ومردّ ذلك إلى غياب الدرس الفنّي داخل الدرس الأكاديمي بالجامعة المغربية، بحيث لا نعثر على مواد داخل شعبة التاريخ الحضارة حول الفنّ التشكيلي والسينما والفوتوغرافيا والفنون البصرية عموماً، بوصفها وسائط فنية تعبيرية تلعب دوراً كبيراً بالنسبة للمؤرّخ على مستوى استخدامها كوثائق تاريخيّة تُسعفه على إعادة كتابة تاريخ المغرب وحفظ ذاكرته البصريّة، انطلاقاً من عدد كبير من اللوحات والصُوَر الفوتوغرافية والأفلام السينمائية التي تستطيع إعادة كتابة تاريخ المغرب المعاصر خلال فترات جريحة من تاريخه.
عملت الفيلموغرافيا الوطنية والأجنبية على تناول سياقات وقضايا وإشكالات ذات صلة بتاريخ المغرب مثل الحركة الوطنية وبعض زعماء الإصلاح والمقاومة المسلحة ومراحل المطالبة بالإصلاح والاستقلال. إذْ نجحت هذه الأفلام السينمائية في تقديم سرديّة بصرية مذهلة حول الذاكرة التاريخية للمغاربة بطريقة جعلتها مؤثرة في وجدان المُشاهد.
والحقيقة أنّ الصورة كوسيط بصري تلعب دوراً هاماً من ناحية التأثير، فبسبب شعبيتها وقُدرتها على الذيوع والانتشار تدخل في تماهٍ كلّي مع أجساد الناس وحواسهم، بما يجعل كل معلومة أو مشهد أو لقطة تُحاور العقل مباشرة وترُجّ معها الجسد وتدفع المُشاهد إلى التفكير.
إنّ التاريخ لا يُقرأ داخل المراجع والمصادر ولا تُقدّمه لنا اللقى الأثرية والنقائش الصخرية فقط، بل تستطيع الأفلام الوثائقية والسينمائية منها، كتابة التاريخ وإنتاج صُوَره واستحضار أحداثه ووقائعه على متن أعمال فنية توثق لبعض المراحل التاريخية وتُذكّرنا بالدور الكبير الذي لعبته العديد من الأسر المقاومة في سبيل ردع القوات الاستعمارية وتعرية أوهامها وميثولوجياتها على خلفية الأطروحة الماركسية القائلة بأنّ الاستعمار يعد شكلاً من أشكال تحديث الشعوب.
إنّ السينما وبسبب ما تتوفّر عليه من سُلطة قادرة على أنْ تحفر عميقاً في الأرشيفات التاريخية وتُعيد إنتاج الحقائق وفق آلية علمية توثق جملة من اللحظات السياسية الهامّة، كما تمكّننا من فهم سيرة بعض المقاومين والطريقة التي بها عاشوا وناضلوا في سبيل تحقيق الإصلاح والاستقلال فيما بعد.
لا يقتصر الأمر هنا على السينما، بل نعثر على العديد من اللوحات التشكيلية الكثيرة التي جعلت من التاريخ أفقاً للتفكير، على الرغم من كون الفنّان لا يتعامل مع التاريخ بطريقة تأريخية كما هو الحال بالنسبة للمؤرّخ، لكنّ وعيّ بعض الفنانين الاسشراقيين مثل الفرنسيين هنري ماتيس وأوجين دولاكروا والأمريكي جاكسون بولوك. فقد قام هؤلاء الفنانين التشكيليين بتنظيم مجموعة من الرحلات إلى العديد من البلدان المغاربيّة وقاموا بتوثيق لحظات جد هامّة من المسار التاريخي الذي مرّت منه البلدان المغاربيّة في سبيل التحرّر وتحقيق نهضتها الحضارية داخل المجتمع الذي تنتمي إليه. لقد أنتجت هذه التجارب الفنّية داخل مجال الفنّ التشكيلي مجموعة من السرديات البصرية المبنيّة على وقائع تاريخيّة حقيقية.
وعلى الرغم من أهمية هذه الوثائق وما تمثّله من أهمية بالنسبة للمؤرّخ، فإنّ القارئ لا يعثر على استخدام واحد لهذه الصُوَر واللوحات والأفلام داخل مجال البحث التاريخي، إيماناً من « المدرسة التاريخيّة » بالمغرب بأنّ هذه الأشكال التعبيرية تدخل ضمن الأفق الفنّي التخييلي، أيْ أنّ الغرض منها كان جمالياً وتخييلياً وليس علمياً وتأريخياً.
والحال أنّ الكثير من المصادر التاريخيّة الوسيطية تحبل بأشكال من التعبير الأدبي مثل الاستعارة والمجاز والتشبيه والسجع والجناس (مقدّمة ابن خلدون مثلاً) التي ربما لا يقبلها المؤرّخ المعاصر المؤمن بضرورة التمحيص العلمي وضرورة أنْ يكون خطاب البحث التاريخي الذي يكتُبُ به المؤرّخ خالياً من اللغة الأدبيّة وجماليّاتها. غير أنّ هذه النظرة التقليدية ساهمت إلى حد كبير في « تقنين » البحث التاريخي، بعدما أصبح « تاريخ الفنّ » حكراً على الدارسين في الأدب وليس التاريخ. وإلى حدود الآن نعثر على مواد ذات صلة بالفنّ مثل الصورة واللوحة والسينما والعمارة والموسيقى تُدرّس داخل حقول الأدب وتُستبعد من مجال البحث التاريخي.
في 22/06/2025 على الساعة 08:30