يعيش بولص ويعمل في الولايات المتحدة الأميركية (فيسبوك)
بدأ عازف العود الفلسطيني والموسيقي عيسى بولص (1968) مسيرته الفنية قبيل الانتفاضة الأولى. ومع انطلاقتها، توسع نشاطه؛ فإلى جانب عزف العود وتوزيع الأغاني، اضطلع بتدريب أعضاء عدد من الفرق الغنائية، وساهم في هذه المرحلة بإصدار عدة ألبومات مثل: “العاشق” مع فرقة سرية رام الله، و”رصيف المدينة” مع “الرحالة”، وجاء آخر ألبوماته في فلسطين للموسيقى الآلية تحت عنوان “كوكب تاني”، ليسافر بعدها إلى الولايات المتحدة الأميركية بغرض استكمال دراسته.
رغب بولص في ضبط خياله الموسيقي بالمعرفة. في أثناء ذلك، حصل على الماجستير من جامعة روزفلت، ثم الدكتوراه في الموسيقى من جامعة لايدن، وألف الموسيقي الفلسطيني لعدد من فرق الأوركسترا العالمية، مثل: أوركسترا شيكاغو، وأوركسترا الشباب في بريمن (ألمانيا)، وأوركسترا فلسطين، وله أيضاً ما يزيد على ثمانية ألبومات. اختط بولص لنفسه من خلال مسيرته هذه نهجاً مختلفاً. وفي هذا الحوار يطالعنا على معالمه.
البداية كانت مع فرقة سرية رام الله (1986). هل تحدّثنا عن نشاطك خلال هذه الفترة التي واكبت الانتفاضة الفلسطينية الأولى؟ وما السمات الفنية لموسيقى تلك المرحلة؟
بدأت مع “سرية رام الله”، التي يعود تأسيسها إلى سنة 1964، غير أن نشاطها توقف بعد هزيمة عام 1967، ولم تستعد الفرقة نشاطها إلا مع منتصف الثمانينيات، لأساهم في إحيائها. في هذه الفترة، عزفت العود ووزعت الأغاني بالمتاح من الآلات، إلى جانب تدريب مغنّي الفرقة ومغنياتها. أما المنتج الفني للفرقة، فكان مستلهماً من التراث الشعبي، كذلك أعدنا تقديم أغاني مهرجانات رام الله في الستينيات، وسجلنا عدداً منها في ألبوم “العاشق” الذي أصدرته الفرقة وقتها. امتازت تلك الفترة فنياً بالرجوع إلى المواد والآلات التراثية، دفعاً لحالة الاغتراب التي ازدادت حدتها بعد هزيمة 1967؛ فلم يعد الفلسطيني يجد كثيراً من مواد اعتاد تداولها يومياً، بعدما أمسى ثلثا الشعب الفلسطيني تقريباً لاجئاً. وتبع ذلك، بطبيعة الحال، خلخلة في النسيج الاجتماعي والنفسي لمجتمعنا، وهذا استدعى التفكير في إعادة إحياء التراث، وإن وُضع في أطر جديدة.
أسست بعد ذلك فرقة خاصة بي، اندمجت بها مع “الرحالة”، لنصدر معاً شريط “رصيف المدينة” الذي شاركتنا به الراحلة ريم بنا، وكان هذا إيذاناً بانتقالنا إلى مساحة جديدة، ابتعدنا فيها عن التراث الشعبي، لكن انطلاقاً من المنطق نفسه؛ فكانت أغانينا معنية طوال الوقت بالفلسطيني الذي يعيش على هذه الأرض. استوعبنا حينها أن الصراع مع الآخر لا يتوقف عند حدود المكان، بل هو صراع وجود، لأن الاحتلال يحاول تجريدنا من إنسانيتنا، لهذا توجهت أغانينا دائماً نحو الإنسان، لكن لا أستطيع أن أزعم أن الرؤية الفنية بين الموسيقيين الفلسطينيين كانت واحدة، فهناك من رأى أن على الأغنية أن تعبّر عن “نبض الشارع”، فيما نحا آخرون منحىً آخر، إذ اشتبكت أغنيتهم مع الاحتلال لكن من واقع تجاربهم الذاتية.
