«شعبولا»,الفن الهابط,«الترند»,فرقة «الميادين»
لو عُدنا بالزمن قليلاً إلى الوراء، لكان أول «تريند» في العالم العربي ناله «شعبولا» على أغنيته الشهيرة «إييييه» التي كانت نقطة التحوُّل السيكيولوجي في حياته العربية وحياة الكثير من «الراطزين» العرب في الأفراح والملاهي الليلية خلال الأربعة عقود الماضية.
لقد وجد الفن الهابط الطريق سهلاً في الوصول إلى مسرح الحياة الشعبية مكسورة الخاطر، وكسب جمهوراً عريضاً من العاطلين والمراهقين والحشّاشين والمهزومين من طبقة البُسطاء، ومن منتجي حفلات الليل والمسلسلات والأفلام الرخيصة، التي للأسف، في غياب الرعاية الثقافية، وجدت جمهورها في العامة دون أي اعتبار لأخلاق المجتمع العربي وهُويّاته الثقافية التي كانت تأسّست على التراث الأصيل، في بوادينا ومدننا القديمة، وكانت عبر أجيال من مكتسباتنا الحضارية في الأدب والفن.
وراء ظاهرة «الترند» الرائجة هذه الأيام في مجتمعاتنا العربية، يقف العقل عاجزاً عن كشف الأسباب الجوهرية في انتشار هذا الوباء، ومعالجته عاجلاً باتخاذ المبادرة الثقافية والتعليمية والإعلامية لردع مخاطر هذا الانحراف على بنية العقل والتفكير الجمعي، فلا أدوار للمؤسسات الثقافية والإعلامية التي انساقت وراء الظاهرة وساعدت على الترويج لها دون أن تُدرك أخطار النتائج في تتفيه الواقع الاجتماعي الذي يتعرّض للضغط السياسي والاقتصادي، وكان له أن ينصاع وراء «الهبل» كونه يخفف من وطأة الحياة وصرامة العيش تحت أوامرها القاسية على النفسية، وهو المهرب إلى عالم «التفاهة» وعدم الجدّية في اختيار متعة الفائدة لأنها تتطلب جهداً ذهنياً، وهذا الجهد الذهني عليه أن يرتاح ويذهب مع هيفاء وهبي إلى «الواوا»!
ما عادت الحالة السياسية العربية بقادرة على استعادة توازن مجتمعاتها التي تغيّرت ذائقتها الجمالية مع الأدب والفن، والاستمتاع بهما كدليل استقرار، فلا قراءة جادة للأدب والفكر والتاريخ ومفهمة مقاصدها في تنمية الإدراك والعقل، ولا متابعة للمسرح والدراما والفن التشكيلي، وكل الفنون الأخرى بحمولاتها الثقافية.. فلم يكن سؤال العقل العربي يوماً جديراً بتغيير الواقع المجتمعي في ظل هيمنة أنظمة سياسية متعالية في سطحيتها، حكمت مجتمعاتها بأنظمة التفاهة من خلال السوق الاستهلاكية والترويج لمقتضياتها في الثقافة والإعلام كما في الاقتصاد، فيما تحوّلت السياسة من ضامنة لحياة المجتمع وتنميته، إلى ضامنة لحياة السلطة وتعاليها.. ومن هنا تحقّقت نظرية «التفاهة» كوسيلة ناجعة لملهاة العامّة وسط ضجيج الساسة وحيلهم الماكرة في الاحتفاظ بالسلطة ومكتسباتها.
لا شك أن المسؤول العربي يُحب «الواوا» أكثر من «وين الملايين» لجوليا بطرس، أو «ست الدنيا» لماجدة الرومي.. وهو في راحته من عناء التفكير يميل المسؤول العربي إلى إليسا وروبي ونانسي أكثر من ميله لملحم بركات وعلي الحجّار وصابر الرباعي، وفي الأغنية الشعبية يُحب «شعبولا» منذ أحبّ «عدوية»، ولا يُحب «الشيخ إمام» الذي كان «تريند» النخبة من المثقفين اليساريين كما جمهور «مارسيل خليفة» و«أحمد قعبور» و«خالد الهبر» و«سميح شقير».. ومن عاش زمن «سيد درويش» و«سيد مكّاوي»، وحفظ أشعار صلاح جاهين والأبنودي، وغنّى على النيل مع محمد رشدي «تحت الشجر يا وهيبة»، لا يمكنه الوقوع في تفاهة الكلمات المسلوقة خارج تراث وثقافة وهُوية شعب سكن روح المكان، وهو المحصّن بذاكرة لحنية تراثية تنمو في الأحاسيس ولا تضمر وتتلاشى كما ألحان الوجبات السريعة، نتاج سوق الاستهلاك في الفن كما الاقتصاد.
على الرغم من ظهور أصوات غنائية عربية مهمة في العقود الماضية، وكان لها جمهورها العريض في العالم العربي، مثل أعمال فرقة «الميادين» اللبنانية لمارسيل خليفة وأميمة خليل، وهي الفرقة التي أسّسها مارسيل العام 1976 كمشروع فني يدمج الموسيقى العربية الملتزمة مع الشعر والأغنية الوطنية، وكانت جزءاً من موجة الموسيقى السياسية والثقافية التي انتشرت في العالم العربي خلال السبعينيات والثمانينيات، خصوصاً مع تصاعد القضايا الوطنية مثل القضية الفلسطينية والمقاومة في جنوب لبنان.. وكان شارك مارسيل الأغنية السياسية في تلك الحقبة، خالد الهبر وأحمد قعبور وجوليا بطرس.. وفي المغرب كانت فرقة «ناس الغيوان» التي تأسّست العام 1970 في حي المحمدي بالدار البيضاء، أحد أكثر أحياء المدينة شعبية وفقراً، وكان شارك في تأسيسها العربي باطما وعمر السيد وعبد العزيز الطاهري ومحمود السعدي، وكذلك فرقة «جيل جلاله» التي تأسست في مراكش العام 1972 وقادها مجموعة من طلبة الفنون المسرحية، من بينهم محمد الدرهم ومولاي الطاهر الأصبهاني وسكينة الصفدي.. وفي مصر نجح الثنائي الشعبي أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام في إثارة الشعوب العربية ضد الأنظمة السياسية.. وفي ذلك الزمن كان «التريند» مُحرّماً على النخبة والعامّة لأنه يودي إلى السجن، فكم شريط كاسيت ضبطته المخابرات في جيوب وحقائب الطلبة، وكم شريط كاسيت صادرته الرقابة في المطارات كما تصادر الكتب والمجلات.
وفي السجون العربية كان «تريند» ذلك الزمان في أصوات السجناء وهم يردِّدون أغاني النضال من أجل الحرية، ويقرأون بصوت عالٍ من وراء القضبان القصائد الثورية في وجه السلطة. لكن خارج تلك السجون لم يكن أحد يسمع بأوجاع الحرية في السجون، فقد كانت الأنظمة تقيم الحفلات الرخيصة الصاخبة في الميادين العامة، دعماً للتفاهة التي أغرقت المجتمعات في الجهل، لتحيا السلطة في الوجود، بلا عقل ولا منجل!