شهد القرن الحادي والعشرون تقدّمًا معتبرًا على مستوى حقوق الإنسان، وتصدّرت موضوعات الخصوصية والفرادة والاختلاف داخل الوطن وحرية الأفراد في مجتمعات سمتها المشتركة التعدّدية. كان هذا التقدّم ضمن تيار فكري عالمي تبنّته منظمات حقوقية وإنسانية، تقاطعت مضامينه مع ما ورد في المادة الأولى للإعلان العالمي لحقوق الإنسان “يولد جميع الناس أحرارًا ومتساوين في الكرامة والحقوق: هم موهوبو العقل والضمير وعليهم أن يعامل واحدهم الآخر بروح من الإخاء”.
إلا أن ما يخبرنا به التاريخ المنصرم، كما الحاضر، أن إشكاليات كثيرة تكمن بين النصوص التي وضعت كخارطة طريق لعيش الجماعات بعضها مع بعض. لنا أن نأخذ من لبنان مثالًا، إذ قام هذا البلد منذ الاستقلال على تعدّدية طوائفية خضعت لبنود وميثاق يحدّد روحيّتها، من بينها التعايش والمحبة والتسامح وحرية الآخر والرأي، وحماية الأقليات، إلا أن التطورات الإقليمية والعربية التي تأثّر بها وضعته أمام تحدّيات كثيرة، من بينها ما طاول التعايش بين طوائفه، على خلفية الشعور بالغبن في توزيع الأدوار السياسية والوظائف والإدارات وغيرها.
وقد كُتب لهذا البلد أن يعيش سنوات من النمو والازدهار والسلم الأهلي، كما كُتب له أيضًا أن يعيش تراجعًا اقتصاديًا وحروبًا بين مكوناته الاجتماعية، لا زالت تأثيراتها قائمة حتى يومنا هذا. تحدّيات العيش في مجتمع تعدّدي، تبرز اليوم إلى الواجهة كموضوع بالغ الأهمية، يحتاج نقاشًا لفهم الآخر المختلف وكشف نقاط الاختلاف والتلاقي والإشكالية بين القوانين والواقع.
كان هذا الأمر محط اهتمام مجموعة من الأكاديميين الباحثين المشتغلين في الفلسفة والعلوم الإنسانية، الذين تجاوزوا في أبحاثهم وقراءاتهم الآني والسياسي، فخاضوا في الاجتماع والدين والتاريخ والفلسفة، في ندوة صدرت في كتاب تحت عنوان “تحدّيات العيش معًا في مجتمع تعدّدي” أصدره المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2024. شارك فيه كل من خالد زيادة، الأب صلاح أبو جودة، عفيف عثمان، مارلين كنعان، مشير عون، نادر البزري، نايلة ابي نادر ووليد خوري.
بين الغرب والشرق
يخوض زيادة في مسألة تعايش مجتمعات الشرق والغرب، هذه الأخيرة اتخذت شعارات الحرية والمساواة، التي انتجتها الفلسفة الحديثة في العالم، كأفكار ديكارت الذي قال إن “العقل هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس”، “أهمية هذه الأفكار أنها تساهم في هدم الحواجز والطبقات التي تصنف البشر وفقًا لانتسابهم الديني، ووضعهم الطبقي والعرقي”، يلفت خالد زيادة إلى تأثير أفكار الثورة الفرنسية في السلطنة العثمانية التي تبنّت في عام 1839 قانونًا يتضمن المساواة بين الرعايا، ثم انتقلت هذه الأفكار إلى مصر وتونس حيث وجدت صداها بين كثيرين، من بينهم رفاعة الطهطاوي والشيخ الأزهري وخير الدين التونسي وبطرس البستاني، إلا أن إشكالية هذه القوانين أنها تأتي عبر إملاءات من دول أوروبية، من دون أن تكون مشروطة بوقائع اجتماعية.
