في أمسية مشهودة ضمت العديد من الشخصيات العامة ونجوم الصحافة والإعلام افتتح المهندس عبد الصادق الشوربجي رئيس الهيئة الوطنية للصحافة المعرض الفني للكاتبة الكبيرة سناء البيسي والذي ضم العديد من الأعمال والتي بلغت 90 عملا تعبّر عن مسيرتها الفنية مع الخطوط والألوان، وتعكس تفردها من خلال وعيها بالعديد من اتجاهات الفن الحديث والمعاصر، وقد كانت المرأة أحد مفردات إبداعها بالإضافة إلى عنصري الحصان والزهور وارتباطا بأحداث الساعة قدّمت لوحة “العودة” التي تمثّل تجمعات الفلسطينيين العائدين إلى شمال غزة.
سناء البيسي تصنّف بأنها امتداد لفترة التألق في الفن المصري الحديث في ستينيات القرن الماضي أضفت إليها بصمتها في التلخيص والتجريد ببلاغة الوعي الفني في الشكل واللون الذي تلامست معه بعض السمات الزخرفية بوعي في التعبير عن مشاعرها الخاصة.
الخطوط والألوان كانت هي المدخل إلى بلاط صاحبة الجلالة في أوج تألقها ومجدها في حضور نجوم وعمالقة الصحافة : مصطفى وعلي أمين وهيكل وأحمد بهاء الدين وأنيس منصور وإبراهيم نافع..وغيرهم..هذه الخطوط وتلك الألوان كانت أدوات صاحبة التاريخ العريق و القلم الرشيق المبدعة والفنانة القديرة سناء البيسي ؛ واحدة من نجوم الصحافة وأحد علامات الإبداع المصري والعربي بالكلمة والرسم لتختار عنوان أحدث معارضها : “إبداع الكلمة وتوهج الرسم” الذي تقيمه في جاليري “بيكاسو إيست” بالتجمع الخامس، والذي يعبر إلى آفاق متجددة ويعبّر عن الروح المبدعة لهذه الفنانة التي لا يزال قلبها ينبض بالعشق للإبداع بالخط واللون بعد أن تؤثرك داخل شباكها.
من خلال الكلمات تشدو بأعذب العبارات المتوالية والتي لا يستطيع القارئ أن ينتظر أو يتوقف ليأخذ نفسا عميقا ليعاود القراءة ؛ إنما تأسره الكلمات و يظل رهينا لها حتى نقطة النهاية التي تضعها في ختام المقال أو الموضوع .. إنها كذلك في لوحاتها التي أبدعتها تجعل المشاهد يعاود الرؤية عدة مرات حتى يستوعب ما ترمي إليه اللوحة من مضامين فلسفية بين طياتها.
إنها معجونة بمصرية ذات خصوصية في كتاباتها على مسطحات الورق أو في تشكيلاتها اللونية على مسطحات الورق الخاص بالرسم أو التوال”.
أول لقاءاتي بها كانت في مكتبها بالدور الخامس بمبنى الأهرام العتيق في أواخر الثمانينات لوضع الخطوط الأولى للبورتريه الذي سأرسمه لها ، كانت ترتدي “بلوزة” مغزولة بخيوط تتماوج بألوان البحر، وكنت – وقتها – أضع ضمن اهتماماتي أن أجلس أمام هؤلاء النجوم لأعكس رؤيتي لهم على مسطح اللوحة بعد اختيار الزاوية المناسبة التي تُظهر الشخصية في أجمل حالاتها ، وفي إطار ماهيتها لأكتشف أن سناء البيسي شخصية ذات حضور طاغ ، وثقافة رفيعة أظهرتها مع حديثي معها أثناء الرسم والتلوين، وقد كنت في هذه الفترة قد رسمت العديد من هؤلاء المشاهير ، على رأسهم أنيس منصور وتوفيق الحكيم وثروت أباظة ومحمد سلماوي .. وغيرهم.
إنها نموذج للرقي في التعامل حتى أنها كانت تخفي تماما عدم رضاها على أي زميل كبير في منصبه أو لازال في بداية مشواره ، وكنت أخشى عليها عواقب ذلك الأسلوب الذي أوصلها إلى غرفة عمليات “القلب المفتوح” .. هذا القلب الرقيق كان يمثّل لنا حضن الأم وحنانها ، نضع فيه – بثقة – أسرارنا و حكاياتنا العامة وكذلك الخاصة ، حيث كان تعاملها – ولازال – يحمل من الرقي ما لا يمكن وصفه ، وانفردت بتلك الصفة ولازمتها ، وشهد بها كل من تعامل معها ، هذا الرقي الذي صاحبه حرفية عالية و مَعْلمة صحفية جعلتها تشد القارئ مع كلمة البداية وحتى نقطة النهاية ؛ فهي صاحبة حضور طاغ في كتاباتها التي عنونتها في “نصف الدنيا” ب “شوقي إليكم” عنوان يحمل من الرقة والعذوبة والحنان ما لا يمكن وصفه بهذه الصفات النادرة.
وضعت البيسي لبنات مجلة نصف الدنيا والتي كانت متفرّدة بالفعل ، تأسست لتكون مجلة نسائية لكنها استطاعت – بحنكة وعبقرية – أن تحولّها إلى مطبوعة ثقافية شاملة يقرؤها كل أفراد الأسرة.
