في خضمّ الحروب والأزمات، دائماً ما تكون وسائل الإعلام الشّاهد الأبرز والأقرب إلى الحقيقة لأنّها تنقل الصّورة من قلب الحدث. ولكن في بعض الحالات، يواجه الصحافي تحديات مهنيّة في إطار التوازن بين نقل الخبر والحفاظ على أخلاقيات المهنة، فكيف يمكن تحقيق أقصى حدّ من التوازن بين نقل الحدث والحفاظ على أخلاقيات المهنة؟
شهادات حيّة
“تُعتبر تغطية الحروب من أكثر القضايا الحساسة إذ تكثر فيها الخطوط الحمراء”، وفق الإعلامي والمراسل نخلة عضيمي الذي اختبر تغطية الحرب على الأرض. فنقل الخبر والصّورة يجب أن يكون مترافقاً مع مراعاة أخلاقيّات المهنة و”ما فينا نقول خبر بالحرب بلا ما نتأكّد منه”.
كذلك، لا بدّ من الأخذ بعين الاعتبار مصلحة البلد، يقول عضيمي في حديثٍ لموقع mtv، أي تجنّب إعطاء إحداثيّات معيّنة للعدو أو نقل أمور عسكريّة خاصّة تتعلّق بالجيش. كذلك، أسماء الشهداء أو المتضرّرين من الأفضل ألا تُذكر على الهواء منعاً لإحداث حساسية أو صدمة لدى الأهل أو الأقارب”.
والدقّة في نقل الحدث أساسيّة، “فالمراسل العسكري يجب أن ينقل الأحداث الميدانيّة وحال الطرقات والتوازنات، ويجب أن يكون ملمًّا بكلّ تفاصيل المنطقة التي يُغطّيها، ولكن إعطاء أيّ تفاصيل عسكريّة عن أماكن الصّواريخ مثلاً قد يُشكّل خطراً على البلد ويُساعد العدو”.
بدورها، تروي الصّحافية ستريدا بعينو كيف حرصت على تغطية الحرب من مكتبها، قائلةً لموقعنا: “أحرص دائماً على الالتزام بأخلاقيّات المهنة من خلال اتّباع معايير دقيقة في الأسلوب التحريري واختيار الصّور والفيديوهات التي ستظهر في النشرة الإخباريّة. ولأنّ المصداقية تأتي أولًا، أتأكّد من صحّة المعلومات عبر اللجوء إلى مصادر موثوقة قبل نشرها، مع تجنّب التهويل أو الإثارة غير المبرّرة. كما ألتزم بالمبادئ الإنسانيّة، وأتفادى عرض مشاهد صادمة أو مهينة لكرامة الضّحايا، بالإضافة إلى حرصي على عدم ذكر أسماء الضحايا أو اختيار لقطات تظهر فيها أشلاء ودماء”.
ما تُخفيه عدسات الكاميرا
الكثير يحدث وراء الكاميرا أثناء التغطية الصحافيّة، وتحدي التوازن بين نقل الصورة والحفاظ على المهنية أحدها، وهذا ما يخبرنا به المصور فضل عيتاني الذي حاول الموازنة قدر المستطاع، إذ يقول: “الناس ما زالت تخاف من الكاميرا رغم أنّنا نعمل من أجل مصلحتهم في توثيق ما يحصل ولا نعمل ضدّهم. كمصوّر صحافي، وظيفتي هي توثيق الأحداث والوضع الإنساني الذي يُعتبر حالة فريدة يجب التّعامل معها بدقّة وحساسيّة”.
يُتابع عيتاني أنّه “لا يمكن تجنّب الأخلاقيات عند نقل الصورة، وهنا المهنية التي مارستها بأخذ موافقة النازحين قبل تصويرهم، وعلى الرغم من رفضهم في أغلب الأحيان، إلاّ أنني أقوم بواجبي، وأنا أنتقد بعض المصوّرين الذين يأخذون الصّورة رغماً عن الحاضرين خصوصاً عندما يتعلّق الأمر بالنّازحين وهوياتهم وعائلات الشهداء، ما يُسبّب أذيّة وضرراً لهم، فالصورة التي تسبّب جرح الناس “بلاها ولا أسف عليها””.
