حوار: السيد العديسى.. تصوير : محمود صبرى
ما فعله الفنان أحمد نوار فى الفن التشكيلى لا يقل فى التأثير عما فعله الرواد فى أى مجال، كالغناء والسينما والمسرح والشعر، فكما أخذوا هم فنونهم تجاه الشعب وانطلقوا من أرضية مصرية، حمل هو على عاتقه مهمة أن يكون هذا الفن الراقى متاحاً لكل موهوب، لذا لم يكتفِ بمشروعه الإبداعى، وسعى حثيثاً لأن يخطط لنشر هذا الفن من مواقع إدارية، فشغل الكثير من المناصب مطوعاً إمكانياته وإمكانيات الدولة لخدمة المواطن الموهوب أينما كان.. ربما لأن بداياته كانت من على خط النار، فهذا الفنان المرهف الحس بدأ حياته كمقاتل وقناص فى حرب الاستنزاف، وكأنما كان يشكل من جثث أعداء الوطن لوحات فنية، ظلت طوال الوقت مبعث فخره، وستظل شاهده على ما فعل.
■ رغم أنك فنان تشكيلى لكن لا أحد ينسى بطولاتك بحرب الاستنزاف فى مقتبل حياتك.. حين ساهمت فى حصد الكثير من أرواح الأعداء، فمن أين بدأ مقتك لكل ما هو إسرائيلى؟
– بدأ هذا الأمر منذ بداية مرحلة الشباب، فقد كنت محباً للمغامرة، وتعودت على الخروج فى رحلات سير، قاطعاً قرى مصر من شمالها إلى جنوبها، دون الاستعانة بأى وسيلة انتقال إلا فى حدود ضيقة، بمعنى أننى كنت أمشى يوماً كاملاً، سبعين كيلومتراً، أو تسعين كيلومتراً، وإذا جاءت سيارة نقل ذاهبة إلى منطقة كذا مثلاً، يصطحبوننى لعدة كيلومترات، وهكذا.. حتى قررت أنا وبعض الأصدقاء القيام برحلة سير إلى القدس، فخرجنا إلى لبنان من ميناء الإسكندرية، وكانت الرحلة البحرية هديةً من إحدى الشركات فى الإسكندرية على أساس أننا نعمل عمالاً على المركب لأن صاحب ومدير الشركة فى الإسكندرية قال: «حين كنت صغيراً، كنت أتمنى أن أفعل ذلك»، فأعطانا تذاكر ذهاب وإياب بشكل مجانى.. وفعلاً وصلنا لبنان ومنها لسوريا، ثم العراق، ثم الكويت؛ كل ذلك سيراً على الأقدام، ونركب شيئاً بسيطاً، ثم رجعنا سوريا؛ ثم أقمت فى عمان يومين، وفى اليوم الثالث توجهت إلى القدس الشرقية، ووصلت القدس، وبينما كنت أمشى فى أحد الشوارع فإذا بى ألتقى برجل فلسطينى يوقفنى ثم قال لى: «لا تستمر فى المشى» فقلت له: «لماذا؟» قال: «الشارع مغلق، إسرائيليون واقفون أمامك هناك»؛ وكانت هذه أول مرة أراهم فيها، كان هناك جنود واقفون أمام الشارع بين القدس الشرقية والقدس الغربية، فشعرت بالاختناق، واتخذت موقفاً من حينها ضد كل ما هو إسرائيلى.
شعرت لحظتها بالكسر، وكانت تلك القصة هى المحفز الأول لى ضدهم، واتخذت عهداً ألا أرتاح وهم فى أرضنا.
■ كيف جاء انخراطك فى عمل القناصة أثناء حرب الاستنزاف؟
أثناء أداء الخدمة العسكرية تفوقت فى الرماية فحصلت على فترة تدريب حوالى شهر ونصف فى أسلحة القناصة وذهبت إلى السويس، فى البداية كنت أشعر بالرهبة والخوف، لأن التدريب شىء والواقع شىء مختلف؛ فقد يرى المرء صورةً فى فيلم عن الحرب، لكن أن تكون فى قلب النار فعلياً، فهذا أمر آخر، وكانت تزداد فى قلبى الرهبة كلما اقتربنا من قناة السويس، وكلما سمعت صوت القنابل وصوت الرشاشات والمدفعية. المهم، عندما وصلت لنقطة الدفرسوار، وهذا مدخل فى مكان فى القطاع الأوسط بقناة السويس، كنا نرى الطلقات بالليل وانفجارات وهكذا، وصلنا بصعوبة بعد ساعات مهمة، وفى اليوم التالى القائد أحب أن يجعلنى مع مرافق لأتعرف على الموقع، وكان أحد حرس الحدود، لأنهم استخدموا المهرة فى سلاح الحدود، قبل أن يكون هناك سلاح قناصة فى جيش مصر، فعرفت المواقع والملاجئ، وتمركزاتنا وأماكن العدو.
