في الزمن الترامبي، لم يعد يكفي الزعيم الشعبوي أن يخوض معاركه في ملفات الهجرة أو الاقتصاد أو الأمن القومي؛ صار لزاماً عليه أن يتسلّل أيضاً إلى أكثر المساحات هشاشة في حياة البشر: أجساد النساء الحوامل، وصحة الأطفال، ومستقبل العائلات.
هذا ما فعله دونالد ترامب أمام الشاشات حين أعلن، بثقة يحسده عليها الأطباء، أنّ دواء الباراسيتامول (المعروف في الولايات المتحدة باسم «تايلينول») قد يكون سبباً رئيسياً في إصابة الأطفال بمرض التوحّد إذا تناولته النساء أثناء الحمل.
تصريح واحد، لم يستند إلى أي دليل علمي قاطع، كان كفيلاً بإشعال الذعر في ملايين البيوت، والتأثير على أسواق الأسهم، ودفع أجهزة الرقابة الصحية إلى سباق محموم للرد والتوضيح. لكن ما يثير القلق أكثر من تأثير الكلمات هو الدلالة العميقة لهذا المشهد: كيف تتحوّل صحة البشر إلى ذخيرة في مدفعية الخطاب الشعبوي المقيت؟
رئيس يصرف وصفات طبية
ترامب لم يكتفِ بإبداء شكوك عامة أو الدعوة إلى «الحذر». لقد ذهب أبعد من ذلك حين قال صراحة: «لا تأخذوا تايلينول أثناء الحمل. قاتلوا بكل ما أوتيتم حتى لا تأخذوه»!
كلمات بهذا الوضوح ليست نصيحة عابرة، بل وصية سياسية ذات أثر اجتماعي واقتصادي فوري. فبين ليلة وضحاها، وجد ملايين الأزواج والنساء الحوامل أنفسهم أمام معادلة مرعبة: هل يصدّقون الرئيس، أم يثقون بأطبائهم؟
النتائج كانت ملموسة. أسهم الشركة المصنعة، لعلامة تايلينول، هبطت بشكل حاد. الصحف والشاشات امتلأت بتقارير متناقضة. أما المنظمات الصحية فوجدت نفسها مجبرة على تكريس موارد ضخمة لتوضيح أمر بديهي: لا يوجد دليل علمي يربط بين الباراسيتامول ومرض التوحّد.
هذه ليست المرة الأولى التي يتدخّل فيها ترامب بشكل فجّ في النقاش الطبي. خلال جائحة كوفيد-19، شجّع على استخدام علاجات غير مثبتة، بل وطرح فكرة «الحقن بالمطهّرات» كمخرج محتمل. لكن المسألة اليوم أخطر لأنها تمسّ فئة هشّة للغاية: النساء الحوامل والأطفال.
ماذا يقول العلم؟
العلم، بخلاف الخطاب السياسي، لا يُبنى على الانفعال أو الانطباع. دراسات واسعة النطاق أجريت في السويد (شملت 2.5 مليون طفل) واليابان (شملت أكثر من 200 ألف طفل) لم تجد أي رابط سببي بين استخدام الباراسيتامول أثناء الحمل وظهور التوحّد عند الأطفال.
إحدى أهم مزايا الدراسة السويدية أنّها قارنت بين أشقّاء من الأم نفسها، حيث استُخدم الدواء في إحدى الأحمال ولم يُستخدم في الأخرى. النتيجة: لا وجود لأي فرق إحصائي معتبر.
بالمثل، خلصت الوكالة الأوروبية للأدوية، والهيئة البريطانية للرقابة الدوائية، ومنظمات الصحة العالمية، إلى أنّ الباراسيتامول يبقى الخيار الأكثر أماناً لتخفيف الألم أو الحمى أثناء الحمل، شريطة الالتزام بالجرعات الموصى بها.
صحيح أنّ بعض الدراسات رصدت ارتباطاً ضعيفاً بين الاستعمال المكثّف للدواء ومشاكل نمائية، لكنّ هذا الارتباط ينهار عند ضبط العوامل الوراثية والبيئية الأخرى. بمعنى آخر: ما يظهر كـ»رابط» قد يكون في الحقيقة مجرّد انعكاس لعوامل وراثية داخل العائلة.
شعبوية «الذعر الصحي»
ما فعله ترامب لا يختلف عن آلية عمل الأخبار الكاذبة: طرح ادعاء بسيط، جاذب، ومخيف، يترك أثراً عاطفياً أقوى من أي تفنيد علمي. في عالم الإعلام المفرط السرعة، ينتشر هذا الذعر كالنار في الهشيم. الردود العلمية، مهما كانت دقيقة، تصل متأخرة وأقل جاذبية، لأنها قائمة على الحذر والاحتمالات والبيانات الإحصائية.
هنا تكمن قوة الشعبوية: ليس في تقديم البدائل، بل في نسف الثقة. ترامب لم يقدّم حلاً للنساء اللواتي يعانين من الألم أو الحمى أثناء الحمل، بل اكتفى بإرسال رسالة واحدة: «الأطباء يكذبون عليكم». إنها ذات الرسالة التي غذّت الحركات المناهضة للقاحات لعقود، والتي لا تزال تدفع ثمنها البشرية اليوم مع عودة أمراض كان يُفترض أن تنقرض.