وفي مثالٍ واضح على أخلاقيات المهنة، يُشير عيتاني: “في لحظات انتشال الجثث في الجنوب مثلاً، لم أخطُ أيّ خطوة إلى الأمام قبل وضع الجثة في الكيس وتغليفها، فقد صوّرتُ الدفاع المدني والهيئات التي كانت تعمل على الأرض، حفاظاً على الصّورة التي كانت تُنقل للناس وحفاظاً على شعور أهل الشهيد”.
عضيمي يوافق عيتاني في هذا الأمر، إذ أنّ “الصحافي عندما يرى الدّمار والشهداء والجرحى، يجب أن يكون على قدر المسؤوليّة وأن يُحاول تقديم المساعدة في إطار عدم المخاطرة بالحياة”.
الضّمير والنية أوّلاً
أخلاقيات مهنة الصحافة هي عبارة عن مبادئ موجودة، تنصّ القوانين والشّرعات الدوليّة على وجوب تطبيقها، ويُفترض بكلّ صحافي أن يعرفها جيّداً وبالتالي كلّما كان عليه أن ينقل حدثاً معيّناً يتوجّب أن يستعيد هذه المبادئ لكي يعمل على احترامها في عمله.
من هذه الشّرعات نذكر:
ميثاق شرف الاتّحاد الدولي للصحافيّين المُتبنّى في 12 حزيران 2019 في تونس، يكمل إعلان المبادئ الصّادر عن نفس الاتّحاد والمعروف بإعلان بوردو (1954) المُعدَّل سنة 1986.
إعلان ميونيخ (1971) المُتعلّق بواجبات وحقوق الصحافيّين.
نداء لاكولين Appel de la Colline (2008).
ميثاق الواجبات المهنيّة للصحافيّين الفرنسيّين (1918).
الميثاق الأخلاقي لجمعيّة الصحافيّين المحترفين في أميركا (1926)، عُدِّل سنة 2014.
قرار المجلس الأوروبي حول أخلاقيات الصحافة (1993).
في إطار الأخلاقيات، يشرح الأكاديمي المتخصّص بأخلاقيات المهنة الصحافيّة د. جورج صدقة في حديثٍ لموقع mtv، أن هناك عدّة أسئلة يجب على كلّ صحافي أن يتطرّق إليها خلال تغطيته: “هل هذه الصّورة يحقّ لي أن يصوّرها؟ وفي حال فعلت، هل يحقّ لي نشرها؟ هل يتعرّض الناس لصدمةٍ معيّنة عندما يرون الصّورة؟ هل الخبر الذي سمعته تأكّدتُ منه قبل نشره؟”. هذه أمور تنصّ عليها الوثائق، وبالتالي المطلوب من كلّ صحافي وفي كلّ عمليّة تغطية أن يرى المبادئ الأخلاقية لكي يطبّقها.
ويُركّز د. صدقة على أنّه في كلّ تغطية يجب أن نبحث عن المصلحة العامة. فالصحافي عادةً ما يركض وراء “السكوب” وإظهار العناصر النّافرة في الخبر. هذا خطأ، إذ عليه أن يسأل عن المصلحة العامة في كلّ حدث ينقله وأن يتأكّد أنّه يخدم المصلحة العامة وليس مصلحة الأشخاص أو مصلحته الخاصة”.
وفقاً له، يجب مراعاة أخلاقيات المهنة في الانفجارات والحروب خصوصاً، فمن الضّروري احترام كيفيّة اختيار الأخبار وتجنّب نقل صور القتلى والجرحى والأحداث العسكريّة التي تضرّ بالجيش الوطني، بالإضافة إلى أهمية التأكّد من الخبر قبل نشره، مع الحرص على ألا يكون ذلك مضرًّا بالشخص الذي كان مصدر هذا الخبر”.
هل تُفيد الدورات التدريبيّة؟
يُعزّز تكامل الأدوار بين السياسات العامة والمجتمع المدني والمؤسسات الإعلامية، التوازن العملي والفعّال في ما يخص أخلاقيات المهنة وضرورة نقل الصورة، من هذه الأدوار هي الدورات التدريبية للصحافيين، التي يعتبرها صدقة ” مفيدة لكنّها ليست أساسيّة، لأنّ أخلاقيات المهنة يجب أن تكون في ذهن الصحافي بشكلٍ دائم”. وشرعة ميونيخ وغيرها تقول له المبادئ التي يجب أن يطبّقها، إلا أنّ التدريب قد يكون مهمًّا في حالات خاصة مثل تغطية الحروب والأزمات”.
