إنه التاريخ. ولو أردت فهم الحاضر فادرس التاريخ. لكن، من يجرؤ على كتابة تاريخ لبنان أو تاريخ الحرب في لبنان بالتحديد؟ هذه هي الحكاية. فلكلِ طرفٍ حكايته وسردياته ومفاهيمه وتوجّساته التي ساهمت في حدوث كل ما حدث. هناك اليوم من يوجه انتقاداته من دون النظر إلى ماهية الأحداث في تاريخها. قراءة الأحداث عن بعد غيرها في أوانها. فهل نصل إلى يومٍ نتحدث فيه عن التاريخ بلا خوف؟ هل سيأتي يوم يتوقف فيه من يلهو في تحليلاته بفهم واقع “شعوب” لبنان في حقبة تاريخية أسّست لمحطات وخلافات؟ ممنوع كتابة التاريخ حتى إشعارٍ آخر. والسبب الخوف من الاختلافات والخلافات. لذا، فلنبحث عن حلّ. فليكتب كل طرف سردياته ولندع من يدرس التاريخ في كتابٍ واحد يضم سرديات الأطراف كلها ويُحلل. ولنترك من شاركوا في أحداثٍ ماضية يكتبوا سردياتهم ولنقرأ فيها. ولنا، لنا وحدنا الاستخلاص. فماذا في تفاصيل شارك كل الأطراف في روايتها؟ هو التاريخ الذي يفترض أن يُدرّس في بلدٍ يفترض أن لا يكون فيه لا غالب ولا مغلوب.
شادن هاني، الباحثة في مبادرات بناء السلام، تبحث مع شريك منذ عامين في سرديات كل الأطراف أثناء الحرب وتعمل على كتابة الأحداث. وخرجت بخلاصة: “نعم، في أمل”. هي سرديات لأحداثٍ واحدة، لكلٍ طرف نظرته إليها. لذا، كتب كل طرف تفاصيله وباتت تستحق أن تُضمّن في كتاب تاريخ واحد. على أن تُقرأ بصوتٍ عالٍ وتُستخلص منها الأسباب والنتائج ويُسمح للقارئ، لكل قارئ، أن يُحلل بمنطقٍ وفق التفاصيل. فلنأخذ مثلاً مجزرة الدامور. ماذا عنها؟ كيف كتبتها الأطراف التي عايشتها؟ لماذا حدثت؟ وماذا انبثق منها؟
لم يقفل طرف بابه في وجه شادن هاني. فلنأخذ مثلاً مجزرة الدامور التي تشارك في قراءتها وسردها طرفان: الجبهة اللبنانية (الكتائب والأحرار وحراس الأرز) والحركة الوطنية (الحزب التقدمي الاشتراكي والحزب الشيوعي اللبناني ومنظمة العمل الشيوعي والحزب السوري القومي الاجتماعي وحزب البعث وحركة الناصريين المستقلين والتنظيم الشعبي الناصري). فماذا نقرأ في تلك المجزرة؟ هناك سرديتان مختلفتان حول أحداث تلك المجزرة جرت بين 9 و22 كانون الأول عام 1976. استندت السرديتان إلى أرشيف مكتوب ومقابلات مع شهود عيان أساسيين وأفراد كُتب لهم العمر. كما تمّ التحقق من صحتها من قبل ممثلين حاليين عن الأحزاب التي كانت معنية بالحادث – المجزرة.
سردية الحركة الوطنية
فماذا في سردية الحركة الوطنية؟ ماذا في الخلفيات التي حددتها؟
مع بداية شهر كانون الثاني عام 1976 قامت القوات المسيحية الانعزالية المسلحة من الجبهة اللبنانية بمواصلة سياستها التقسيمية، فنفذت عملية تطويق تمويني لمخيم تل الزعتر الفلسطيني في 4 كانون الثاني. حينها قررت القيادة العسكرية المشتركة للمقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية بالردّ بالمثل. في 9 كانون الثاني، قاموا بمحاصرة بلدة الدامور، كونها بلدة استراتيجية تربط بيروت بالجنوب المسلم الموالي للفلسطينيين. وكان أهالي الجوار يعبّرون عن استيائهم من حواجز الخطف والتعذيب والاغتصاب والقتل في الدامور، حيث قضى العديد من الفلسطينيين واللبنانيين، تحت قيادة أنطوان عرمان، المسؤول عمّا عُرِف بـ”أمن الحدود”.