مع بداية التسعينيات، صرت مدرباً للعديد من الفرق، مثل: “سرية رام الله” وفرقة الفنون الشعبية و”جفرا” و”الرواد” و”سنابل”، وإلى جانب اضطلاعي بتدريبهم على الآلات والغناء، شرعت في تعريفهم إلى آلات جديدة، لكن سرعان ما ازدادت الأوضاع سوءاً؛ إذ أمسى التنقل من مكان إلى آخر متعذراً، بفعل حواجز الاحتلال، لهذا فكرت في أن أعود إلى شيكاغو؛ بغرض استكمال دراستي، غير أني اعتقلت وصدر بحقي حكم سنة سجناً، ومنعت من السفر بعد أن أنهيت محكوميتي، خرجت إثرها لأستكمل عملي مع الفرق، وفي هذه المرحلة أيضاً لحنت وألفت كثيراً من الأعمال الموسيقية، منها شريط “كوكب تاني”. وبعد مرور عدة سنوات، تمكنت من رفع منع السفر الإسرائيلي من خلال حكم قضائي، لأسافر إلى شيكاغو من أجل استكمال دراستي.
تقاسَمت فلسطين مع الولايات المتحدة مسيرتك الفنية. هل تجد اختلافاً بين موسيقى أنتجتها في الداخل ونظيرتها التي ألفتها في الخارج؟
في فترة وجودي في فلسطين، اتجه إنتاجي الموسيقي إلى مساحة الأغنية، وإن ألفت العديد من المقطوعات الآلية بعد خروجي من السجن، من ذلك مشروع “كوكب تاني”، لكن لم تحجز كل هذه الأعمال عن إدراكي أن الخيال الفني لا بد أن يدعمه العلم، وكان هذا السبب الرئيسي وراء انتقالي إلى شيكاغو للدراسة. وخلال فترة دراستي (البكالوريوس ثم الماجستير) اقتصر إنتاجي تقريباً على الموسيقى الآلية. أسست بعدها فرقة في 1998 اقتصر نشاطها تقريباً على الموسيقى الآلية أيضاً. خلال فترة وجيزة، كبر حجم الفرقة وعرضنا في مختلف الولايات الأميركية، وقدمنا عروضاً في فلسطين.
في مشروعك “الحلاج”، استخدمت عشرات المقامات، ما الفكرة اللحنية وراء هذا الاحتشاد؟
في سنة 2000، وبسبب ظرف عائلي، غادرت شيكاغو مع أسرتي، عائداً إلى فلسطين. أزعجني ما وصلت إليه حال البلد وقتها، من فساد وانقسام بين الفصائل، إلى جانب ممارسات السلطة. حرضتني هذه الأجواء على الذهاب إلى إحدى المكتبات؛ لأشتري ديوان الحلاج، وأعدت قراءته بغرض تقديم عدد من قصائده، فطالما امتلكت شغفاً بالنصوص الصوفية، من ابن الفارض، إلى الحلاج، إلى نصوص علي بن أبي طالب. وبالفعل، اخترت 15 قصيدة، رتبتها تبعاً لتطور فلسفة الحلاج ومراحله الحياتية، ورأيت أن على الموسيقى أن تتبع هي أيضاً هذا المسار. بمعنى آخر، أن تتبع دراما حياته، فيختلف التعبير الموسيقي عن كل مرحلة مرّ بها الحلاج؛ لهذا تطلب الأمر تنقلاً واسعاً بين المقامات، بل أحياناً لجأت إلى ابتكار مقامات وإيقاعات جديدة. وعندما عرضت هذه الألحان على من شاركوني تنفيذ المشروع من موسيقيين واجهتنا مشكلة؛ لأن عازف الآلات التقليدية اعتاد في عزفه المقامي دائماً التطريب، فيما ابتعدت ألحاني عن هذه المساحة، وهذا يعود إلى أنني أرى أن التطريب يطغى على الكلمات. وفي تجربتي المقام ليس دائماً طربياً، فبالإمكان استعماله في مواضع درامية.
هذه الرؤية ترى المقام قابلاً للتطور والتكيف، بفعل احتمالياته اللانهائية، وسبق ذلك تفكير طويل وآلاف المقطوعات وتجارب كثيرة حول تنغيم اللفظ بنغم واحد أو بأكثر من نغم، فطالما كان المقام هاجساً لدي منذ أن كنت أعيش في فلسطين.
مفردات الطبيعة، مثل الشجر والورود والشمس والقمر، حاضرة دائماً في كلمات أغانيك. ما السر وراء ذلك؟
نحن في الأصل فلاحون، ووالدي كان أول من انتقل إلى المدينة في عائلتنا. رغم ذلك، لم تنقطع علاقتنا بالأرض، فكثيراً ما كنا نزور أرضنا الزراعية ونحن صغار، لنمضي أياماً نجمع الزيتون والتين، وسط الطبيعة. وبيتنا في رام الله يقع فوق الجبل وهو قريب من البحر أيضاً. لذلك، ارتباطي بالأرض وبالطبيعة أقوى من ارتباطي بالبشر.
