7 دقائق مضت
ادوارد كورنيليو
18 زيارة
بقلم: إدوارد كورنيليو
(1) الاقتصاد كأداة سلطة لا مساحة للعيش
منذ إعلان استقلاله في عام 2011، لم ينجح جنوب السودان في تأسيس اقتصاد وطني مستقل، بل وجد نفسه في حالة تبعية مستمرة لمراكز القرار العالمي. فالاقتصاد لا يُعاد إنتاجه كمساحة للعيش، بل كأداة للسلطة، حيث تتحول الدولة من منظم لعلاقات الإنتاج إلى وسيط يُكرّس الريع لصالح نخبة ضيقة مرتبطة بالرأسمال الخارجي. تُقدَّم هذه المقالة كنقد بنيوي للعلاقات بين الإنتاج والسلطة، الدولة والثروة، ضمن منظومة لا تبحث عن الخروج من الأزمة، بل تستخدمها كأرضية للهيمنة.
(2) الدولة الريعية كفضاء سلطوي
تظهر الدولة في جنوب السودان كنموذج ريعي يعتمد بشكل شبه حصري على صادرات النفط. هذا الاعتماد لا يخلق دينامية إنتاجية، بل يُعيد تعريف الدولة كجهة توزع الموارد، لا تُنتجها. البيروقراطية والمؤسسة العسكرية تصبحان المستفيدين الرئيسيين من هذا الريع، ما يُنتج منطقًا سلطويًا يرتكز على الامتياز لا الإنتاج، ويُحول الدولة إلى حقل لإعادة إنتاج الولاء السياسي بدلًا من تأسيس بنية اقتصادية مستدامة.
(3) فائض الريع واستراتيجيات الاستغلال
في ظل غياب صناعات تحويلية، لا يُنتج الاقتصاد فائضًا بالمعنى الإنتاجي، بل يُستخرج من الخارج ويُدوَّر داخليًا. الشركات الأجنبية تستحوذ على الموارد الخام، بينما تعيد النخب المحلية توزيع هذا الريع كوسيلة للنفوذ. هذا النظام يُنتج استغلالًا مزدوجًا: خارجيًا عبر الاستحواذ، وداخليًا عبر التوزيع السياسي للريع، دون إشراك فعلي للعمال أو المنتجين المحليين.
(4) اقتصاد التبعية وإعادة إنتاج الهامش
ينتمي اقتصاد جنوب السودان إلى نموذج طرفي، حيث تُستورد السلع ويُصدّر الريع الخام، في معادلة تُكرّس منطق التبادل غير المتكافئ. لا تُستخدم الموارد لإنشاء بنية تحتية إنتاجية، بل لتوسيع أجهزة الدولة الأمنية والإدارية. بذلك، تتحول التنمية إلى عملية مؤجلة، ويُعاد إنتاج الهامش كشرط دائم للسلطة.
(5) تفكك الطبقات وغياب التمثيل المجتمعي
غياب القطاعات الإنتاجية ينعكس على البنية الطبقية، حيث لا تظهر طبقة عاملة منظمة قادرة على تشكيل وعي جماعي. تتراجع التمثيلات الاجتماعية لصالح الولاءات الإثنية، ويُستخدم الخطاب الطائفي كغطاء لإخفاء الانقسام الاقتصادي. هذا التفكك يمنع ظهور أي مقاومة مجتمعية منظمة ويُكرّس رمزية الدولة كمُوزع ولاء، لا مُنظّم عدالة.
(6) الحرب كأداة إنتاج سلطوي
النزاع المسلح لا ينهك الدولة فقط، بل يتحول إلى آلية إنتاج للسلطة. تُستخدم موارد الدولة لتسليح النخب، ويُستثمر الريع في إدامة الصراع بدلًا من الخدمات العامة. الحرب هنا ليست حالة عابرة، بل دورة اقتصادية تُعيد إنتاج الأزمة كمصدر شرعية، وتُحوّل العنف إلى أداة مأسسة لا تُقوّض النظام بل تُثبّته.
(7) نيجيريا وأنغولا كمرآة للهيمنة الريعية
يتقاطع اقتصاد جنوب السودان مع نماذج ريعية أخرى في إفريقيا، أبرزها نيجيريا وأنغولا، حيث يتحول الريع من مورد إلى بنية سلطوية تُعيد إنتاج الولاء وتُقصي الإنتاج.
في نيجيريا، أدّى الاعتماد على النفط إلى تفكك الطبقات، وتحول الحرب في دلتا النيجر إلى دورة سلطوية تُستخدم فيها الميليشيات لإعادة إنتاج السيطرة بدلًا من السعي نحو العدالة. النخب السياسية تُكرّس الريع داخل شبكات إثنية ودينية، ما يُقوّض إمكانات المقاومة المجتمعية.
