النوم، علب المجوهرات، علب السبح والمناديل، الكراسى، وحتى الصوانى، مما يجعلها مناسبة لمختلف الأذواق والاستخدامات.
يعتبر سر نجاح أى حرفة هو قدرتها على التطور ومواكبة التغيرات، مع الحفاظ على روحها الأصيلة، لذلك يحرص رامى على الابتكار باستمرار، إذ يسعى لتقديم تصاميم جديدة ومتنوعة تلبى احتياجات السوق المحلى والعالمى، مؤكدًا أن الشغل اليدوى المصرى يحظى بطلب كبير، حيث يتم تصديره إلى العديد من الدول مثل السعودية، الكويت، المغرب، قطر، وأوروبا.
لا تعنى الخبرة الطويلة التوقف عن التعلم، بل تفتح الأبواب لاكتشاف المزيد: “رغم أننى قضيت أكثر من 40 عامًا فى هذه المهنة، إلا أننى ما زلت أتعلم وأبتكر، فكل قطعة نصنعها هى تجربة فريدة من نوعها، والشغل العربى اليدوى يظل مطلوبًا فى كل مكان، ونحن نسعى دائمًا لتقديم الأفضل“.
الحرف اليدوية ليست مجرد صناعة، بل هى مرآة تعكس تاريخًا طويلًا من الفن والإبداع، وهكذا تستمر حكاية رامى محمد عثمان، صانع الصدف والأرابيسك، الذى يثبت أن الحرف اليدوية ليست مجرد صناعة، بل إبداع متجدد يحمل روح التراث وأصالة الفن الإسلامى إلى كل بقاع العالم.
أشهر صدفجي بالدرب الأحمر

أكبر قطعة خشبية

تزيين الخشب بالأرابيسك والصدف

رامي محمد عثمان أبرز صانعي المنتجات العربية الأصيلة

رامي محمد عثمان

ظهر سلحفاة لتطعيم الخشب

عالم الصدف والأرابيسك

علب المجوهرات

عمرو زيكا أحد أشهر صدفجية منتجات خان الخليلي بشارع باب الوزير

فن تطعيم الخشب

قطع خشبية مرصعة بالصدف والأرابيسك

مراحل التصنيع

مرايات مُصنعة بالأرابيسك

منتجات الصدف والأرابيسك

منتجات مصنوعة من الخشب ومُطعمه بالصدف والأرابيسك

ورشة تطعيم الخشب الدرب الأحمر