في شهر يناير (كانون الثاني) 1869 كتب بيوتر اليتش تشايكوفسكي (1840 – 1893) رسالة إلى أخيه أناتولي، يقول فيها: “بدأت بالفعل بكتابة أوبرا أخرى، لكنني لن أفصح عن موضوعها، لأنني أريد حالياً إبقاء كتابتها سراً، سيدهش الجميع عندما يعلمون أنني كتبت نصف الأوبرا خلال الصيف”. وبعد ذلك بأسابيع قليلة بعث الموسيقي ابن الـ29، إلى الأخ نفسه رسالة تالية تقول: “بدأت العمل على ’أوندينا‘ بحماسة كبيرة، وحتى الآن معظم الفصل الأول جاهز”. أما في في بداية أبريل (نيسان) التالي، فها هو يكتب إلى موديست تشايكوفسكي: “أكتب إليك نادراً الآن، لأن وقت فراغي كله مكرس للأوبرا التي أشتغل عليها. أجد الموضوع شيقاً للغاية، وأرغب بشدة في إنهائه قريباً، لأتمكن من البدء في تأليفه في مزاج جيد في الصيف”. وبالفعل، بحلول منتصف / أواخر أبريل، كانت المسودة الأولية للأوبرا قد انتهت: “أبذل الآن جهداً كبيراً في توزيع الآلات الموسيقية للفصل الأول، وقد تم تأليف الفصلين الآخرين بالفعل، وسأضع موسيقاهما خلال الصيف، هذه المرة أنا سعيد جداً بأوبراتي، وأعمل بحماسة”.
اختفاء غامض
والحقيقة أن من يتلمس كل هذه الحماسة التي يبديها الموسيقي الروسي الكبير للعمل على تلك الأوبرا المقتبسة من قصة طويلة فرنسية للكاتب لاموت فوكيه، سيدهشه بالتأكيد اختفاء “أوندينا” ما إن أنجزها تشايكوفسكي، وبالتالي كونها لم تقدم أبداً، بل أن ما سيقدم منها بعد رحيله لن يكون سوى مقاطع من أغنياتها الفردية والكورالية – كما سنرى بعد سطور -. علماً بأن تشايكوفسكي وفوراً خلال بداية عمله على تلحين الأوبرا، ثم حتى أثناء عمله على إنجازها، بدأ بتقديم التماس لإنتاجها. وهو ما يوضحه بنفسه في رسالة بعث بها إلى أناتولي تشايكوفسكي أواسط أبريل يذكر فيها: “كتبت أخيراً إلى جيديونوف، أسأله إن كان من الممكن عرض أوبراي (أوندينا) في الموسم المقبل في بطرسبورغ. أجابني، من خلال سكرتيره، أن الأوبر ستنتج في نوفمبر، إذا أرسلت لهم النوتة الموسيقية كاملة بحلول سبتمبر”.
وبالفعل نعرف أن الموسيقي وبناء على تلك التعليمات أنهى النوتة الموسيقية كاملة في يوليو (تموز)، ليرسلها في الـ18 من أغسطس (آب) إلى مكتب المسارح الإمبراطورية في سانت بطرسبرغ، وعلى الأرجح كان ذلك آخر العهد بها، إذ إنها اختفت تماماً منذ ذلك الحين، ولم يعد أحد يذكرها حتى ولا تشايكوفسكي نفسه!
بدايات رومانطيقية
وهنا لا بد من الإشارة إلى “غموض” إضافي يتعلق بأوبرا “أوندينا” التي خطرت فكرة تأليفها لتشايكوفسكي أثناء عمله على أوبراه الأولى “فوييفودا”. ففي فبراير (شباط) 1868، نراه يكتب إلى أناتولي تشايكوفسكي معرباً عن رغبته في إنهاء “فوييفودا” بحلول الصيف، مضيفاً “لدي نص أوبرا آخر في ذهني”. والغموض فحواه أن الكاتب فلاديمير سولوغوب كان كتب نص “أوندينا” أول الأمر للملحن أليكسي لفوف، الذي لحنه كأوبرا بالفعل قبل تشايكوفسكي بـ20 عاماً فعرضت أوبراه التي تحمل الاسم نفسه للمرة الأولى عام 1848 في سانت بطرسبرغ. فهل كانت تلك الأقدمية سبباً قانونياً محا “أوندينا” تشايكوفسكي من الوجود؟ ليست الأمور واضحة تماماً من هذا المنظور، لكن الذين يعرفون ما تبقى من الألحان التي وضعها تشايكوفسكي لـ”أوندينا” الجديدة يفترضون دائماً أن الخسارة كانت كبيرة من جراء ذلك الاختفاء. وطبعاً ليس من ناحية الموضوع والحبكة “العاديتين إلى حد كبير” بحسب المؤرخين، بل من ناحية الزخم الرومانطيقي الذي زرعه الموسيقي الشاب حينها في ما وصلنا من العمل، وبخاصة أن رومانطيقية الموضوع وتقلبات العواطف في سياقه الحدثي كانت تعكس مزاجه الحاد في تلك المرحلة من حياته.
الحب وتبدلاته المثيرة
أما “أوندينا” من تلك الناحية الحدثية فتمتد، استناداً إلى المؤرخين والمعلقين الذين نشك على أية حال في أن أحداً منهم توافر له النص الأصلي الذي صاغ تشايكوفسكي موسيقاه بناء عليه، تمتد على ثلاثة فصول يطالعنا في أولها الصياد غولدمان وزوجته بيرث جالسين في كوخهما، قلقين لغياب ابنتهما بالتبني أوندينا، حورية البحر، عن المنزل منذ ساعات طويلة. فجأة، يصل الفارس هولدبرانت باحثاً عن مكان يأويه تلك الليلة. يخبرهما أنه وجد نفسه تائهاً في غابة مظلمة، لكن شابة فاتنة أنقذته. وهنا يقطع الحديث ظهور أوندينا، التي يتعرف عليها هولدبرانت من الغابة. وهنا يعترف الفارس، وقد بدا أنه نسي خطيبته بيرثالدا، يعترف بحبه لأوندينا، فتتجاوب معه أول الأمر، لكنها لا تلبث أن تهرب.
