كشفت وزارة المالية مؤخرًا عن ملامح مشروع الموازنة العامة للسنة المالية الجديدة 2025/2026، والتي تحمل عنوانًا طموحًا هو: “موازنة النمو والاستقرار والشراكة مع مجتمع الأعمال”، وسط تحديات مالية جسيمة ناجمة عن تصاعد أعباء الدين العام، واستمرار فجوة العجز، واعتماد واسع على الإيرادات الضريبية.
وفيما تستهدف الحكومة خفض نسبة الدين العام وتوسيع القاعدة الضريبية، تكشف البيانات عن ارتفاعات كبيرة في بند الفوائد، وتوسع في برامج الدعم، وتخصيصات لافتة لقطاعي الصناعة والصادرات.
خفض الدين.. أولوية تعترضها أعباء الفوائد
تسعى وزارة المالية من خلال مشروع الموازنة الجديد إلى خفض نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى 81% بحلول يونيو 2026، مع تقليص حجم الدين الخارجي لأجهزة الموازنة بما يتراوح بين 1 إلى 2 مليار دولار سنويًا
العجز الكلي المقدّر في الموازنة الجديدة يبلغ 1.5 تريليون جنيه، مقارنة بـ 1.2 تريليون جنيه مستهدفة في موازنة العام المالي الجاري (2024/2025). وستعتمد وزارة المالية في تمويل هذا العجز على إصدار أذون وسندات خزانة، أي الاستمرار في الاقتراض المحلي من الجهاز المصرفي.
وفي كلمته أمام مجلس النواب، أشار أحمد كجوك، نائب وزير المالية، إلى تبني استراتيجية متوسطة المدى لإدارة الدين العام، ترتكز على تنويع مصادر الاقتراض وإطالة آجال الاستحقاق، وتشمل إصدار أدوات مالية جديدة مثل الصكوك وسندات التجزئة في السوق المحلي.
“اللمبة الحمراء” تضيء في البرلمان بسبب الفوائد
أثار تصاعد أعباء فوائد الدين قلقًا كبيرًا تحت قبة البرلمان. وقال النائب محمد عطية الفيومي، رئيس لجنة الإسكان، إن نصيب كل مولود جديد من الديون وصل إلى 105 آلاف جنيه، محذرًا من خطورة استمرار الاعتماد على الاقتراض الخارجي.
وطالبت النائبة إيفلين متى، عضو لجنة الصناعة بمجلس النواب، إنها وافقت على الحساب الختامي للموازنة العامة للدولة لعدة اعتبارات، أبرزها إدراكها لحجم التحديات الإقليمية والدولية التي تحيط بمصر، مؤكدة أن البلاد تقع في واحدة من أكثر المناطق توترًا واشتعالًا بالصراعات، ورغم ذلك فإنها تواصل الصمود والتعايش، وتظل من الدول القليلة التي لا تزال توفر احتياجات مواطنيها.
وأضافت متى، في بيان صحفي صادر يوم الأربعاء، أن ارتفاع أسعار البترول كان متوقعًا، بل من المرجح أن يشهد مزيدًا من الزيادات مستقبلًا، نظرًا لارتباطه بالسعر العالمي، مشيرة إلى أن البترول ظل مدعومًا في مصر لسنوات طويلة، لكن استمرار هذا الدعم شكّل عبئًا كبيرًا على الدولة، خاصة في ظل احتياجاتها المتزايدة من الدولار
وتُظهر الأرقام أن فوائد الدين قفزت خلال أربع سنوات من 584.8 مليار جنيه إلى أكثر من 2.2 تريليون جنيه، ما يهدد بإزاحة بنود أخرى مهمة من الإنفاق العام، ويقلل من مرونة الموازنة.
من جانب آخر، تُراهن وزارة المالية على زيادة الإيرادات العامة بنسبة 23% لتصل إلى 3.1 تريليون جنيه، منها 2.6 تريليون جنيه من الضرائب وحدها، ما يعني أن 83.87% من الإيرادات مصدرها الضرائب، بينما لا تتجاوز الإيرادات غير الضريبية 500 مليار جنيه.
ورغم الزيادة الكبيرة في الإيرادات الضريبية، تؤكد الوزارة أنها لن تفرض ضرائب جديدة، بل تعتمد على توسيع القاعدة الضريبية، وتفعيل القوانين، وتحسين الأداء الجمركي، إلى جانب الرقمنة وتبسيط الإجراءات.
وتطمح الوزارة إلى رفع نسبة الإيرادات الضريبية إلى 13% من الناتج المحلي في 2025/2026، ثم إلى 4.7 تريليون جنيه بحلول 2028/2029، في ظل تحسن النشاط الاقتصادي.
قفزات في المصروفات واهتمام بالخدمات
الإنفاق العام سيقفز إلى 4.6 تريليون جنيه بزيادة 19.2% عن العام الجاري، مع تخصيصات مهمة لقطاعات التعليم، الصحة، والأجور. من بينها:
679.1 مليار جنيه للأجور (بزيادة 18.1%) لتعيين أكثر من 75 ألف معلم و30 ألف طبيب.
617.9 مليار جنيه للقطاع الصحي، مع رفع مخصصات العلاج على نفقة الدولة بنسبة 50%.
684.7 مليار جنيه للتعليم قبل الجامعي، و358.2 مليار جنيه للتعليم العالي.
173 مليار جنيه للبحث العلمي.
فيما تم تخصيص 742.5 مليار جنيه للحماية الاجتماعية، تشمل:
160 مليار جنيه لدعم السلع التموينية.
54 مليار جنيه لبرنامج “تكافل وكرامة”.
150 مليار جنيه لدعم الكهرباء والبترول (75 لكل منهما).
شراكة مع الصناعة والتصدير: دعم غير مسبوق
في سابقة وصفها نواب البرلمان بـ”الإيجابية”، خصصت الموازنة الجديدة 78 مليار جنيه لدعم الصناعة والتصدير، موزعة كالتالي:
44.5 مليار جنيه لدعم الصادرات (بزيادة 93%).
29.6 مليار جنيه لدعم الإنتاج الصناعي.
5 مليارات جنيه كحوافز نقدية للمشروعات الصغيرة والمتوسطة.
3 مليارات لدعم صناعة السيارات، ومثلها لمبادرات الطاقة.
ويعكس هذا التوجه محاولة الحكومة تحفيز النمو الحقيقي عبر التصنيع والتصدير، بدلًا من الاعتماد على الديون والضرائب وحدها.
تحاول وزارة المالية من خلال مشروع موازنتها الجديدة أن توازن بين خدمة الدين والاستثمار في البشر، وبين ضغوط الفوائد وتوسيع الإيرادات، وبين مخاطر الاقتراض وتحفيز النمو. لكن يبقى التحدي الأكبر في كيفية تقليص العجز دون تحميل المواطنين أعباء جديدة، مع استمرار ارتفاع تكلفة الاقتراض، واستحواذ فوائد الدين على نصف الإنفاق العام تقريبًا.
ويبقى سؤال مفتوحًا: هل تنجح الحكومة فعلًا في كبح جماح الدين، وتحقيق شراكة حقيقية مع مجتمع الأعمال، دون التفريط في الاستحقاقات الاجتماعية والتنموية؟