■ هل تتذكر تفاصيل أول عملية لك فى هذه الحرب؟
– بالطبع، فبعد ذهابى إلى خط القناة، وأثناء تمركزى فى نقطة آمنة، بدأت أتابع جنود العدو لمدة ثلاثة أسابيع تقريباً.. وكان يظهر رأس جندى إسرائيلى وجزء من كتفه بشكل دائم من موقعى، فحددت اليوم وحددت المكان، وجهزت التمويه الذى يحمينى نسبياً. فى ذلك اليوم بدأت أراقب، وبدأ يظهر ويختفى، وبدأت أصوب عليه السلاح؛ فرآنى جندى إسرائيلى آخر، وضربنى دفعةً من رشاش، حوالى خمسين طلقةً. كلها جاءت حول رأسى فجذبنى زملائى داخل الملجأ وفتشوا جسمى، والحمد لله لم تكن هناك إصابة، وأحسست بثقتى فى نفسى تهتز، خصوصاً أن هذه أول تجربة أو أول تفاعل أو أول قنص فى الواقع، وليس فى التدريب. بعد ساعتين، حين هدأت أعصابى والتوتر الذى فى، رأيت أننى أستطيع أن أقف؛ لأنى داخلياً شعرت أن إرادتى تقوى وأن علىَّ أن أكمل؛ الإرادة كانت أقوى من التوتر. قلت: «لا بد أن يصلح هذا الكلام» -كانت فكرةً فقط- فخرجت ثانيةً بالسلاح. وذهبت إلى داخل البحيرات، حيث كانت أقرب للعدو، وقررت أن أكون محمياً تماماً فوضعت الخشب كساتر، لكى لا يكتشف أحد منهم وجودى، ووضعت البندقية تحت الخشب، وهدأت جداً، وقلت «بسم الله الرحمن الرحيم» مرات كثيرة حتى شعرت بالهدوء، وضربت طلقة واحدة فقط بعد أن حددت رأس الجندى، وجريت من المكان، لأنه بعد الطلقة مباشرةً تنقلب القناة تماماً ويستخدمون كل الأسلحة لكشف من أطلق عليهم النار، وكنت أسمع الطلقات وهى تطلع من المنطقة فتقلب الدنيا. لكن الحمد لله، لأن الحماية موجودة والإصابات عادةً تكون لا تذكر. وصلت وأبلغت القائد؛ بدأ الجيش الثانى يأخذ تقارير من أين كانت نقاط الاستطلاع. طبعاً الجيش والمخابرات العسكرية موجودان فى أماكن مختفية ومعهما أجهزة ترصد كل ما يحدث، فشاهدوا سقوط الجندى الإسرائيلى الذى أسقطته، وأبلغوا عن ذلك.. من هنا يبدأ المسئولون فى القوات المسلحة فى أن يسجلوا القنص ورقم الجندى، وساعة كذا، من يوم كذا، إصابة قاتلة ونحو ذلك.. وأذكر أننى فى حرب الاستنزاف أسقطت 15 إسرائيلياً، وهذا العدد موثق.
■ وماذا بعد «الاستنزاف»؟
– بعد الاستنزاف، الرئيس جمال عبدالناصر اتخذ قراراً بتسريح أساتذة الجامعة من الجيش لكى لا يتوقف التعليم، خاصة أنه كان هناك وقف لإطلاق النار؛ فكان يرى أن هناك جبهة داخلية لا يجب أن تتعطل، وأنا كنت عضواً بهيئة التدريس بالجامعة، وامتثلت على عكس رغبتى، وقائدنا فى الجيش قال لى يجب أن تعود لحياتك الدراسية.
وكنت قد أخذت جائزةً سنة 68 فى إسبانيا، عن عمل تشكيلى، فقد كنت أحارب وأمارس نشاطى فى أوقات الراحة.
وبعد الاستنزاف رجعت لممارسة نشاطى، خاصة أنه كانت هناك منحة دراسية من الحكومة الإسبانية لمدة أربع سنوات، وبدأت أجهز للسفر وأنتقل للدراسة الأكاديمية.