على أية حال، لتعبه ينام هولدبرانت، ويستيقظ على ظهور أوندينا. وبعد حديث بينهما يقرران الزواج، ويتركان الصياد وزوجته ليغادرا الكوخ مع بدء عاصفة كان من عنفها أن أجبرت الفارس على أن يصارع فوق شلال، حاملاً أوندينا على كتفه.
في الفصل الثاني نجد الدوق سيد المنطقة وقد أثار غضبه زواج هولدبراندت من أوندينا. في الحقيقة ليس الدوق سوى الأب المتبني لخطيبة الفارس “السابقة”، بيرثالدا. وفي تلك الأثناء ومن دون أن تعرف شيئاً عن تلك الخلفيات، جاءت أوندينا برفقة والدها لحضور حفلة عيد ميلاد بيرثالدا. ويكتشف المتفرجون هنا أن هذه الأخيرة لا تزال مغرمة بهولدبراندت، وتشعر بغيرة شديدة من أوندينا. غير أن ما يزيد الأمور تعقيداً والعواطف التهاباً، هو أن هولدبراندت يستعيد هنا بالذات مشاعر حبه القديم تجاه بيرثالدا. وهكذا ذات لحظة عاطفية بين الفارس وخطيبته السابقة، تفاجئهما أوندينا، التي ولذهولها هذه المرة تكتشف أن بيرثالدا هي في الحقيقة ابنة غولدمان وبيرث، والدي أوندينا بالتبني. وأمام هذا التطور والعنف الذي أبدته أوندينا تجاه الأمر، يشتعل غضب الفارس ويندفع طارداً أوندينا، التي ليأسها تسارع إلى إلقاء نفسها في نهر الدانوب. صحيح أن الفارس أراد إنقاذها من موت محقق، لكن الضيوف منعوه.
وتعود أوندينا… شبحاً
حين يحل الفصل الثالث والأخير، نجد هولدبراندت وقد عاد ليغرم بأوندينا راثياً موتها، لكنه في الوقت نفسه يجد أن من المحتم عليه الآن أن يفي بوعده بالزواج من بيرثالدا. ولكي يفعل ذلك، ها هو الآن يتبع خطيبته السابقة ولو على مضض إلى الكنيسة. غير أن الدوق سرعان ما يظهر على الدرب قاطعاً الطريق على موكب الزفاف ليخبر الجميع بأن أوندينا زارته ليلاً، مطالباً بإلغاء الزفاف. وإذ يقول هذا يتبع الدوق الصياد غولدمان، الذي يرفض الآن للأسباب نفسها، موافقة ابنته بيرثالدا على الزواج من الفارس. وفجأة وبينما تحتج بيرثالدا، على الظلم المحيق بها مرة بعد مرة، تخرج أوندينا من بئر، فيتفرق موكب الزفاف مذعوراً.
ويعم تبعاً لذلك اضطراب يندفع هولدبراندت في خضمه إلى الداخل، غاضباً للغاية، لتتبعته أوندينا. وهناك يبدع الاثنان في أداء أنشودة حب ثنائية جنائزية يقول عنها النقد عادة إنها من أجمل ما لحن تشايكوفسكي في هذا المضمار، وعند انتهاء الحبيبين من أداء تلك الأغنية ينهار الفارس ميتاً عند قدمي حبيبته التي لن نعرف أبداً ما إذا كانت شبحاً أم كائناً حياً. أما هي فإنها تختم هنا الحكاية كلها بإنشاد رثاء على جثمانه، قبل أن تتحول إلى نافورة ماء تصبح من التراث البصري والحكائي لتلك المنطقة من العالم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
… وعودة بعض الموسيقى أيضاً
مهما يكن من أمر هنا، حتى ولو أن ثمة اليوم عملاً أوبرالياً ما يصدر في أسطوانات بين الحين والآخر أو يقدم على الخشبات، فإن هذا العمل لا يمكن اعتباره أوبرا تشايكوفسكي القديمة المتكاملة. وليس ذلك فقط لأن تشايكوفسكي محا العمل من الوجود محافظاً على أجزاء منه قليلة على شكل مقطوعات مستقلة تذكر بتاريخ ذلك العمل، مثل “المقدمة” وأغنية “عمي مجازف وأخي شبكة ماء” التي يفترض أن تغنيها أوندينا، ونشيد الكورس الداعي البطل أو البطلة إلى إنقاذ نفسيهما، وصولاً إلى الأغنية الغرامية الثنائية التي يؤديها الفارس وأوندينا معاً، وأخيراً أغنية الكورس النهائية حول “لحظة الموت”. فالحقيقة أن معظم هذه المقطوعات أعاد الموسيقي الكبير الاشتغال عليها دامجاً بعضها في عمله المعنون “سنيغوروتشكا”، بل حتى مشكلاً منه ما يمكن اعتباره الأساس الذي بنى عليه تحفته “بحيرة البجع”. ومن هنا عاشت تلك الألحان ولو بالواسطة، بإرادة ذلك الفنان الذي آثر إخفاء عمل سيرى دائماً أنه وقع ضحية ظلم ما بعده من ظلم!

