ندى عبد الرزاق
لبنان الذي لطالما عُرف بـ «مستودع الدواء» النوعي في الشرق، وبوابةً يتوافد إليها المرضى والطلاب والسيّاح من دول الجوار طلباً للعلم والشفاء، انقلبت فيه المعادلة رأساً على عقب، وتحوّل من مركز موثوق إلى ساحة شبه فوضوية تُباع فيها صحة الناس تحت الطاولة، وتُهرّب فيها الأدوية المدعومة إلى خارج الحدود، ويُروَّج فيها لمنتجات دوائية مزوّرة تحمل ملصقات أصلية وتواريخ مزيفة، لتُمرَّر عبر قنوات رسمية، وكأن شيئاً لم يكن.
في بلد يئنُّ تحت وطأة الأزمات، استغلّ التجار الانهيار الأمني والاقتصادي، ومعهم شبكات نافذة تمارس الغش والتزوير بغطاء شبه رسمي، لتحويل القطاع الدوائي إلى سوق سوداء واسعة، تتحرك فيها الأدوية بلا ضوابط، وتتسلل عبرها الأنواع المقلدة والرديئة كأنها علاج فعلي، في ما هي لا تحمل من الدواء سوى الاسم والشكل الخارجي. لقد بات تهريب الأدوية من لبنان وإليه، وبيع المغشوش منها داخل صيدليات البلاد، واقعاً ثابتاً لا يمكن التستّر عليه.
ومما يزيد الطين بلّة، أن تسريبات موثوقة وصلت إلى «اللواء»، تؤكد أن بعض الصيدليات، وإن كانت محدودة العدد، لا تزال تبيع أصنافاً مقلّدة من أدوية حسّاسة، مثل دواء (Crestor)، المُستخدم في علاج الكولسترول وأمراض القلب، في خرق صارخ لكل المعايير الأخلاقية والمهنية. هذه الفضيحة الدوائية ليست ظاهرة مستجدة، لكن الجديد هو استمرارها رغم تبدّل الحكومات، وتشكيل العهود، وإطلاق شعارات الإصلاح. فالعهد الجديد بقيادة الرئيس جوزاف عون، ووزارة الصحة العامة برئاسة الدكتور ركان ناصر الدين، لم يضع بعد يده بثقل كافٍ على هذا الجرح النازف، ربما لان انطلاقة الحكومة الجديدة لم يمضِ عليها أشهر بعد، وتحتاج المسألة الى وقت. في جميع الأحوال، ان غدا لناظره قريب.
بالاستناد الى ما تقدّم، لقد تحوّل الفساد في قطاع الأدوية إلى ما يشبه الورم الخبيث، لا يُكتشف إلّا بعد فوات الأوان. من هنا، لا تُفاجأ إن كان ما في يدك ليس علاجا بل خدعة قاتلة، ولا تستغرب إن عجز الطبيب عن إنقاذ مريضٍ لأن «الدواء» الذي صرفه له لا يحتوي على المادة الفعّالة أصلاً. فهنا في لبنان، اختلط الدواء بالداء، وتآمرت المصالح السياسية والمالية مع غياب الرقابة لتجعل من المريض ضحية التجربة، ومن الصيدلي الأمين هدفاً في مرمى السوق السوداء، ومن الدولة نفسها شريكة بالصمت أو التقصير.
لذا، نضع هذا الملف اليوم بين أيدي الجهات المعنية، فهو ليس مجرد قضية مهنية، بل قضية كرامة وطنية وصحة عامة وأمن دوائي. فحين يفتح باب التزوير في الدواء، يُفتح معه باب الموت البطيء، وتُغلق في المقابل أبواب الثقة بأي نظام صحي أو علاجي. لقد آن الأوان لمواجهة الحقيقة: لم نعد نبحث عن الدواء فحسب، بل عن الحقيقة الكاملة خلف كل علبة تُباع، وعن هوية المافيات التي خطفت صحة اللبنانيين وباعتها بأبخس الأثمان على أرصفة الفوضى.