في أنغولا، وبعد الحرب الأهلية، لم يُستخدم النفط في بناء اقتصاد إنتاجي، بل في إعادة تموضع الدولة ضمن بنية ولاء لا تُنتج بل تُوزّع. الشركات الأجنبية تستحوذ على الموارد الخام، بينما تُعيد الدولة توزيع الريع داخليًا ضمن منظومة زبائنية تُقصي المجتمع وتُطوّع الزمن لمصلحة النخب.
هذه النماذج تُظهر أن الريع لا يُنتج تنمية، بل يُعيد إنتاج الأزمة كأداة سلطة، في سياقات تختلف تاريخيًا لكنها تتشابه بنيويًا، ما يجعل تجربة جنوب السودان جزءًا من سردية هيمنة تتجاوز المحليات نحو منظومة استعمارية مستمرة.
(8) بنية التناقض المستدام
ما يعيشه جنوب السودان ليس خللًا مؤقتًا، بل بنية مُتجذرة في التناقض المستدام. السلطة لا تُستخدم لإعادة التوازن، بل لإدامة حالة السيطرة عبر أدوات اقتصادية ورمزية متشابكة. لفك هذا النموذج، لا بد من إعادة تعريف العلاقة بين الدولة والاقتصاد، بين الداخل والخارج، والانتقال من اقتصاد الولاء إلى اقتصاد الإنتاج.
(9) استعمار المستقبل وإلغاء الإرادة الاقتصادية
لا تكتفي الهيمنة الاقتصادية بالسيطرة على الحاضر، بل تُعيد تشكيل المستقبل عبر أدوات تخطيط خارجي تُقصي الإرادة المحلية من صياغة الرؤية التنموية. تُقدَّم “الاستراتيجية الوطنية” كوثيقة جاهزة، غالبًا بإشراف مؤسسات دولية لا تنطلق من الواقع المحلي بل من نماذج معيارية تُعمّم التبعية. في هذا السياق، يتحول المستقبل من مساحة تخيّلية مفتوحة إلى برنامج زمني مغلق، لا يُنتج البدائل بل يُقنن الاستمرار في الأزمة. إن استعمار المستقبل ليس فعلًا ماديًا فقط، بل بنية رمزية تمحو الزمن المحلي لصالح سردية إنقاذ خارجية تُعيد إنتاج الهامش بوصفه قدرًا لا اختيارًا.
(10) نحو تفكيك اقتصاد الولاء واستعادة الإرادة الجمعية
إن تجاوز بنية التناقض المستدام لا يتم عبر إصلاحات شكلية، بل من خلال إعادة تعريف الاقتصاد كمساحة إنتاج مجتمعي لا كأداة توزيع سلطوي. يتطلب هذا التحول الانتقال من الريع كمركز للشرعية إلى الإنتاج كأفق للتحرر، ومن الدولة كوسيط ولاء إلى المجتمع كفاعل تخطيطي.
يعني ذلك تفكيك أدوات الهيمنة التالية:
توجيه الريع نحو قطاعات إنتاجية كالزراعة والصناعات التحويلية؛
بناء تعاونيات قاعدية تُعيد تشكيل البنية الطبقية وتكسر احتكار الدولة للموارد؛
تفكيك اللغة الرسمية للـ”استراتيجيات التنموية” التي تُقنّن التبعية وتُقصي الإرادة الشعبية من صياغة المستقبل؛
إعادة الزمن المحلي كمصدر تخطيط، عبر مجالس شعبية لا تعتمد على نماذج معيارية جاهزة؛
وتشكيل تحالفات معرفية بديلة تربط الجنوب بسياقات مقاومة إقليمية، تكشف بُنى الهيمنة الرمزية كما تُفكك أدواتها.
بهذا المعنى، لا تكون التنمية مجرّد وعد مؤجّل، بل ممارسة نقدية تُعيد للمجتمع حقه في التخيل، في الإنتاج، وفي كتابة مصيره خارج سردية الإنقاذ الخارجية. فالتحرر من التبعية لا يعني فقط فك الارتباط مع الخارج، بل استعادة الذات ككيان اقتصادي، زمني، وسردي كامل.
tongunedward@gmail.com
شاهد أيضاً
النص: وطنٌ مُعلَّقٌ على حافَّةِ النِّسيانِ — إدوارد كورنيليو — (1) وطنٌ يتشحُ بالحدودِ الممزقة …