في 14 كانون، اقتحم الكتائبيون والأحرار ومغاوير “حراس الأرز” مخيم الضبيه المأهول بالفلسطينيين المسيحيين الذين ظلوا على هامش النزاع. وبرغم ذلك فإن المخيم دمّر وذُبح أهله وسجّلت عمليات “سحل” للمواطنين من قبل ما يقارب 3000 مسلّح، واعتبر القضاء على المخيمات الفلسطينية تحدياً لا بدّ من الرد عليه بتوجيه درس قاسٍ لليمين المسيح. لذلك قررت القيادة العسكرية المشتركة للمقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية تصعيد عملية الدامور… تمت عمليّة الهجوم في تاريخ 16 كانون الثاني 1976، واستمرت عدّة أيام.
سردية الجبهة اللبنانية
قرأنا الخلفيات بلسان طرف فماذا عنها بلسان أحزاب الجبهة اللبنانية؟
مع بداية عام 1976 كانت الدامور، المدينة المسيحية ذات الموقع الاستراتيجي على الطريق الساحلي الذي يربط بيروت والمخيمات الفلسطينية فيها بجنوب لبنان، حيث تركّز الميليشيات الفلسطينية أعمالها العسكرية ضد إسرائيل. بالتالي كان الطريق الساحلي يُعتبر معبراً أساسياً لنقل الأسلحة والمؤن بين بيروت والجنوب. وكان حاجز الجيش اللبناني بالإضافة إلى الحواجز التي كان يقيمها الأهالي رداً على عمليات الخطف الاستفزازية لأبناء الدامور في بيروت تُشكّل عائقاً لخط التموين أمام الفلسطينيين. بناء عليه، قام الفلسطينيون باستخدام أحداث مخيمات اللاجئين في الضبيه والكرنتينا كذريعة لمهاجمة الدامور. لم يكن الهدف محصوراً فقط بتحرير الطريق إلى الجنوب بل بتطويق المناطق المسيحية وتعطيل العلاقة المفترضة بين المسيحيين اللبنانيين والحكومة السورية وتوسيع سيطرتهم على لبنان الذي كان يُعمل على أن يُصبح موطناً بديلاً.
سوريا، عملت من جهتها على دفع الهجوم على الدامور لأنه يُشكل فرصة لتعزيز استراتيجيتها التقسيمية في لبنان. وسعت إلى توسيع تأثيرها على الحركة الوطنية اللبنانية المتحالفة مع المقاومة الفلسطينية، والتي كان كمال جنبلاط جزءاً أساسياً منها. لذلك، قام النظام السوري بإرسال قوات اليرموك والصاعقة – الميليشيات الفلسطينية المتحالفة مع سوريا – للانضمام إلى القوى الفلسطينية والحركة الوطنية في هجومهم على الدامور، الذي بدأ في 16 كانون الثاني 1976 واستمر عدة أيام.
ماذا عن سرديات الهجوم؟
فلنأخذ أولاً سردية الحركة الوطنية: قام نحو 600 إلى 700 مقاتل من القوى الفلسطينية والحركة الوطنية – غالبيتهم من فتح – بهجوم على الدامور ليلاً، بقصف مركز وكثيف، على مركز تجمّع المسلحين ومرابض المدفعية المقابلة. بعدها بدأت عملية اقتحام من ثلاثة محاور: من الشمال باتجاه الناعمة. من بعورته شرقاً، ومن الجنوب باتجاه الجيه. وعند دخول العناصر الدامور اشتبكوا مع ميليشيا الجبهة اللبنانية بمواجهة عنيفة استمرت حتى ساعات الصباح الأولى. بعد تغلبها على ميليشيات الجبهة اللبنانية، دخلت قوات فتخ إلى البلدة – مع تعليمات بعدم التعرض للمدنيين – وتمكينهم من الخروج إلى السعديات.
تنبّه الجيش للأحداث في الدامور وتدخّل لوقف تقدم القوات المشتركة. عند الظهر، ظهرت طائرات حربية تابعة لسلاح الجو اللبناني في سماء المنطقة للاستطلاع، وبعد نصف ساعة بدأت طائرتان من طراز هوكر هنتر بقصف مواقع القوات المشتركة في محيط الدامور. ردت هذه القوات بنيران مدفعية ومدافع رشاشة من طراز دوشكا، وفي النهاية أسقطت طائرة ميراج وطائرة هليكوبتر بالدفاعات المضادة للطائرات.
