أطلقت مجموعة من الأساتذة الجامعيين والطلبة والطالبات في علم الاجتماع عملية بحث علمية ميدانية ترمي إلى استكشاف جوانب العيش الاجتماعي في مدينة كبرى مثل الدار البيضاء خلال فترة الليل، بغاية تقديم قراءة جديدة للحياة الحضرية خلال هذا الفضاء الزمني، بعيدا عن الصور النمطية التي تختزل هذا الزمن الحضري في الآفة الاجتماعية للخطر والانحراف.
وتشكل هذه التجربة البحثية اللبنة الأولى لسلسلة من المنشورات العلمية والعروض الجماعية حول واقع الليل في الدار البيضاء، في إطار مشروع علمي ميداني وتكوين منسق من طرف شعبة علم الاجتماع بجامعة الحسن الثاني ومختبر البحث حول التمايزات السوسيو أنثروبولوجية والهويات الاجتماعية “لادسيس”، يلفت الانتباه إلى أهمية البحث الاجتماعي في زمن الليل لفهم ديناميات مدينة كبرى مثل الدار البيضاء
ويعد هذا المشروع خطوة أولى نحو إنتاج معرفة جديدة حول الزمن الليلي في المغرب، يسعى إلى ترسيخ ثقافة ميدانية تدمج الواقع في التكوين، وتدعو إلى إعادة النظر في علاقة الأفراد بالمدينة والزمان والمكان، وهو مشروع تشرف عليه الدكتورة سناء بنبلي، أستاذة سوسيو أنثروبولوجية بجامعة الحسن الثاني في الدار البيضاء والدكتور مانويل غارسيا رويز، أستاذ علم الاجتماع الزائر من لشبونة البرتغالية. ويحضر غارسيا رويز في الدار البيضاء كخبير دولي في المجال، ليتقاسم خبرته مع الباحثين الشباب المغاربة من خلال مرافقتهم في الغوص في المدينة الليلية، لتخصصه في السياسات الثقافية الحضرية والتحولات السوسيو مجالية المرتبطة باستخدامات الليل، إلى جانب كونه باحثا في مركز CIES ISCTE بالبرتغال ومؤسسا للشبكة الدولية لدراسات الليل.
وفي هذا الصدد، يقول الدكتور غارسيا رويز، إن فترة الليل تعد مساحة زمنية تتقاطع فيها عدد من الأنشطة الاقتصادية والعلاقات الاجتماعية والفوارق، وأشكال من المقاومة الاجتماعية، بينما يراها البعض فترة للراحة والخلود، مبينا الفائدة الأكاديمية للبحث الاجتماعي حول الليل، إلى جانب مساهمة ذلك في بناء سياسات حضرية شاملة تعترف بهذا البعد الزمني، كما هو الحال في التجربة الأوروبية، حيث يجري التعامل مع الليل كأحد العناصر المكونة لمجال الاقتصاد والثقافة وجودة الحياة.
من جهتها، أفادت الأستاذة الجامعية المشرفة على هذا البحث الاجتماعي أن المشروع يرمي إلى تقديم فهم وتحليل سوسيولوجي أكاديمي، في محاولة لكسر عادة إنجاز البحث الاجتماعي خلال فترة النهار، ما يجعل من المبادرة البحثية محاولة لكسر هذا “الأسر” الذي قد يواكب عملية البحث الاجتماعي للكشف عن جوانب اجتماعية أخرى، ذات صلة بالهشاشة الاجتماعية أو المقاومة الاجتماعية أو الاستراتيجيات المبتكرة التي يلجأ إليها الأفراد في حياتهم اليومية في مواجهة الإشكالات الاجتماعية التي تواجههم خلال فترة الليل.
وترى الدكتورة بنبلي أن المشروع البحثي، يعد انفتاحا ضروريا في الساحة الأكاديمية المغربية، من خلاله يكتشف الطلاب كيفية مواجهة تعقيدات الواقع الميداني بشكل مباشر وكسر الطابوهات حول فترة الليل باعتبارها جزءا لا يتجزأ من الحياة الحضرية، من المهم تسليط الضوء عليه من الناحية السوسيولوجية للاقتراب أكثر من هذه المناطق الرمادية في المدينة.
وتبعا لذلك، جمع المشروع بين التكوين النظري والخروج الميداني الليلي لأجل البحث الاجتماعي في إطار مجموعات صغيرة مؤطرة، همت إجراء معاينات للحياة الاجتماعية في محطات القطار، والشوارع الكبرى، والأحياء الشعبية، وعدد من المناطق المصنفة بالهامشية.
وتضمنت الملاحظات الميدانية عددا من الممارسات الاجتماعية، من ضمنها وضعية النساء وظروف ولوجهن الفضاء العام خلال فترة الليل، ثم شكل الاقتصاد غير المهيكل وممارسة العمل الليلي، علاوة على ارتياد وسائل النقل وفضاءات الترفيه خلال فترة الليل، مع الاهتمام بملاحظة واستكشاف نواحي مختلفة، منها الإضاءة والأصوات والجو العام، ومدى الشعور بالخوف أو الطمأنينة والأمن خلال فترة الليل بمدينة حضرية من حجم الدار البيضاء.
ومكنت هذه التجربة مجموع الطلبة من تبني موقف تأملي لزمن الليل، متجاوزين تمثلاتهم المسبقة حول الممارسة الاجتماعية خلال هذه الفترة، والتي ترتبط غالبا بمفهوم الخطر والإقصاء والممارسات المحظورة، حيث وقف الطلبة على وجود فئات تعيش فترة الليل كواقع يومي، وتطوره كمجال للرزق أو للراحة، وهي التجربة التي ساعدت الطلبة على بناء موقف نقدي وتأملي تجاه المدينة وما تخفيه بعد ساعات المغيب، تضيف الدكتورة بنبلي.