وهنا لا بدّ من ذكر أنّ شرعة ميونيخ تضمّ 10 واجبات و5 حقوق للصحافيّين، وتعتبر “أنّ مسؤولية الصحافي تجاه الجمهور تتقدّم على أيّ مسؤولية أخرى وبالذات تجاه الصحيفة أو المنصة التي يعمل لديها أو تجاه السلطات العامة”.
من جهته، يرى الباحث القانوني المتخصّص في قضايا القانون الدولي الخاص، المحامي رفيق هاشم أنّ “الدورات التوعويّة توجّه الصحافي في مسيرته المهنيّة، بحيث تزوّده بالأدوات اللازمة لمواجهة التحديات الأخلاقيّة التي تتّسم بدورها إلى حدّ تجاوز حدود المهنة وملامسة آفاق الرّسالة”.
وبرأيه، يجب أن تتناول هذه الدّورات مواضيعَ جوهريّة، مثل التّحقّق من صحّة المعلومات وحماية مصادر الأخبار واحترام خصوصيّة الأفراد وتغطية النّزاعات والأزمات بحذرٍ وتأنٍّ ودقّة وموضوعيّة، وتجنّب التحيّز أو التمييز أو العنصريّة أو التعصّب. فمن خلال هذه الدورات وهذه المبادئ، يتقن الصّحافي فنّ الموازنة بين حقّه في نقل المعلومة وواجبه في احترام الحقيقة وحقوق الآخرين في الخصوصيّة.
ماذا يقول القانون؟
“القانون لا علاقة له بالأخلاقيات”، إذ يُشير د. صدقة، إلى أنّ القانون أمرٌ تبتّه المحاكم، فلا يُمكن معرفة خلفيّة اختيار الصحافي لمقالٍ معيّن وهل تلقّى أيّ أموال من أجل كتابته، أم لأنّه يعتبر أنّ القضية مهمّة فعلاً. هذا يؤكّد أن الأخلاقيات تكون في ضمير الصحافي أولاً، والقانون لا يُمكن أن يُلاحق دائماً الأخطاء الصحافيّة لأنّها في الضّمير والنية قبل أن تظهر على الوسيلة الإعلاميّة.
بتعبيرٍ آخر مُشابه، يعتبر المحامي رفيق هاشم أنّ دور الإطار القانوني الدولي لأخلاقيات الصحافة يبرز كحارسٍ أمينٍ على صدقيّة الكلمة وحرية التعبير. فالمادّة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تُقرّ بأنّه لكلِّ شخص الحقّ في التمتّع بحرّية الرّأي والتعبير، ويشمل هذا الحقّ حريته في اعتناق الآراء من دون مضايقة، وفي التماس الأنباء والأفكار ونقلها إلى الآخرين، بأيّ وسيلة. ولكن هذه الحرّية تخضع لقيودٍ ضروريّة لاحترام حقوق الآخرين وحماية الأمن العام.
فالأمر، وفق المحامي، لا يقف عند هذا الحدّ في الإطار الدولي، إذ يلاحظ أيضاً أنّ العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنيّة والسياسيّة يؤكّد حرّية التّعبير مع وضع ضوابطٍ تهدف إلى حماية الأمن القومي، النّظام العام، أو حقوق الآخرين. كما يُقدّم الإعلان العالمي لأخلاقیّات المھنة الصّادر عن الاتّحاد الدّولي للصحافيّين، مبادئ توجيهيّة للنّزاهة، الموضوعيّة، واحترام كرامة الأفراد أثناء التغطية الإعلاميّة.
أخيراً، الإنسان ليس رقماً في الحرب ولا يُمكن لأيٍّ كان أن يجعله كذلك من أجل سبقٍ صحفيّ، فحتّى قواعد المهنة “تُجرّم” هذا السّلوك. والمشهد الذي ينقله المصوّر الصحافي عيتاني إلى أذهاننا خيرُ دليل، وهو “إذا بترضى أيّ شي لحالك بترضيه لغيرك”.
تم إعداد هذا التقرير ضمن مشروع “إصلاح الإعلام وتعزيز حرية التعبير في لبنان” .
موّل الاتحاد الأوروبي هذا التقرير، وتقع المسؤولية عن محتواه حصرًا على عاتق ”مؤسسة مهارات“ وهو لا يعكس بالضرورة آراء الاتحاد الأوروبي.
This report was produced within the project “Media Reform to Enhance Freedom of Expression in Lebanon”
This report was funded by the European Union. Its contents are the sole responsibility of Maharat Foundation and do not necessarily reflect the views of the European Union.