فتح الملفات منذ اللحظة الأولى
في ضوء هذه المعطيات، يوضح نقيب الصيادلة في لبنان الدكتور جو سلوم في حديث لـ «اللواء» أنّ «موضوع الدواء المهرّب والمزوّر، والأدوية ذات النوعية السيئة، بالإضافة إلى الدواء المدعوم الذي كان يُهرَّب إلى خارج لبنان على حساب صحة المرضى، لا سيّما مرضى السرطان، ليست مسائل جديدة بالنسبة إلى نقابة الصيادلة، وبشكل خاص بالنسبة إليّ شخصياً. فمنذ تولينا مهامنا في النقابة قبل أكثر من ثلاث سنوات، بادرنا إلى فتح ملف تهريب الدواء المدعوم إلى الخارج، وفقدانه من الصيدليات».
ويضيف: «كذلك فتحنا قضية الدواء المهرّب الذي كان يدخل إلى لبنان من عدة بلدان، عبر المرافئ الشرعية وغير الشرعية، إلى جانب مسألة دقيقة وحسّاسة لا تقلّ أهمية، تتمثّل بالعلاجات المتدنّية الجودة التي كانت تُسجَّل في فترات سابقة في وزارة الصحة، الأمر الذي كان يؤثر سلباً في حياة المرضى، وكذلك على مستوى الدواء في البلاد وصورة لبنان التي نؤمن بها».
غياب المحاسبة ساعد على اتساع الفساد
ويتابع بأسف: «طيلة الفترة الماضية، لم تكن هناك آذان صاغية، ولا خطوات فاعلة بالمستوى المطلوب، لا سيّما في ما يتعلق بوقف نزيف الدواء المدعوم، مثل أدوية مرضى السرطان، الذين اضطرّوا إلى التوجّه نحو السوق السوداء وشراء الدواء المهرّب».
ويكشف انه: «كانت هناك عمليات تكديس للدواء المدعوم داخل مستودعات خاصة، من قبل أشخاص بلا ضمير، تمهيدا لتهريبه إلى خارج لبنان، من دون حسيب أو رقيب».
عهد جديد… وصحوة ضمير
ويشير سلوم إلى أنه «اليوم، يبدو أنّ هناك صحوة ضمير، لا سيّما في ظل العهد الجديد، عهد القوانين. ولهذا، وضعنا في نقابة الصيادلة كل ما لدينا من معلومات ومعطيات، ضمن مسار النضال المستمر، بتصرف الأجهزة القضائية والأمنية، للمساعدة في أي معلومة أو تحقيق يمكننا مؤازرته».
ويقول في ختام حديثه: «لقد وضعنا أنفسنا بالكامل بتصرف الجهات المعنية، لأننا نعتبر أن من حق المريض أن يحصل على دواء جيّد ومدعوم، ومن واجبنا أن نوفّر له الأنواع ذات الجودة المرتفعة، لا أن نترك هذا الملف الحيوي مرتعاً لتجار المافيا، الذين استفادوا من تهريب الدواء المدعوم، ومن تسجيل أدوية سيئة الجودة في البلاد».
التغاضي لم يعد مقبولاً
في الخلاصة، إنّ ما كشفه نقيب الصيادلة في لبنان لـ «اللواء» لا يندرج ضمن إطار التصريحات العادية، بل هو ناقوس خطر جديد يُقرع في وجه منظومة من التراخي والفساد والإفلات من العقاب. التهريب، التزوير، تسجيل أدوية سيئة النوعية، وبيع أدوية مدعومة في السوق السوداء أو تهريبها إلى الخارج ليست جرائم ضد نظام الدواء فقط، بل جرائم موصوفة ضد الإنسان وصحته وكرامته.
من هنا، تضع هذه الوقائع الحكومة الجديدة ووزارة الصحة أمام مسؤوليات جسيمة. لم يعد مقبولاً التغاضي أو التباطؤ، ولا الاكتفاء بالتمنيات أو الخطابات. المطلوب اليوم إجراءات صارمة، تفتيش دائم، شفافية كاملة، ومحاسبة لا ترحم.
قطعاً، إنّ صحة المواطن ليست مادة للمساومة أو التربح أو المافيات. وكل تأخير في ضبط هذا القطاع سيزيد الشكوك، ويفاقم الأزمة، ويكرّس فقدان الثقة بلبنان كوجهة علاجية وطبية. لقد آن الأوان لوضع حد نهائي لكل التجاوزات التي تطال حياة الناس وتضرب سمعة لبنان في العمق.
