ا. محمد سامي عمرات
ثمانون عاماً من الخذلان السياسي، من الصمت العالمي، من العجز الدبلوماسي، كانت كفيلة بإخماد صوت القضية الفلسطينية في عيون كثير من شعوب العالم؛ لكن شيئاً ما تغيّر بعد أحداث السابع من أكتوبر 2023، شيء جعل الفنان وليس الساسة، يقود إعادة تشكيل الضمير الإنساني؛ من أغنية على منصة، إلى فيلم وثائقي، إلى هتاف آلاف في مهرجان موسيقي عالمي-انقلبت الصورة التي رسختها آلة الإعلام الإسرائيلي طيلة عقود. أصبح الفلسطيني هو الإنسان وأصبحت إسرائيل في نظر كثيرين دولة إرهابية محتلة لا يمكن تبرير جرائمها.
في واحدة من أقوى لحظات العام 2025، احتشد عشرات الآلاف أمام منصة «West Holts» في مهرجان غلاستنبوري في بريطانيا، لا لأجل الموسيقى والغناء فقط؛ فعندما صعد مغني الراب الثوري Bob Vylan إلى المسرح، لم يغنِّ عن الحب أو المال أو المجد بل وقف صارخاً: «Death! Death to the IDF!» هتافه اخترق الصمت البريطاني الطويل تجاه فلسطين، صرخة قُدّت من وجع غزة ودم أطفالها. الجمهور ردّدها بحرارة، وآلاف الأجساد هتفت من القلب لا من الرأس.
لكن الرد الرسمي لم يتأخر؛ الشرطة البريطانية فتحت تحقيقاً عاجلاً، ورئيس الوزراء البريطاني وصف الهتاف بأنه «خطاب كراهية»؛ أما هيئة الإذاعة البريطانية (BBC)، وجدت نفسها في ورطة أخلاقية وإعلامية ضخمة، إذ كانت تبث الحفل مباشرة دون رقابة.
لم يكن Bob Vylan وحده على المنصة ذاتها، فقد قدّم فريق الهيب هوب الأيرلندي Kneecap عرضاً مليئاً بالغضب والتحدي، أطلق خلاله أعضاء الفريق شعارات مؤيدة لفلسطين، وهاجموا الحكومة البريطانية بشدة لتواطؤها الصامت.
ردة فعل BBC كانت مرتبكة ومذعورة؛ المدير العام Tim Davie خرج معتذراً، وأعلن أنهم سيوقفون بث أي حفلات مباشرة مستقبلاً «تُصنّف عالية الخطورة» بل تم استدعاؤه للاجتماع مع موظفين يهود داخل الهيئة لمناقشة « الضرر» الناتج عن بث هذا العرض. لكن الفن لم يتراجع، بل ازداد عنفواناً؛ فقد أعيد ألبوم Bob Vylan «Humble As The Sun» إلى قائمة الألبومات الأكثر مبيعاً في المملكة المتحدة بعد الحفل، رغم كل الانتقادات الرسمية، وكأن الجمهور يرد برسالة واضحة: «نحن نصدق الفن، لا الحكومات.»
ما حدث في غلاستنبوري لم يكن حدثاً منعزلاً؛ الفرقة البريطانية Massive Attack، المعروفة بمواقفها التقدمية، عبرت عن تضامنها الصريح مع فلسطين خلال حفلاتها في أوروبا؛ وكذلك فعلت فرق مثل Fontaines D.C. وInhaler وCMAT، التي لم تتردد في رفع العلم الفلسطيني أمام جمهورها.
حتى المغنية الأسترالية Amyl and the Sniffers أظهرت دعمها عبر رسائل علنية، وتصريحات جريئة نُشرت على مواقع التواصل، متحدية سياسات الرقابة والحذر الإعلامي.
بعيداً عن المسارح، حملت الكاميرات السينمائية عبء التوثيق؛ أفلام وثائقية عن مجازر غزة بعد السابع من أكتوبر بدأت تظهر على منصات عالمية مثل أمازون برايم والجزيرة الوثائقية، لم تكن أفلاماً عادية، بل كانت شهادات حيّة على الألم: أم تبكي جثّة طفلها، طبيب ينقذ جريحاً فوق الأرض، شاب يبحث عن أهله تحت الأنقاض.
غير انه وفي قلب هوليوود، بدأ الفنانون يتحدّون الصمت؛ ميشيل رودريغيز، المعروفة بدورها في سلسلة Fast & Furious، أطلقت حملة دعم إنساني لغزة، ريان رينولدز وجبريل يونيون وميلغبسون وسوزان ساراندون ومارك رافالو ومايكل مور، والكثيرين غيرهم عبّروا علناً عن رفضهم للسياسات الإسرائيلية، وطالبوا بوقف إطلاق النار الفوري.
أما Roger Waters، المغني السابق في فرقة Pink Floyd، فكان ولا يزال من أبرز الأصوات المؤيدة لفلسطين، وقد واجه تهديدات ومحاكمات في بريطانيا بعد دعمه العلني لحركة Palestine Action لكنه لم يتراجع، بل صرّح: «لن أكون حيّاً إذا لم أصرخ لأجل المظلوم.»
الفن لم يكتفِ بالحديث أو العرض؛ بل صرخ، احتج، احتضن قضية، حتى إن الدولتين العظميين-بريطانيا وأمريكا-كانتا لا تملكان إلا الرد على حضوره بصراخ، قد تكون المؤتمرات والدبلوماسية عاجزة، لكن الفن الفن وحده قادر على قلب الرأي، لأن صوته يتعدى الحواجز، يلامس القلوب، ويغير العقول.
ما عجزت عنه الاجتماعات العربية، و بيانات الأمم المتحدة، والمذكرات الدبلوماسية، والقمم الإسلامية، فعله مغنٍ على منصة، أو ممثل في فيلم، أو مخرج وثائقي بعين دامعة وقلب محترق، ، فعله الفن ببساطة وصدق؛ تحوّل صوت القضية من نداء سياسي باهت، إلى صرخة شعبية عالمية تحملها الموسيقى، ترسمها السينما، وتغنيها القلوب؛ استطاع الفن أن يجعل الناس، من طوكيو إلى تورنتو، يتساءلون لأول مرة: من هو المعتدي؟ من هو المظلوم؟ لماذا يُقتل هذا الطفل؟ لماذا يُحرم هذا الشعب من وطنه؟
الفن ليس ترفاً، هو السلاح الوحيد الذي لم يُهزم بعد، هو اليد التي تمتد بلا مقابل، هو اللغة التي تُفهم بلا ترجمة، وبعد السابع من أكتوبر، لم تعد فلسطين قضية تخص العرب بل صارت نبضاً عالمياً، بفضل كل فنان اختار أن يقول: أنا مع الإنسان، أنا مع فلسطين؛ إنه درس للجميع: حين تصمت السياسة، يتكلم الفن؛ وحين تُباع المبادئ، يظل الفن آخر من يقف إلى جانب الحق.
جميع الحقوق محفوظة.
لا يجوز استخدام أي مادة من مواد هذا الموقع أو نسخها أو إعادة نشرها أو نقلها كليا أو جزئيا دون الحصول على إذن خطي من الناشر تحت طائلة المسائلة القانونية.