“تحدّيات العيش في مجتمع تعدّدي، تبرز اليوم إلى الواجهة كموضوع بالغ الأهمية، يحتاج نقاشًا لفهم الآخر المختلف وكشف نقاط الاختلاف والتلاقي والإشكالية بين القوانين والواقع”
الإشكالية الأخرى التي واجهها النهضويون آنذاك، كما يذكر زيادة، كانت في اختلاف الأنظمة بين الشرق والغرب، إذ لكل منها مرجعية تاريخية، “فمبدأ المساواة بحسب التنوير الغربي، يمد جذوره في تراث يقوم على نفي الآخر، وافتراض المساواة بين متماثلين”، فيما الأقاليم المجاورة لأوروبا، التي كانت تحت الهيمنة العثمانية، تبنّت نظامًا تعدّديًا عرف بنظام الملل، الذي يعترف لأصحاب العقائد المغايرة باختلافها الديني والثقافي وحتى اللغوي.
في أصل الاجتماع الإنساني
حول مفهوم الغيرية في الاجتماع الإنساني، تعرض مارلين كنعان أفكار أفلاطون وأرسطو وابن خلدون وهوبز وروسو، ومعظمها يجمع على أن “التعاون والتنافس مع الآخر هما في أصل الاجتماع الإنساني ونموه وازدهاره”، فالإنسان كائن لا يمكنه العيش في معزل عن الآخر ولا يتم وجوده إلا مع أبناء جنسه، لما هو عليه من العجز عن استكمال وجوده وحياته، والفلسفة ليست جامدة، وفقًا لها، والأفكار الفلسفية تحفز على ابتكار أساليب ومفاهيم وطرائق وقيم أخلاقية، تبثها في الأفراد والجماعات، كما تبرز فاعليتها في التربية والتعليم، ذلك “يعلي من شأن الاستماع إلى الآخر واحترامه والتضامن معه”.
طائفية الميثاق الوطني
يفنّد الأب صلاح أبو جودة اليسوعي، بنود الميثاق الوطني والعراقيل التي تواجه تطبيقه، في بلد مثل لبنان، فهذا الميثاق جعل الاستقلال ممكنًا، كونه يؤمن داخليًا مشاركة في الحكم على أساس طائفي، وخارجيًا يضمن حياد لبنان، وبوجه خاص تجاه كل ما يهدّد خصوصيته واستقراره. الميثاق في هذه الحال، قاعدة حكم إلزامية طائفية الطابع لضمان ديمومة البلاد، ومرجعية البحث عن حلول للأزمات السياسية أو الوطنية. لقد أظهر المسار التاريخي، كما ورد في بحث أبو جودة، عدم قدرة الميثاق على تجاوز الأزمات الداخلية، والدليل على ذلك ما عاناه لبنان من أحداث متكررة وخلافات على تقاسم السلطة والوظائف، وتكرار طرح موضوع غياب المساواة.
بناء الخير العام
يدخل عفيف عثمان إلى موضوع التعايش من باب التعدّدية، ولا سيما الثقافية منها، كالتركيز على المهمة التربوية لتعلّم “العيش معًا”، بوصفه مدخلًا رئيسًا للمواطنة بحسب منظمة اليونسكو. ويعبّر ذلك بحدّ ذاته عن فهم واحترام الآخرين، في اعتقاداتهم وقيمهم الثقافية، إذ الاختلاف من هذا المنظار يعتبر موردًا لبناء “الخير العام”، يتميز هذا البناء بمسار غير عنفي وتعايش سلمي، ومن أهدافه: صون كرامة الإنسان وتعزيزها، والاحترام والتفاهم المتبادلين، والتقمص العاطفي، أي القدرة على وضع النفس مكان الآخر، والمسؤولية الفردية والجماعية والعمل على بناء الجسور، وتعليم الأخلاق. يبشر عثمان باشتغال الفلسفة باليومي، ويدعو إلى تبنيها كأسلوب حياة غير معلن، يساعدنا على تحمل المصاعب وأبرزها، العيش معًا.