وأذكر أن سفير مصر فى إسبانيا وقتها قال لى: أنت أيضاً تحارب يا دكتور؛ فوجود المصريين بالخارج كان نادراً، فقلت له: «يا أفندم، أنت تعلم أنى كنت قناصاً ومحارباً، وزملائى ما زالوا هناك وأحب أن أكون معهم»، فقال لى: «شعور جميل، لكن الآن لا يوجد طيران وأنت تقوم بدور مهم ووطنى».
■ما رؤيتك لما قبل العبور، وما حدث فى حرب الاستنزاف؟
– أنا أعتبر حرب الاستنزاف هى الحرب الكبرى التى توِّجت بعبور قناة السويس فى 6 أكتوبر، لكن لا يوجد شىء اسمه حرب أكتوبر فقط؛ أكتوبر هو عبور، مرحلة من مراحل التتويج فى الاستنزاف. لماذا؟ لأنه خلالها كان كل الجيش والقوات المسلحة فى خط الدفاع من السويس إلى بورسعيد، وهم الذين كانوا يهيئون ويحصنون ويخلقون حصانةً من العدو، لأن كل يوم كانوا يقاتلون فيه وكل يوم يموت فيه جنود وأرواح طاهرة، وبالتالى حدث تراكم خبرة مخيف، أفادنا فى العبور، وبالتالى كانت هناك مرحلة طويلة بدأت بالاستنزاف وانتهت بالعبور بالتحديد. والجيش المصرى الذى عبر فى 6 أكتوبر كان نتيجةً لسنوات من التدريب والإعداد، ليعبر قناة السويس ويصل خلف خطوط العدو. وأنا أعتبر أن ذلك لم يكن تدريباً فحسب، بل عمليات عسكرية وبروفة حقيقية للنصر.
■ قلت إن العبور هو أفضل تتويج لحرب طويلة استمرت، فكيف ترى حرب أكتوبر المجيدة؟
– أرى أن عبور 6 أكتوبر كان عمليةً عبقريةً فى إعدادها وتوقيتها وقرارها، اتُّخذت برؤية قيادية واعية، وباعتماد على قدرات الجيش الخاصة. كان لدينا حائط صواريخ على امتداد مسافة تقارب 160 كيلومتراً خلف الخطوط المصرية، وهو ما أنشئ فى عهد الرئيسين عبدالناصر ثم السادات، ومنع طيران العدو من الاقتراب من قناة السويس لمسافة تقارب ثلاثين كيلومتراً. هذا الحائط الصاروخى كان سبباً رئيسياً فى تمكين العبور، لأنه حدَّ من قدرة الطيران الإسرائيلى على الاقتراب وضرب القوات العابرة.
لذلك، أثناء العبور لم تكن الطائرات الإسرائيلية قريبةً كما فى حالات سابقة؛ أى طائرة تظهر فى مدى الصواريخ تعد عرضةً للاستهداف، وكان ذلك سبباً فى خفض خسائرنا وقت العبور. تكتيكات الحرب الدولية تشير إلى أن المانع المائى يمثل تحدياً كبيراً، وأن الميل لاختراقه يتطلب إعداداً خاصاً؛ استخدمنا المانع المائى لتذويب المانع الترابى وتسهيل الانهيار والاختراق. والعدو أنشأ ساتراً رملياً ارتفاعه يمتد لعشرين إلى خمسة وعشرين متراً، وهو ما فتحناه بالماء.
■ سبق لك أن توليت العمل الإدارى فى وزارة الثقافة، فما رؤيتك للمبدعين والفنانين الذين يفترض أن لهم تأثيراً كبيراً؟ هل تعتقد أنهم يقومون بالفعل بما عليهم تجاه المجتمع؟ وما الذى يحتاجونه ليصل تأثيرهم إلى الناس؟
– من المعروف أن الدول التى تفتقر إلى الفن يسود فيها التشدد، بينما وجود الفن يحد من التشدد ويؤثر فيه تأثيراً عكسياً. الموضوع فى حقيقته كبير، وأنا أربطه هنا بمؤسسة بعينها، كان يمكن لو أنها حصلت على الدعم الكامل أن تحدث تغييراً حقيقياً يتناسب مع تطلعات المجتمع، وأقصد بذلك «الثقافة الجماهيرية».