الضحايا الأوائل لمثل هذه التصريحات هم النساء الحوامل. تخيّل أمّاً في أشهرها الأخيرة، تعاني من حمى شديدة قد تضرّ بالجنين، لكنها تتردّد في تناول الدواء الوحيد المسموح لها به خوفاً من إصابة طفلها بالتوحّد. في لحظة كهذه، يصبح خطاب سياسي غير مسؤول أقوى من ألف دراسة علمية.
الضحايا الآخرون هم الأشخاص المتوحّدون أنفسهم. فكلما ارتبط اسم التوحّد بنظريات المؤامرة والأدوية «الخطرة»، زادت الوصمة الاجتماعية، وتراجعت الجهود التي تركّز على ما هو أهم: بناء بيئات تعليمية واجتماعية شاملة، وتقديم الدعم العملي للأسر، وتمويل الأبحاث التي تدرس التوحّد باعتباره حالة نمائية معقّدة لها أبعاد جينية وبيئية متشابكة.
كما قالت منظمة أوتيستيكا البريطانية، «الرد على نظريات التخويف يستنزف الوقت والجهد على حساب ما يهم حقاً: جعل العالم أكثر تقبلاً للأشخاص المتوحّدين».
بين الحذر العلمي والابتزاز السياسي
من الطبيعي أن يُطرح سؤال حول تأثير أي دواء على الحمل. الحذر جزء أساسي من الممارسة الطبية، لكنّه يختلف عن التحريض. الطبيب حين يقول «خذ أقل جرعة ممكنة ولأقصر مدة» يستند إلى تراكم معرفي طويل. أما السياسي حين يقول «لا تأخذوا الدواء أبداً»، فهو يمارس الابتزاز العاطفي ويحوّل احتمالات ضعيفة وغير مؤكّدة إلى يقين مطلق.
هذا الفارق ليس أكاديمياً فحسب؛ بل يحدد مصائر الناس. فالتوقف عن استخدام الباراسيتامول بشكل كامل قد يدفع بعض النساء إلى الاعتماد على أدوية أكثر خطورة كالأسبرين أو الإيبوبروفين، أو إلى تحمّل الحمى التي قد تؤثر سلباً على دماغ الجنين.
النتيجة الأخطر لكل هذه الجلبة ليست في الأسواق ولا في فوضى نشرات الأخبار، بل في مكان آخر: ثقة الناس بالعلم. حين يصرّح رئيس دولة بتناقض مباشر مع توصيات الأطباء، يجد المواطن العادي نفسه أمام خيار مستحيل: من يصدّق؟ ومع كل جولة من هذا النوع، تتآكل مساحة الثقة بين المجتمع والعلماء.
إنها حلقة مفرغة: يقلّ الاعتماد على الأطباء لصالح القادة السياسيين، ثم تزيد كلفة علاج الأمراض بسبب اتباع نصائح خاطئة، فيعود السياسي نفسه ليقول: «ألم أقل لكم إن النظام الطبي فاسد؟». وهكذا تستمر اللعبة.
الأرقام الرسمية تقول إن معدلات التوحّد ارتفعت في العقدين الأخيرين من 0.7 في المئة من الأطفال إلى نحو 3 في المئة في بعض المجتمعات. لكنّ هذه الزيادة لا تعني بالضرورة «وباء» جديداً، بل تعكس تحسناً في التشخيص، وتوسيعاً لمعايير التشخيص، وزيادة وعي الأهل والأطباء.
التوحّد ليس «لعنة» يجب محوها من المجتمع، كما يُصوّره بعض السياسيين، بل طيف واسع من الحالات التي تشمل تحديات وصعوبات، لكن أيضاً قدرات ومواهب مميزة. كثير من أعظم علماء الرياضيات والموسيقيين والمفكرين كانوا على هذا الطيف بدرجات متفاوتة. اختزال كل ذلك في خطاب يربط التوحّد بمسكّن شائع أو بلقاح روتيني هو تبسيط فجّ يتجاهل تعقيدات الدماغ البشري، ويحوّل النقاش إلى معركة أيديولوجية بدلاً من حوار علمي.
الشعبوية كإدارة للفوضى
ترامب يدرك تماماً أن خطابه لن يصمد أمام أي مراجعة علمية. لكنه لا يحتاج إلى الصمود؛ كل ما يريده هو أن يزرع بذرة شك، وأن يقدّم نفسه كصوت «الجرأة» في وجه «النظام». هذه هي الشعبوية في جوهرها: تحويل اللايقين العلمي الطبيعي إلى أداة للهيمنة السياسية.
المشكلة أن هذا التكتيك قد ينجح انتخابياً، لكنه يترك وراءه فوضى اجتماعية وصحية يصعب إصلاحها. وحين تتحوّل المؤسسات العلمية إلى ساحات للجدل السياسي، نخسر جميعاً.
خطاب ترامب الأخير عن الباراسيتامول والتوحّد ليس حادثة معزولة، بل علامة على عصر تتداخل فيه الشعبوية مع أكثر جوانب حياتنا حميميّة. إنه تحذير لنا جميعاً بأن المعركة من أجل حماية النقاش العام من التضليل لا تدور فقط حول الانتخابات والسياسة الخارجية، بل أيضاً حول ما يدخل أجسادنا وما يحدّد مستقبل أطفالنا.
العلم لا يقدّم إجابات سهلة أو شعارات سريعة، لكنه يقدّم شيئاً أثمن: طريقاً متدرجاً نحو الحقيقة. وحين يتخلّى المجتمع عن هذا الطريق لصالح وعود زائفة وأوهام، فإن الثمن تدفعه الأمهات والأطفال أولاً.
إعلامية وكاتبة لبنانية