بين الكونية والخصوصية
يخوض مشير عون في مفارقات “كونية شرعة حقوق الإنسان وخصوصية الحضارة الغربية” بكل ما تختزنه تلك من التباسات، سيما وأن العالم المعاصر يحيا على إيقاع هذه الحضارة ووفقًا لمتطلبات حداثتها التي واجهتها من الداخل الغربي. كل ذلك يضع هذه الحضارة أمام عدم شموليتها ونسبيتها. من هنا، وفقًا لعون، لا يجوز أن ننزّه الحضارة الخاصة عن عوامل التأثر بالمحيط الأقرب والأبعد وبالغيريات التي تكتنف الجماعة الساعية إلى نحت هويتها التاريخية الخاصة “فشرعة حقوق الإنسان نفسها متعدّدة في التفسير وهذا مأزق من مآزقها”.
الديمقراطية كضامن
يرى نادر البزري أن النظام السياسي وما يعكسه من ديمقراطية، من شأنه أن يضمن تمثيلًا توافقيًا للأطراف، الأمر الذي يسهم في إنجاز ما ترنو إليه الجماعات من مقاصد. إذ أن هذا النظام يتيح للمواطنين أن ينتخبوا ممثلين عنهم، وبالتالي هم يعكسون تعدّد الجماعات وتنوعها، وإشراكها في صنع القرار من باب التشريع والتنفيذ.
إن أهمية التشديد على حماية حقوق الأقليات تنطوي بنظر البزري على صون الفئات المهمشة ضد التمييز، كما أنها تضمن تمثيلها ومشاركتها في العمليات السياسية، وهذا يتطلب سيادة القانون في تحصيل المساواة ضمن النظام السياسي، الذي يعامل الأفراد والجماعات على قدم المساواة، بغض النظر عن خلفياتهم.
فحص تجربة العيش اللبناني
يرد وليد خوري مكامن العجز في تجربة العيش معًا في مجتمع تعدّدي كلبنان، إلى افتقار مكونات هذا المجتمع إلى رغبة صادقة في العيش في ظل مؤسسات عادلة. هذا العجز يظهر في الخطاب اليومي “التكاذب والنفاق والمراوغة واستغلال الوقت من أجل تحقيق المكاسب الذاتية والفئوية”، حتى أن الخطاب نفسه يتخذ صورة نمطية ليس لها وجود حقيقي في الواقع، إذ أنها تصدر عن أفعال تقوّض مبدأ العيش معًا، وتعكس خواء أخلاقيًا سببه كما يذكر خوري “انعدام اعتبار القيم اليونيفرسالية في ثقافتنا، وفي أنظمتنا التربوية خصوصًا، والاكتفاء منها بما يخدم العيش بخير مع الأقربين، أو مع من يشبهنا أو مع من تجمعنا به مصلحة دون الأبعدين والمختلفين عنا”.
أين العلة؟
تطرح نايلة أبي نادر أسئلتها حول دوافع التطرف لدى الفاعلين الاجتماعيين، مثل رفض الآخر المختلف، إدانته، هدر دمه، في وطن مثل لبنان اختبر حربًا أهلية، لم تشكّل درسًا وافيًا رغم كل ما عاشه اللبنانيون من ويلات. تبحث أبي نادر عما إذا كانت مكامن العلة، في عالم الأفكار أم في إطار المسلكيات؟ ومن الذي جعل من الاعتدال والتموضع في الوسط موقفًا ضعيفًا؟ مؤكدة أن ما ينقص لبنان، ليس إنتاج نصوص حول الموضوع ولا قلة إبداع المفاهيم، بقدر ما هو “قلة التوقف عند قراءة نقدية لكيفية فهم هذا العيش وتطبيقه”.
إن التلاعب في صيغة “العيش معًا”، كما تنظر إليه أبي نادر، هو في ازدواجية المجال العام. إذ أن ما يقال في العلن لا يتوافق مع ما يهمس به في السر، أمر يتنافى مع الشفافية والموضوعية.
ختامًا، ليست الأفكار والنظريات والنظم الفلسفية والسياسية والدينية، التي أوجدتها العلوم على اختلافها، سوى سبل وخارطة طريق لتقبّل الجماعات بعضها لبعض بالرغم من اختلافاتها، علمًا أن العالم قائم أصلًا على تحولات وتغيرات دائمة مما يفضي إلى المزيد من الحروب والتهجير والانقسامات والخلافات.