في وقت لاحق من بعد الظهر ظهرت سفينة حربية تابعة للجيش اللبناني في البحر. انزلت زوارق عدّة اتجهت برجالها إلى الدامور شمالاً، حيث تسلل هؤلاء إلى بساتين الموز والليمون، واتخذوا مواقع لهم غرباً، وعملوا على قصف مراكز القوات المشتركة التي بادلتهم القصف بالمثل. مساءً بدأت تعزيزات كثيفة للجيش تصل المنطقة.
ماذا في سردية الهجوم على الدامور من منظار أحزاب الجبهة اللبنانية؟
في منتصف الليل، شنّ نحو 5000 مسلح هجوماً واسعاً على الدامور. كانت هذه القوات بغالبيتها من الفلسطينيين الموالين لسوريا. وشاركهم أعوانهم من الحركة الوطنية اللبنانية. جاء الهجوم من ثلاث جبهات في وقت واحد: بيروت وصيدا والجبل. بدأ أولاً بقصفٍ مدفعي كثيف من التلال المحيطة ورافقه قصف بحري من الجهة الجنوبية والغربية، بعدد يتراوح بين 600 إلى 1000 قذيفة. اخترق الفلسطينيون البلدة عبر مزارع الموز وفاجأوا الأهالي وهم نيام. حيث قاموا بحرق المنازل وذبح نحو 40 مدنياً، معظمهم من النساء والأطفال. تصدّى المدافعون المحليون من الأهالي بمساعدة الكتائب والأحرار ونمور الأحرار للقوات الفلسطينية وتسببوا في مقتل عدد من المهاجمين. مع ذلك وبحلول الظهر، نجحت الميليشيات المسيحية المحلية في دفع المهاجمين من الشمال خارج الدامور. قصفت الطائرات الحربية التابعة لسلاح الجو اللبناني بعض هذه القوات الفلسطينية بعد انسحابها، عندما هاجموا قافلة إمداد للجيش اللبناني في الناعمة. ساعد الجيش اللبناني أيضاً سكان الدامور في الهروب إلى السعديات، حيث مقرّ وزير الخارجية وزعيم الأحرار كميل شمعون. وبالتالي، لم يشارك الجيش في المواجهات بسبب الخلافات السياسية حول تورطه في النزاع الداخلي.
الفرار إلى السعديات
في اليوم التالي، خف الضغط عن جبهة الدامور وانتقل القتال جنوباً إلى الجية والسعديات. تم حصار الرئيس شمعون مع قرابة 8000 نازح من الأطفال والشيوخ والنساء من أبناء الجية والدامور والمنطقة المحيطة التجأوا إلى السعديات. بعد تدهور الوضع وتعرض القصر للقصف، سهّل شمعون عمليّة إجلاء الأهالي بمساعدة من قيادة الجيش التي أرسلت خافرات البحرية اللبنانية تساندها زوارق مدنية نقلت النازحين من السعديات إلى جونية والكسليك تحت القصف المباشر من الفلسطينيين.
في تاريخ 19 كانون الثاني، أتى بعض الجنود من الجيش اللبناني إلى بيوت الدوامرة يحذرونهم من جولة هجوم ثانية للفلسطينيين على البلدة. انتقل العديد من النساء والأطفال والعجزة إلى الاختباء في كنيسة سيّدة السلام وكنيسة مار الياس الحيّ في الدامور، بينما نزح الآخرون إلى السعديات آملين بالمغادرة بحراً.
يوم 20 كانون الثاني، استولت الميليشيات الفلسطينية على الدامور. وبقي نحو 20 عنصراً من القوات المسيحية المتحالفة في الدامور مع 350 مدنياً. قام الغرباء بإعدام العناصر المسلحة وبرصّ المدنيين على الحائط وإعدامهم بالرصاص. أمّا النساء فقد تعرّضن للاغتصاب الجماعي ومن ثم قاموا بحرق البيوت وذبح الأطفال. كما تمت تصفية كل من كان مختبئاً في كنيسة سيّدة السلام رغم رفع علم أبيض على باب الكنيسة. أما النساء والأطفال المختبئون في كنيسة مار الياس الحيّ، فكانوا يرفعون الصلوات بصوت عالٍ لطمس أصوات الاقتتال في الخارج، وتمكنوا من الهروب إلى السعديات بمساعدة اثنين من عناصر الجيش المتبقية، وقد كانوا آخر من غادر الدامور إلى السعديات ثم إلى الشمال عبر البحر. ومن بعدهم تم إجلاء كميل شمعون إلى بعبدا بواسطة الهليكوبتر.