يفتخر أبناء جيلي بأن كان له شرف العمل تحت قيادتها منذ بداية صدور مجلة “نصف الدنيا” أوائل التسعينات والتي جعلت منها أيقونة المطبوعات الصحفية العربية بانفراداتها التي ميّزتها ، وقد كانت تنفذ فور صدورها ، ولم لا ؛ وهي سيدة الصحافة العربية بلا منازع ، عادت لتمتلك ناصية الخطوط والألوان ، وفي الحقيقة أنها لم تعد ؛ لكن عاودها الحنين إلى ما طرقت به باب صاحبة الجلالة لتشكّل أعذب الألحان اللونية بين القوة والبساطة ، والتناغم والتضاد.. وحلّقت في سماوات متسعة ومتعددة تصول وتجول لتستمتع وتُمتع جمهورها ومحبيها بالألوان كعلاقات كما كانت تمتعهم بعلاقات الجمل وتراكيب الكلمات.
كتب لها نجيب محفوظ :”قرأت مقالك وسعدت به كل السعادة ، ولكن هيهات أن أبلغ ذروة البلاغة التي تتمتعين بها ، فتقبلي شكري وعذري واغفري خطئي”.
رحلة حياة تقدمها الفنانة سناء البيسي على مسطحات الأعمال صاحَبَها الإلهام الذي كان مصدر إبداعها بالكلمات ، رغم اختلاف الأداة إلا أن الجوهر واحد ، وهو أمر طبيعي يرتبط بالصدق الفني الذي يميّز الفنانة والكاتبة الكبيرة ؛ الصفحة البيضاء التي تشغلها بالكلمات والجُمل والعبارات هي نفس الصفحة التي تزيّنها بالخطوط والألوان ، فاختلاف الأداة وتنوعها يثري الناتج رغم الارتباط الضمني والحتمي بينهما ليأتي العمل مشبّعا بالعديد من المفردات التشكيلية.
ما بين الأسلوب الزخرفي في العلاقات اللونية والذي يصل إلى درجة المنمنمات في تنوع مساحات اللون وأسلوب التعامل بالخطوط المتنوعة السمك التي تشكّل عناصر اللوحة جاءت أعمال سناء البيسي محمّلة بتفاصيل لا غنى عنها وكأنها تنسج بأناملها حكايات تولّف أشكالا لا حصر لها من رموز ارتبطت بالحكي الشعبي مثل الطائر والعين والكف والسمكة والنجمة والهلال ؛ شكّلتهم في تناغم بالخطوط على خلفية سوداء كأنها تغزل بالفرشاة تفاصيل متنوعة تتعايش بين الحلم والواقع لتجعل المشاهد في حالة من المتابعة المستمرة لاستكشاف ما ترمي إليه هذه الخطوط المتشابكة وما تعنيه العلاقات بينها في التوصل إلى حالة الزحام وكأنه السيرك الذي نعيشه في حياتنا اليومية والحضور القوي لليلة الكبيرة والعالم كتيرة ماليين الشوارع يابا في الريف والبنادر ، والأطفال يستمتعون بالأراجوز اللوز اللوز والبلياتشو وصندوق الدنيا وحلبة الملاكمة مع الفيل والحصان لتجعل المشاهد جزءا من العمل يتفاعل مع عناصره الزخرفية المتعددة التي استطاعت الفنانة أن تؤلف بينها وتحافظ على مفردات العمل رغم ازدحام تلك العناصر المرتبطة والمعبّرة عن عمق الموضوع واستطاعت أن تضفي البهجة والفرحة والمرح الذي أكّدته الألوان التي جمعت فيها بين الأسلوب الزخرفي الذي يعتمد على المساحات المسطّحة وبين التفاصيل التي استطاعت أن تحافظ عليها ببساطة دون عناء ، كما أفردت لجماهير الليلة لوحات كاملة لتضعهم في مصاف أبطال العمل.
ألوان الجواش هي الخامة الأثيرة للفنانة سناء البيسي استطاعت من خلالها أن تحدد “باليتة” خاصة بها جمعت بين التناغم و التضاد اللوني لتكتمل السيمفونية كموضوع يؤكد الأداء بأستاذية وفرشاة جيّاشة تنبض بالصدق وجلال الحالة الإبداعية المتواصلة التي تعيشها وتعايشها الفنانة.
55 عاما تفصل بين هذا المعرض ومعرضها الأول الذي أقامته عام 1972 تحت رعاية وزارة الثقافة وافتتحه د. عبد القادر حاتم ، وقد اختيرت مستشارة فنية لوزارة الثقافة وأشرفت على مجلة “فنون مصرية” التي كانت تصدرها وزارة الثقافة.
في رحلتها الممتدة قدمت سناء البيسي للمكتبة العربية 12 كتابا والعديد من المقالات الشيقة ، وقامت بإعداد موسوعة عن الفنانين العالميين والمصريين استغرقت 15عاما ، وقد أهّلها تميزها للحصول على جائزة مصطفى أمين عام 1992، وجائزة الإعلام من منظمة الصحة العالمية عام 2004، ودرع الريادة من الملتقى الرابع للكاريكاتير عام 2017، وريادة صحافة المرأة من الدولة في نقابة الصحفيين عام 2023، وجائزة الاستحقاق الثقافية من مؤسسة فاروق حسني عام 2024، كما تم تكريمها في مهرجان “الأفضل” بجائزة “إنجاز العمر” عام 2025.
سيبقى اسم سناء البيسي علما ونجمة ساطعة في مجال الفن التشكيلي و الرسم والكتابة الصحفية، إنها سيرة ومسيرة تتناولها أقلام الكتّاب على مدى السنين .. متعها الله بالصحة والعافية.