ألّفت الموسيقى للعود منفرداً، وألّفت له مع آلة أو أكثر، وقدمت مؤلفات لعدد من فرق الأوركسترا العالمية. كيف توزع أعمالك الموسيقية؟
عندما أقرر تقديم عمل من خلال آلة واحدة، فهذا بتحريض من فكرة أن الأشياء الأكثر جمالاً قد تكون الأكثر بساطة، ومثل هذا العمل يحث المستمع على أن يقع على الجمال في الصوت الواحد، دائماً ما أكون مشغولاً بالمعنى، خصوصاً إذا كانت المقطوعة آلية، في حين أن مقطوعة مثل سماعي نهاوند التي ألفتها لأوركسترا سيمفوني شيكاغو، كان غرضي منها أن أعبّر عن مدى ثراء تراثنا وعمق الروح المشرقية، فيما أهديت مقطوعة سماعي أخرى إلى مارسيل خليفة أسميتها “لونغا إلى مارسيل”، نظراً لما قدّمه إلى فلسطين، وهي عملياً كانت له في نصفها والنصف الآخر لي، إذ عبرت في النصف الأول عن كيف يفكر موسيقياً، فيما قدمت بالنصف الثاني كيف أفكر أنا.
ما الذي ميز هذا السماعي الذي ألفته لأوركسترا شيكاغو عن غيره من السماعيات؟
من ناحية البناء كان ما بين الـ Traditional والـ New Traditional. لذلك، لا أستطيع القول إنها معاصرة مثل سماعيات مسعود جميل الطنبوري أو رشاد قيسو. لكن لدي سماعيات أخرى، مثل حجاز كار، ونهاوند، بنيتها في صورة معاصرة، وربما أكثر الأجزاء فرادة في المقطوعة التي أشرت إليها التسليم. فكما هو معروف، التسليم أهم مقطع بالسماعي، لأنه يأخذك من مساحة إلى أخرى، فبدلاً من أن أؤكد المقام، استعملت أحد مرادفي المقام؛ فالخانة الأولى جاءت فتحة نهاوند، أما التسليم فجاء أقرب إلى العجم، وهذا لا يحدث عادةً، لأنه لا بد من تأكيد المقام الأصلي.
تقول إن القيمة الفنية للأغنية الفلسطينية بدأت بالتراجع مع الانتفاضة الأولى، وازداد تراجعها بعد “أوسلو”، واختفت بدرجة كبيرة مع الانتفاضة الثانية. لماذا؟
عند اندلاع الانتفاضة الأولى، سارعت الفرق الشعبية إلى المسرح من دون إعداد كافٍ، تحت زعم الرغبة في التعبير عن “نبض الشارع”، بغضّ النظر عن القيمة الفنية، فلم تكن هي الهدف، الذي تمثل في إيصال الكلمة الثورية.
كنت معارضاً بالطبع لهذا التوجه، وكان ردي وقتها على من يسألني: لماذا لا أقدم مثل تلك الأغاني؟ إذا كنا في سيارة أجرة وأذاع الكاسيت واحدة من تلك الأغاني، مثل “ثوري” التي تزخر بمعاني “القتل والضرب”، واقتربت السيارة من أحد الحواجز الإسرائيلية، فوراً سينزع السائق شريط الكاسيت ليضعه تحت الكرسي. أما الأغاني التي انحزنا إليها، فهي تحرض الفلسطيني على تأكيد موقفه تجاه الحاجز الإسرائيلي من دون أن يخبئ شريط الكاسيت، تحث الفلسطيني على أن يتبنى موقفاً إنسانياً نهائياً من العدو، لا يقف عند حد الحالة الثورية، وذلك بتحريض منتج فني ذي قيمة إنسانية يعيش لعشرات السنين.
هذه الرؤية لم تكن رؤيتي فقط، بل تعود إلى نخبة من الفنانين الفلسطينيين.
وبطبيعة الحال، صار للفرق الشعبية إثر الانتفاضة الأولى الصوت الأعلى، فقد كان بمقدور أعضائها تسجيل شريط الكاسيت خلال أيام، من دون اعتبار بالطبع للقيمة الفنية. على سبيل المثال، سجّل ثائر برغوثي في تلك الفترة شريط “دولا” خلال ثلاثة أيام، وبالطبع كان التسجيل سيئاً للغاية، والعزف متواضعاً، وهذا يعود إلى أن المرحلة لم تُعنَ إلا بتعبئة الجماهير.
