لجأت وزارة الفلاحة والصيد البحري والتنمية القروية والمياه والغابات، إلى صفقات تفاوضية عاجلة لاستيراد 30 مليون حلقة لترقيم الأغنام والماعز والأبقار والإبل في سياق التعبئة الوطنية الشاملة لتنزيل التوجيهات الملكية المتعلقة بخطوات عملية مكثفة لإعادة تشكيل القطيع الوطني وتأهيل سلاسل الإنتاج الحيواني.
هذا التدبير، الذي يمثل مرحلة تأسيسية أولى ضمن برنامج إصلاحي متكامل، يهدف إلى وضع لبنة أساسية لنظام تتبع دقيق لحالة القطيع وضمان التوزيع العادل للدعم العمومي، استنادا إلى معايير مهنية وخريطة واقعية للثروة الحيوانية، ورغم طابعه التقني المستعجل، أثار تساؤلات واسعة في أوساط المهنيين والخبراء حول التأخر الحكومي المزمن في معالجة اختلالات بنيوية طالما شلت دينامية قطاع تربية المواشي، فبينما تسوّق الحكومة هذا التدبير كإجراء مؤسس، يُنظر إليه من طرف فاعلين ميدانيين كحل ظرفي يعكس غياب رؤية استباقية طويلة الأمد، ويعيد إنتاج نفس المقاربة المعتمدة منذ سنوات، والقائمة على الاستجابة تحت الضغط أكثر من التخطيط المؤسسي المسبق.
وقال الوزير أحمد البواري، الذي كان يتحدث أمام مجلس النواب، أمس الإثنين إن الصفقات التفاوضية مكّنت من تقليص آجال التوريد وتسريع انطلاق برنامج الترقيم الوطني، مبرزا أن هذا الإجراء جاء استجابة مباشرة للتوجيهات الملكية الصادرة عن المجلس الوزاري المنعقد بتاريخ 12 ماي الماضي، والذي شدد على ضرورة تأطير عملية إعادة تكوين القطيع بمنطق مؤسساتي يحترم الشفافية ويخضع لتتبع محكم من قبل السلطات المحلية.
ووفقا لمعطيات الوزير، فقد تمت تعبئة 1.217 موظفا في عملية إحصاء القطيع، باعتبارها خطوة ضرورية لتأمين فعالية برامج الدعم، وضمان دقة المعطيات التي ستُبنى عليها كل تدخلات الوزارة خلال المرحلة المقبلة، وإلى جانب ذلك، تُعد عملية الترقيم أداة مركزية لضبط الهوية الفردية لكل رأس من القطيع، ما من شأنه تحسين منظومة المراقبة الصحية والتلقيح، وتمكين الوزارة من تتبع دقيق لسلاسل الإنتاج وتحسين استهداف الدعم العمومي.
المشروع، الذي يندرج ضمن استراتيجية “الجيل الأخضر”، لا يقتصر على الترقيم فقط، بل يتفرع إلى خمسة محاور هيكلية تمثل رؤية شاملة لإعادة هيكلة القطاع الحيواني، وتشمل هذه المحاور إعادة جدولة ديون 50 ألف مربي بقيمة تصل إلى 700 مليون درهم، وضخ 2.5 مليار درهم في دعم الأعلاف والشعير، بالإضافة إلى تخصيص دعم مباشر لإناث القطيع المعدة للتوالد. كما تتضمن الخطة حملة علاجية ووقائية واسعة النطاق بميزانية 150 مليون درهم، إلى جانب برامج التأطير التقني والمواكبة الميدانية التي رُصد لها غلاف مالي قدره 50 مليون درهم.
وفي موازاة هذا الورش التنظيمي، كشفت الوزارة عن اعتماد 64 مشروعا للفلاحة التضامنية موزعة على 44 إقليما، يستفيد منها أكثر من 27 ألف شخص، باستثمارات تتجاوز 529 مليون درهم، مع توقع بلوغ 200 مشروع خلال السنوات الثلاث المقبلة.
وتستعد الوزارة أيضا لإطلاق طلبات مشاريع موجهة للشباب القروي، في إطار سعيها إلى تعزيز دينامية التشغيل الذاتي عبر ضيعات للتربية والتسمين، وإنتاج الأعلاف، وتثمين المنتجات الحيوانية.
وتراهن الحكومة، من خلال هذه المقاربة التشاركية المندمجة، على ترسيخ بنية مؤسساتية قوية لقطاع تربية المواشي، تُمكنه من الصمود في وجه التقلبات المناخية والضغوط الاقتصادية، وتضعه في مسار الاستدامة والإنتاجية العالية، بما يسهم في تحقيق الاكتفاء الذاتي الغذائي وتقليص التبعية الخارجية في مجال اللحوم ومشتقاتها.
ووفق الحكومة، فإن رهانها لا يقتصر على الاستجابة للظرفية، بل يتجاوزها إلى بناء منظومة هيكلية متكاملة، تُدار فيها المعلومة الحيوانية بكفاءة، ويُوظف فيها الرقمنة والشفافية كآليتين للحوكمة الرشيدة، وهو ما يترجمه بحسبها اختيار الصفقات التفاوضية كآلية استثنائية لتوريد حلقات الترقيم، لما تتيحه من مرونة وسرعة، دون التفريط في شروط الجودة والمراقبة الصارمة، وهي خطوة يراهن عليها لتكون مفتاحا لإعادة هيكلة قطاع حيوي يشكل صمام أمان للأمن الغذائي المغربي.