تم إحصاء 149 قتيلاً نتيجة الهجوم على الدامور وبعض الجثث بقيت مرمية في شوارع البلدة لأيام قبل انتشالها، كما قام المعتدون بنهب البلدة وبانتشال الجثث من المدافن والتنكيل فيها.
ماذا تضمنت سرديات الفصل الأخير من المجزرة من الطرف الآخر؟
في 17 كانون الثاني، جددت القوات المشتركة هجومها على الجبهة اللبنانية بدعم عسكري كثيف. وبعد قصف عنيف – يقدر بسقوط 2000 قذيفة على الدامور خلال 24 ساعة – تمكنت القوات المشتركة من السيطرة على جزء كبير من الدامور.
في اليوم التالي، هاجمت ميليشيا الجبهة اللبنانية بوحشية منطقة المسلخ – الكرنتينا. رداً على هذه الأعمال قامت القوات المشتركة بالهجوم الأخير للاستيلاء الكامل على الدامور والسعديات، وتمت السيطرة على الدامور بالكامل.
في السعديات، قصفت مدفعية القوات المشتركة مخزناً للذخيرة مجاوراً لقصر الرئيس شمعون. وقبل سقوط القصر، تدخّلت شخصيات عديدة صديقة للمقاومة وعلى رأسها كمال جنبلاط وصائب سلام لصالح حماية الرئيس شمعون، الذي تكفل أبو عمّار شخصياً أمن خروجه من السعديات. غادر بطائرة هليكوبتر، بعد ذلك استولت القوات المشتركة على المدينة والقصر.
على الرغم من التعليمات الصارمة بعدم القيام بتعديات خارج نطاق العمل العسكري في الأيام الأولى لحصار الدامور، غير أن الفوضى انتشرت في الأيام الأخيرة للهجوم حيث قامت بعض الميليشيات من الحركة الوطنية بأعمال همجية وسرقات كبيرة في الدامور.
أسئلة وتفكير ونقد
انتهت السرديات المتقابلة. ولنتخيلها قد ضُمت – مع بقية السرديات عن أحداث أليمة أخرى – في كتاب تاريخ موحّد. فماذا على الطالب أن يفعل؟ ألا يضيع بينها؟
هنا فلندعه يتأمل. فلنطلب منه الإجابة – بحسب شادن هاني – على الأسئلة التالية:
– بعد الاطلاع على السرديتين، ما هو الشعور الأبرز الذي يختلجك؟ هل هو الغضب؟ الخوف؟ الحزن؟ غير ذلك؟ وما هو الرد، الذي يدفعك هذا الشعور على القيام به؟
– هل هناك سردية تعاطفت معها أكثر من الأخرى؟ إذا كان الجواب نعم، أي سردية، ولماذا؟
– في حال شعرت بتعاطف مع واحدة من السرديتين، ما هو شعورك تجاه السردية الأخرى؟
– في حال كنت مسؤولًا في الحركة الوطنية في فترة الحرب عام 1975/1976 مع المعرفة التي لديك اليوم، كيف كنت ستؤثر على قرارات فريقك السياسي بشكل مغاير بعد الهجوم على مخيمي تل الزعتر وضبيّه؟
– ما هي برأيك المشاعر التي يعاني منها الأشخاص الذين شاركوا في أحداث الدامور، وأي من هذه المشاعر لا يزال بحاجة إلى معالجة بين اللبنانيين اليوم؟
– هل جلبت الخسائر في الأرواح مكاسب لأي من الأحزاب المشاركة؟ ما هي الدروس التي يمكننا استخلاصها؟ ماذا تريد أن تقول للمقاتلين وصناع القرار في الماضي؟ وفي الحاضر؟
هذا درس من دروس التاريخ. فماذا لو أدرج كما هو – هو وسواه من أحداث يعمل عليها مشروع “الحقيقة والمصالحة في لبنان” في كتاب تاريخ موحد؟ ألا يستحق طلاب لبنان أن يُمنحوا هامش المعرفة والنقد بلا تدخل من أحد؟ في الذكرى الخمسين للحرب اللبنانية أصبح من حقّ الجيل الجديد أن يحاول التعامل مع الماضي من خلال عمل “تنقيبي” عملت عليه شادن هاني – مع شركائها – فيفهم الشاب والشابة مواقف من شاركوا في الحرب في حينها ومخاوفهم بدل أن ندع كل فريق يقول: أنا الضحية.. ونقطة ع السطر. فلنحترم كل الأطراف. ليس أمامنا إلا ذلك ولنتعلم الدروس من الذاكرة الجماعية.