في هذا الخصوص أيضاً، أتذكر أنه لدى اعتقالي في تلك الآونة، طلب مني المحقق أن أغني واحدة من أغاني، فغنيت من كلمات جميل السايح: “أُعطي حبيبتي لنجمتي ونجمتي للحالمين والحالمين للحقيقة والحقيقة للإنسان، الإنسان لمن يعطي، الإنسان للإنسان…”، ففوجئت بقبضته تهوي علي عيني بعنف، وهو يشتمني قائلاً: “أتتخيل أني لا أفهم ما تود قوله؟”.
جميع التحقيقات التي أجريت معي خلال هذه الفترة كانت عن الأغاني، وليست عن نشاطي السياسي أو ضرب الحجارة، لأنهم يفهمون جيداً أن مثل هذه الأغاني أشد خطورة؛ فهي التي تصنع حالة الديمومة الثورية.
بعد “أوسلو” سعت السلطة للسيطرة الكاملة على فضاء الفن والثقافة، وحاولت منظمة التحرير أن تكرّر ما مارسته في لبنان وسورية من توجيه للمنتج الفني عبر فرق مثل: “العاشقين” و”جذور”، لكننا لكوننا فنانين مستقلين رفضنا، فما كان من السلطة إلا أن استقطبت الفرق الشعبية، عبر تقديم التسهيلات والمساعدات. ووجهت السلطة الساحة الفنية الفلسطينية إلى الانفتاح على السوق الإقليمية، في مصر والأردن وسورية ولبنان والخليج، بدعوى أنه لم يعد هناك داعٍ لتقديم ما كان يُقدّم بعدما شرعنا في السلام مع إسرائيل.
أي موسيقي عربي يعيش في بلد غربي يحاول إيجاد صيغة توافق بين موسيقاه والموسيقى الغربية. كيف حققت هذه المعادلة؟
منذ وعيت وجدت أبي يغني لعبد الوهاب، وكان عمي عازف كمان وعود. في هذه الأسرة الفنية، كنت أستمع دائماً إلى أسماء مثل عبد الحليم حافظ وعبد الوهاب وفريد الأطرش ووديع الصافي وفيروز وصباح فخري. ووجدت، في سن صغيرة، أن ما قدمه هؤلاء جميعاً من ألوان موسيقية مختلفة على أنه موسيقى عربية. مع مرور الزمن، تساءلت: كيف يكون بعض هذه الأغاني، وفق توزيعها وبما يحمله لحنها من هارموني، عربية؟
تبين لي أن بعضاً مما نسميه موسيقى عربية مصدره ثقافات مغايرة. طبعاً هناك حقب زمنية كانت منغمسة في موسيقى المقام، وهذا امتد إلى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. لكن بداية من سيد درويش، حين دخل البيانو وغيره من الآلات الغربية، إلى جانب تقنيات تلحينية، يتصور بعضهم اليوم أنها عربية. وقع تغيير واسع بالمقام وبالموسيقى العربية. على سبيل المثال، في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، كان هناك هوس لدينا بـ”المتتاليات”، يظهر ذلك مثلاً في لحن عبد الوهاب “أهواك” لعبد الحليم حافظ، في حين أن “المتتاليات” تأليف ظهر في الغرب بوصفه تمرينات. دأب الأساتذة هناك قديماً على كتابتها لطلابهم بغرض التدريب، وهذا وجه من أوجه تأثر تراثنا الغنائي بالموسيقى الغربية. حينها، كان لدينا مرونة في استقبال الجديد واستيعابه، لكنّ أفكاراً مثل الوطنية والقومية، ربما حرضتنا على أن نكون أكثر تحفظاً. كل هذا جعلني أدرك أن الموسيقى كائن حي في حالة تغير مستمر، ودفعني ذلك إلى أن أكون أكثر أريحية في التعامل مع الألوان الموسيقية المختلفة. في أغنية “الحب ما دام مكتوماً” في “ألبوم الحلاج” (تتناول المرحلة التي تنبه بها الحلاج إلى مخطط الوزير لقتله)، استعملت إيقاع الخمسة، المشابه لما جاء في فيلم Mission impossible. لذا، تستطيع أن تقول إنني أتنقل بين الألوان الموسيقية كافة في حرية تامة ومن دون محاذير.
ما المشروع الذي تعمل عليه حالياً؟
أعمل حالياً على ألبوم اسمه “الجانب المظلم للقمر”، يضم شعراً بالفصحى من نظمي، فقد كنت حريصاً دائماً على الفصل بين كوني شاعر فصحى، وما كنت أكتبه من أغانٍ بالعامية، لكن هذه المرة كتبت الكلمات بالفصحى من أجل تلحينها، ويشاركني في هذا العمل كل من المغني السوري بيان رضا وعازف الغيتار الفلسطيني أشرف دباح. وانتهيت أخيراً من مقطوعة أرسلتها إلى الأوركسترا العربية في فلسطين.