إذا سألتني عن أكثر موسيقيّ يلهمني من القرن العشرين، سأجيبك بلا تردد: الموسيقار الأمريكي لينرد برنستاين! بدأ عشقي لموسيقى برنستاين قبل سنوات مع “قصة الحي الغربي”، وهي المسرحية التي ألّف موسيقاها، والتي كانت نقطة التحول في فكري، وطريقة تفاعلي مع الموسيقى الكلاسيكية.
ما جذبني وجعلني أتعلق بهذه السيمفونية بالتحديد هي الطريقة التي استخدم بها برنستاين تقنيات موسيقية معقدة مثل الفوج Fogue، بشكل حداثيّ مدهش، للتعبير عن الصراعات المحتدمة بين العصابات في المسرحية، واستخدام برنستاين لهذا التكنيك الباروكي يعكس ذكاءه الحاد في اختيار الشكل الموسيقي الأمثل الذي يعبر عن تلك العلاقة المتوترة بين الشخصيات الرئيسية في المسرحية. باختصار كانت موسيقى الحي الغربي بداية لاكتشاف عالم موسيقي جديد، عالم مليء بالتجديد الفني والعاطفي، والذي كان يحمل الكثير من الطموحات والتجارب الموسيقية الفريدة.
كاديش.. السيمفونية الثالثة العظيمة
لكنني في هذا المقال أودّ التركيز على السيمفونية الثالثة لبرنستاين، الأقرب لقلبي، والتي حملت اسم “كاديش”، وكاديش تلك صلاة تُقرأ على روح الميت، وتعبر عن تمجيد لله، وقد أهدى برنستاين هذه السيمفونية إلى روح الرئيس الأمريكي جون إف كينيدي بعد اغتياله، فبعد أسابيع قليلة من تلك المأساة، ألّف برنستاين هذه السيمفونية لتكون تعبيراً موسيقيّاً ثورياً عن حالة الألم والضياع التي عصرت قلبه، وكاديش تعدّ واحدة من أكثر أعماله تأثيراً وعمقاً، ويمكن أن نعتبرها بمثابة سيرة ذاتية لمرحلة هامة من حياة لينرد برنستاين، فهي تحفل بالكثير من المشاعر المتناقضة والصراعات الداخلية والأحلام وغيرها من التفاصيل التي تعكس موسيقياً تجربة برنستاين الشخصية، وفهمه للعالم من حوله.
الحركة الثانية Din Tora وتأثيرها اللامحدود
الأمر الثاني الذي يجعل السيمفونية الثالثة مميزة جداً بالنسبة لي هو الحركة الثانية فيها، والتي تحمل عنوان Din Torah أو “المحاكمة”، في هذه الحركة تُخفض الموسيقى قليلاً، ونسمع كما في الحركة الأولى، راوياً يتحدث بنبرة صوت غليظة وخلفه الجوقة الموسيقية ترنم بالعبرية لحناً مهيباً، هذا الراوي مهمته أن يأخذنا في رحلةٍ متخيلةٍ إلى يوم الحساب بعد البعث.
أما من الناحية الموسيقية، فقد لجأ برنستاين إلى أسلوب بالغ الجرأة في بناء هذه الحركة، معتمداً تقنيات من المدرسة الإثني عشرية (Twelve-tone technique) ولكن بأسلوب غير تقليدي، بعيد عن الصرامة الأكاديمية التي اتبعها مؤسسو هذا النهج، فبينما ترتكز السيمفونيات الكلاسيكية عادةً على مفتاح نغمي محدد يحكم بنية العمل الموسيقي، عمد برنستاين إلى تفكيك هذا الإطار، وسمح للنغمات الاثنتي عشرة بالظهور بحرية متساوية، دون تمييز محور نغمي واضح أو مركز استقرار. هذه المراوحة الحرة بين النغمات تخلق لدى المستمع إحساساً بالتيه والقلق، وكأن العمل نفسه يعيش حالة من الانتظار المشحون بالتوتر، مما يترجم ببراعة الشعور العميق الذي يتملّك البشر وهم على أعتاب مواجهة مصيرهم في لحظة الحساب الأخروي.
بالإضافة إلى ذلك، نجد أن برنستاين استخدم أسلوباً مبتكراً نوعاً ما في التلاعب بالإيقاع داخل الحركة، حيث يتغير التيمبو (السرعة) بشكل مفاجئ ومتكرر بكثرة، مما يساهم في شعور من عدم الاستقرار والانعدام المستمر للتوازن في العمل، هذا التلاعب في السرعة يعكس الحالة الوجدانية للراوي الذي يتنقل بين لحظات الشك واليقين، بين البحث عن إجابة حقيقية وبين الاضطراب الداخلي، ومن أكثر الأمور المدهشة في هذا العمل اعتماده على بناء موسيقي تمزج بين الطبول بشكل مغاير عما كان عليه الوضع في زمن تأليف السيمفونية، وقد أضفت طبوله إحساساً جنائزيّاً، كذلك استخدامه لآلات النفخية لترفع من شدة دراما السيمفونية في العموم، والحركة الثانية على وجه الخصوص.
الموسيقى كتمرد على التقليد.