من جهة ثانية، فرغم الطابع الاستعجالي الذي طبع خطوة اللجوء إلى الصفقات التفاوضية لتوريد حلقات الترقيم، إلا أن هذا التحرك يكشف تأخرا واضحا في تفعيل منظومة تتبع القطيع، التي سبق أن طُرحت مرارا في استراتيجيات سابقة قادها رئيس الحكومة الحالي عزيز أخنوش دون أن تتحول إلى ممارسة ممنهجة تُسند برؤية مؤسساتية واضحة، كما أن انطلاق عملية الإحصاء في هذه المرحلة يعيد طرح سؤال دقة المعطيات المعتمدة في السابق، ويثير تساؤلات حول مدى جاهزية البنية الإحصائية للقطاع، خاصة في ما يتعلق بتحديد الحاجيات وتوجيه الدعم العمومي.
ويذهب بعض الفاعلين إلى اعتبار أن استيراد 30 مليون حلقة دفعة واحدة يعكس غياب مقاربة استباقية، ويعزز الانطباع بأن الحكومة تشتغل تحت ضغط التوجيهات المركزية أكثر من اشتغالها وفق خطة شاملة كانت جاهزة للتنفيذ، كما أن الرهان على الترقيم كأداة لضبط هوية القطيع يظل مشروعا طموحا، لكنه قد يصطدم بالإكراهات ذاتها التي عرقلت مشاريع مماثلة سابقا، سواء تعلق الأمر بنقص التأطير أو ضعف التنسيق بين المتدخلين أو غياب المواكبة الميدانية الصارمة.
ورغم أهمية الأرقام التي أعلن عنها الوزير، خاصة ما يتعلق بإعادة جدولة الديون ودعم الأعلاف والقيام بحملات علاجية، فإن هذه التدابير لا تمس جوهر الإشكال المرتبط بضعف البنيات التحتية الإنتاجية والهشاشة البنيوية التي يعاني منها مربو المواشي في المناطق القروية، كما أن استمرار التركيز على توزيع الدعم المالي دون ربطه بمنظومة إنتاجية متكاملة ومنصفة، قد يفرغ هذه التدابير من فعاليتها ويحولها إلى مجرد تدخلات ظرفية لا تؤسس لإصلاح حقيقي.
أما ما يتعلق بالصفقات التفاوضية، فرغم ما تتيحه من مرونة إلا أن غياب تفاصيل دقيقة حول الجهات الموردة وآليات المراقبة قد يفتح الباب أمام انتقادات متعلقة بالشفافية وتدبير المال العام، خصوصا في ظل سوابق شهدت فيها صفقات استعجالية جدلا واسعا، وبالتالي، فإن مدى نجاعة هذا المسار سيظل رهينا بمدى احترامه لمعايير الجودة والتتبع، وضمان عدم انزلاقه نحو منطق المحاباة أو التدبير غير الرشيد.
وفي ضوء هذه المعطيات، يبدو أن الحكومة تجد نفسها أمام اختبار مزدوج هو الاستجابة الفورية للتوجيهات الملكية وتنفيذ برامج ملموسة على الأرض، من جهة، ومن جهة أخرى مواجهة إرث من التراكمات والسياسات المتعثرة التي تتطلب مراجعة شاملة أكثر من الاكتفاء بإجراءات تقنية ظرفية، مهما بلغت أهميتها من الناحية اللوجيستيكية.
وفي هذا الإطار، قال مصطفى البياري، الخبير في السياسات الفلاحية والتدبير المستدام للموارد الحيوانية، إن “ما تعلنه الحكومة اليوم من صفقات تفاوضية لتوريد حلقات الترقيم ليس في جوهره حلاً، بل هو معالجة تقنية لمسألة جزئية من أزمة هيكلية عميقة تعاني منها تربية المواشي في المغرب” مضيفا: ” المشكل الحقيقي لا يكمن في غياب الترقيم، بل في غياب رؤية عمومية مندمجة تؤطر الإنتاج الحيواني من المراعي إلى السوق، وتضمن العدالة في الولوج إلى الأعلاف والدعم والتسويق والتأطير البيطري.”
وأوضح الخبير البياري في تصريح لـ “الصحيفة”: “لقد سمعنا عن مشاريع الترقيم سابقا، وعن دفاتر تحملات وإحصائيات لكن السؤال هو لماذا فشلت تلك البرامج في أن تتحول إلى منظومة دائمة؟ لأن الدولة لا تزال تشتغل بمنطق الطوارئ، وتُطلق المشاريع تحت الضغط، دون أن تراجع النموذج الفلاحي القائم الذي يترك المربي الصغير في مواجهة الجفاف، والسوق، وغلاء الأعلاف، في غياب تام لمنظومة حماية اجتماعية فلاحية حقيقية.”
وتابع المتحدث: “ما يُثير القلق أيضا هو اعتماد الصفقات التفاوضية دون تفاصيل شفافة حول شروطها، وهو ما يفتح الباب أمام الشكوك حول معايير الاختيار والتوريد، ويضعف ثقة الفاعلين المحليين في نزاهة العملية..” مضيفا: ” نحن بحاجة إلى سياسة حقيقية تضع قطاع تربية الماشية ضمن استراتيجية سيادة غذائية، وليس إلى حلول استعجالية تطفئ الحرائق وتعيد إنتاج الأزمة ذاتها”.