“مستقبل الدولة الليبية مرهون بقدرتها على تفكيك منطق الميليشيا، لا إعادة إنتاجه. ويكمن التحدي الحقيقي في الانتقال من حالة تعدّد القوى إلى وحدة مؤسساتية قائمة على الدستور والقانون…”
منذ سقوط نظام القذافي في 2011، ظلّت ليبيا تعاني من أزمة بنيوية عميقة تتمثّل في انقسام مؤسسات الدولة وتعدّد التشكيلات المسلحة التي تتنازع معها شرعية احتكار العنف. فبينما يُفترض أن تكون الدولة – وفقًا للمنظور الكلاسيكي لماكس فيبر – “الكيان الوحيد المخوّل باستخدام القوة بشكل مشروع عبر القانون”، نجد أن الواقع الليبي يعكس سيطرة ميليشيات وأجهزة أمنية موازية تتحكم في مقاليد الأمن والسلطة دون خضوع حقيقي للقانون أو الدستور أو المؤسسات الرسمية. بل تخضع هذه الجماعات لولاءات قادتها…
هذه الظاهرة لم تُنتج فقط حالة من الفوضى الأمنية، بل شكّلت تحديًا وجوديًا لفكرة الدولة ذاتها، حيث تحوّلت التشكيلات المسلحة إلى لاعب رئيس في المعادلة السياسية، تفرض شروطها وتُعيد إنتاج نفسها عبر صيغ “شرعنة” شكلية، بينما تظل عصية على المحاسبة والاندماج في مؤسسات الجيش والشرطة النظامية. فكيف يمكن لدولة أن تقوم وهي عاجزة عن توحيد أدواتها الأمنية؟ وما تأثير استمرار هذه العسكرة غير القانونية على مستقبل الاستقرار والتحول الديمقراطي في ليبيا؟
في هذا اللقاء مع الأكاديمي والخبير الأمني “حكيم غريب”، نحاول تشريح جذور هذه الإشكالية، واستعراض نماذج التشكيلات الموازية مثل “جهاز الردع” و”قوات الدعم المركزي”، وتبيان كيف تُساهم السياسات الظرفية في تعطيل الحلول الجذرية، لنخلص في النهاية إلى سؤال مصيري: هل يمكن بناء دولة ليبية حديثة دون تفكيك منطق الميليشيات أولًا؟
“الدولة واحتكار العنف المشروع…”
“الرهان على استنساخ التجارب الميليشياوية في صيغة رسمية لا يُنتج دولة، بل يُعمّق هشاشة السلطة ويفاقم أزمة الشرعية”
يرى الخبير والأكاديمي “حكيم غريب” أن الدولة الحديثة، وفقًا لنظرية “ماكس فيبر” الكلاسيكية في علم الاجتماع السياسي، هي الكيان الذي يحتكر استخدام القوة داخل إقليمه بطريقة مشروعة، أي من خلال القانون والمؤسسات المعترف بها دستوريًا. ويضيف أن هذا الاحتكار مفقود أو منقوص في الحالة الليبية، بسبب وجود كيانات عسكرية وأمنية لا تخضع للتراتبية القانونية (وزارة الداخلية، وزارة الدفاع، قيادة الجيش)، بل تعمل بتسميات استثنائية وتبعية خاصة تحت غطاء مكافحة الإرهاب أو الجريمة المنظمة.
ويُبرز أن جوهر الأزمة الليبية يتجاوز مجرد صراع سياسي، ليصل إلى اختلال بنيوي في مفهوم السيادة. فوجود حكومة ومؤسسات رسمية لا يمنع من كون الدولة تُنازع في شرعيتها من طرف تشكيلات مسلحة موازية. كما أن فشل النخب السياسية في تقديم بدائل مؤسسية خاضعة للمساءلة، مع وجود دعم خارجي انتقائي، يُزيد من تعقيد المشهد ويجعل الحل رهين إرادة داخلية صادقة ودعم دولي غير منقوص.
إن استعادة السيادة الليبية لا يمكن أن تتحقق عبر حلول تقنية مؤقتة، بل من خلال مواجهة جذرية لثقافة “التسليح الموازي”، وربط الإصلاح الأمني بمشروع سياسي يعيد الثقة في الدولة كمصدر وحيد للحماية والعدالة.
