– كان والدك الموسيقار توفيق الباشا يقول إن ما تعطيه في العزف هو شعورك كشرقي. هل ما زلت تحتفظ بهذا السر.. بهذا الشعور؟
* في رأيي أنّ الطفل هو أبو الإنسان. الطفولة هي الجذور والينابيع. ومهما تفرعت الأغصان وتشعبت وتشابكت تبقى الجذور في أرضها. هذه حياتي. وحياتي تظهر في العزف. لا أعزف بيتهوفن أو شوبان أو موتسارت مثل غيري. ربما يرى البعض عزفي غريباً أو مختلفاً. لكني ألاحظ أن أوروبا المتوسطية تتفاعل وتتجاوب مع عزفي، يحبونه أكثر من غيرهم. ربما لأن الشمس والحرارة والنور في تضافر دائم مع الموسيقى والحياة.
– أثناء العزف، كيف تتواصل مع الجمهور؟ هل تصل معهم إلى ما نسميه في الموسيقى العربية رُتبة المقام؟
* إن لم أبلُغ هذه الحالة… بيكون في شي غلط. عندما يشعر العازف أنه سَلطَن على الآلة وروحه صارت مع الجمهور، فهو هنا في الذروة. لكن هذه الحالات لا تحدث دائماً، ولا طوال الوقت. يمكن أن تحدث في لحظات أو دقائق وأشعر حينها برضى غامر. وأشعر أنني لا أبذل الجهد مع البيانو بل هناك انسياب وهنا يحدث الجمال المتكامل. ويلاحظ الجمهور ذلك ويعرف انه ليس أمراً عادياً. أنت تبحث عن الجمال وتصل إليه من دون أن تبحث عنه ومن دون أن تبذل جهداً. إنه الجمال يولد كالسحر ثم يتناثر.
– هل ينتقل عبد الرحمن الباشا من العزف إلى الارتجال إلى التأليف؟
* عزفت في باريس مقطوعتين من تأليفي. لم أحترف التأليف لكنه فرصة لي، فضاء لأقول بعض أفكاري. لا أخفيك أن هذه المقطوعات المتواضعة لاقت صدى طيباً. أعترف بتواضع بذلك. لكن مقارنة مع الأعمال العظيمة التي أعزفها، أقول عنها أنها تأليف شخصي، مرآة لحياتي الداخلية. لقطات. وهذه الأعمال موجودة في “سي دي” منذ العام 2017.
– اشتغلت غير مرة على لحن لمحمد عبد الوهاب على البيانو. لماذا لم تكرر ذلك مع غيره من الملحنين العرب؟
* اخترت من محمد عبد الوهاب أغنية من الأغاني التي يمكن عزفها على البيانو. وعبد الوهاب مُجدّد كبير ويعرف كيف يوظف الآلات الموسيقية بشكل هارموني يخدم اللحن.
– هل فكرت أن تأخذ من ألحان توفيق الباشا أو من أغاني وداد مثلاً؟
* توفيق الباشا كان صاحب موسيقى اوركسترالية. أخاف إذا اشتغلت عليه أن تذهب ألوانه والرونق الذي يزينها. وأذكر في حواراتي معه أنه كان لا يحب البيانو. ربما لم يوفق بعازفين مهمين. لكنه صار يلاحظ تقدّمي في العزف، وسماعه لأشياء في البيانو لم يسمعها قبلاً غيّر موقفه، حتى إنه كتب لي مقطوعتين على البيانو. توفيق كان تراثياً. لكن هناك أغنية لحنها لوداد يهمني أن اشتغل عليها وأقدمها هدية لروح توفيق ولروح وداد، وهي “عاف يمي”. فيها شغل مدهش على صعيد التأليف ومزج الألوان والأداء.
– سمعتُ والدك توفيق يردّد “كل حجر في بيروت لمسته بيدي”، ورأيت عمك الفنان التشكيلي أمين يرسم بيروت كعاشق مفتون. كيف ترى إلى بيروت اليوم؟
* بيروت قدمت لي كل شيء. الطبيعة والمجتمع والبيئة. كل الحنان وكل المحبة. جمال بيروت القديمة عرفه والدي وعرفه عمي وعاشاه. أرى القديم والجديد والهجين. أرى التلوث والضجيج وأرى العصفور يحط على زهرة. أرى أشياء ضاعت ولم نستطع الحفاظ عليها. كفنان، أحلم أن أرى الجمال في كل مكان وأن أراه في الإنسان.
– في رأيك هل ما زالت الموسيقى قادرة أن تقول شيئاً في هذا العالم المضطرب الغارق في التقنية والعنف والتفاهة؟
* كلما ازداد العالم اضطراباً، ازدادت حاجتنا إلى الموسيقى. لأن الموسيقى صفاء الروح والفكر. وأمام صعوبات الحياة، يزداد الطلب على الجمال ولا بدّ للجمال أن يخلص العالم أو ينقذه أو يبدّد هذه الوحشة. الموسيقى تعيد خلق العالم كأنه ولد للتو ويحتاج إلى الحنان لكي ينهض ويسمو.