“جهاز الردع ومفارقة التسمية والتبعية…”
“المعضلة في ليبيا لم تكن يومًا غياب القوة، بل غياب الاحتكار المشروع لها”
يُعتبر “جهاز الردع لمكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة” – حسب “حكيم غريب” – نموذجًا صارخًا لحالة الالتباس المؤسساتي، إذ يقوم الجهاز بمهام أمنية حساسة، إلا أن تشكيله وتبعيته لا يزالان محل جدل قانوني. ويشير إلى أن تسميات مثل “الردع”، و”الدعم المركزي”، و”قوة العمليات الخاصة” تُكرّس الانقسام المؤسساتي وتُضعف سلطة القضاء، مما يفتح الباب أمام انتهاكات حقوق الإنسان باسم الأمن.
ويبرز أن فعالية هذه الأجهزة لا تبرر استمرار عملها خارج الإطار الرسمي، إذ إن غياب الرقابة والتبعية القانونية قد يحوّلها إلى أدوات سياسية تهدد الاستقرار، مؤكدًا أن الحل يكمن في الإصلاح الجذري، لا في “شرعنة” الميليشيات بتغيير الأسماء فقط.
“إعادة تدوير الميليشيات: التجميل لا الإصلاح…”
“كل مشروع يتجاوز بناء جيش وطني موحّد هو مشروع مهدِّد للسلم الأهلي”
يرى “غريب” أن ما يحدث اليوم في ليبيا، كقرار المجلس الرئاسي بتشكيل لجنة أمنية وعسكرية مؤقتة، يُفهم على أنه محاولة لإعادة تدوير الميليشيات دون معالجة جوهرية للعلاقة بين الدولة والعنف. فدمج هذه التشكيلات في الدولة دون إخضاعها لمساءلة شفافة يُضفي شرعية زائفة ويُكرّس “الدولة الهجينة”، ويُبقي على الانقسامات الأمنية.
ويحذر من أن غياب الإطار الدستوري في هذه العمليات يجعلها مجرد تسويات مؤقتة، تخدم مصالح فئوية بدلًا من تأسيس نظام أمني موحّد وخاضع للقانون.
“الأثر القانوني والسياسي…”
“حين تصبح القوة المسلحة وسيلة لتحقيق النفوذ السياسي، فإن منطق الدولة يُستبدل بمنطق الغلبة”
يؤكد “غريب” أن وجود كيانات أمنية موازية يضرب فكرة السيادة في الصميم، ويُقوّض جهود العدالة الانتقالية، بل ويُفقد المواطنين ثقتهم في الدولة كمصدر للحماية. فشرعنة هذه التشكيلات دون خضوعها للقانون والدستور، يُنتج نظامًا قائمًا على الولاءات والمحسوبية، لا على الكفاءة والمؤسسية.
ويحذر من خطر تحوّل هذه الكيانات إلى “دولة داخل الدولة”، حيث تصبح القوة الميدانية هي مصدر الشرعية، لا القانون، مما يُبقي البلاد عرضة للتفكك والانقسام في كل محطة سياسية حرجة.
“الطريق إلى الحل: نحو احتكام كامل إلى القانون…”
“لا يمكن فصل تفكيك الميليشيات عن مسار العدالة الانتقالية، فالإفلات من العقاب هو ما يُغذّي منطق السلاح خارج الدولة”
يختم “غريب” بالتأكيد على أن الاستقرار السياسي في ليبيا لن يتحقق دون تفكيك حقيقي لبنية الميليشيات. ويشدد على أن المعيار الوحيد للاعتراف بأي كيان أمني يجب أن يكون خضوعه التام لوزارتي الدفاع أو الداخلية، وتمويله القانوني، وعلاقته بالقضاء.
كما يدعو إلى التوقف عن استخدام الميليشيات كأدوات توازن سياسي، والانتقال إلى مشروع أمني وطني شامل تشرف عليه مؤسسات شرعية خاضعة للرقابة.
ويؤكد أن كل تسوية تُعيد إنتاج منطق الميليشيا هي أزمة مؤجلة، وأن الدعم الدولي يجب أن يتحول من دعم الكيانات إلى دعم الإصلاح المؤسسي، لأن أي مسار بديل سيُبقي ليبيا رهينة الفوضى، والصراع بين “دولة القانون” و”دولة الأمر الواقع”.
بقلم : بوبكر سكيني