الثقافة الجماهيرية لديها أكثر من 500 موقع ثقافى فى مصر، معظمها حينما قمت بتشكيل الهيئة سنة 2005 ورفعت تقارير للوزير، اكتشفت أن 95% منها غير صالحة لممارسة العمل الثقافى. كانت المواقع فى أقبية تحت السلالم، أو فى الجوامع، أو فى زوايا داخل الحارات. فى تلك الفترة، وبعد أن توليت مسئولية الهيئة مباشرةً عقب حادثة حريق بنى سويف، زرت موقع الحريق وطلبت حينها -أمام مجموعة من الصحفيين ومن رئيس الدولة- توفير مليارى ونصف المليار جنيه لتطوير وتحديث قصور الثقافة، بحيث ترتقى إلى مستوى يليق بالتثقيف، لما لها من تأثير فعلى فى القرى. أنا لا أطالب بإنشاء أوبرا فى قرية أو مدينة صغيرة، بل أطالب بوجود مكان آدمى يستطيع المواطنون -أطفالاً وشباباً وسيدات ورجالاً- أن يجدوا فيه مسرحاً أو حفلاً موسيقياً أو معرضاً فنياً.
إذن، النهوض بالثقافة الجماهيرية فى جميع أنحاء مصر يعد حائط صد للتطرف، كما أنه فى الوقت ذاته يمثل مراكز لنشر الثقافة الوطنية والمصرية بشكل حقيقى وطبيعى، لأنها تعيش مع الناس وتشاركهم يومياً، وليست مجرد حفلة تقام ثم تنتهى، بل حضور دائم على مدار الساعة.
إذا نظرنا إلى الدول المتقدمة نجد أن المؤسسات الاستثمارية والبنكية فيها تسهم فى تنمية الإنسان والمجتمع، ولا تقتصر على الربح فقط. صحيح أن البنوك فى مصر تحقق أرباحاً ولها مساهمات فى مشاريع قومية، لكننى أتحدث هنا عن المشاريع الثقافية والفكرية التى تخص بناء وعى الإنسان. أرى أن البنوك فى مصر يجب أن تسهم فى ذلك، وكذلك المستثمرون والوزارات كافة: وزارة العدل، وزارة الاقتصاد، وزارة الزراعة، وزارة الكهرباء.
من حق آلاف الموظفين العاملين فى هذه الوزارات أن تكون لهم أنشطة ثقافية. حتى السجون يجب أن تضم أنشطة ثقافية. وأنا حين كنت فى الثقافة الجماهيرية نظمنا بالفعل أنشطة ثقافية داخل السجون وفى معسكرات الأمن المركزى. مثل هذه الأنشطة تسهم فى ترقيق القلوب، وإصلاح التفكير، وتهذيب السلوك، فلا يكون الإنسان قاسياً أو مغلقاً.
أتمنى أن يكون لكل إنسان -حيثما كان موقعه- نشاط ثقافى بجانب حقوقه وواجباته الوظيفية. إذا وُجد مصنع مثلاً، فمن الواجب أن يخصص 5% من أنشطته للثقافة: سواء لتقديم عروض فنية أسبوعية للعمال، أو لإبراز المواهب الموجودة بينهم. أى مصنع، أى مطار، أى مؤسسة يمكنها أن تقيم نشاطاً ثقافياً بسيطاً: أمسية شعرية، معرضاً، فرقة موسيقية قادمة من الأقصر أو غيرها.
هذا هو جوهر بناء الإنسان: أن تتعامل مع حواسه، ومشاعره، وثقافته، وعاداته، وتقاليده، دون عنف أو افتعال. تخيل عاملاً فى مصنع يحضر عرضاً فنياً أو حفلاً موسيقياً، كم سيكون لذلك أثر إيجابى فى أدائه الوظيفى! فهناك فرق بين من يؤدى عمله ليقضى ساعاته فقط، وبين من يعمل بحماس وإرادة وحب، لأنه متوازن نفسياً ومتصالح مع ذاته.
■ وماذا عن الخطاب الدينى لدى الجماعات المتشددة، هل تراجع تأثيره بعد فترة الإخوان؟
– ظاهرياً نعم، لكنه لم يختفِ، ما زال هناك شباب يتأثرون بهذه الأفكار، والمؤشر على ذلك أن بعضهم ينخرط فيها بالفعل. المشكلة أنه لا توجد مواجهة مضادة كافية.
■ وكيف يمكن استيعاب هؤلاء الشباب أو تهذيب هذه الأفكار؟
– الحل هو النشاط الثقافى والدينى معاً، خصوصاً داخل المدارس والجامعات المصرية. أنا مؤمن تماماً بأن بناء الإنسان وتعميق وعيه وانتمائه ووجدانه وعقله لا يتم إلا من خلال رؤية وخطة طويلة المدى تسمح للنشاط الثقافى بالنمو مع البشر بشكل طبيعى.
على سبيل المثال: حينما كنت فى الثقافة الجماهيرية، كنت أؤمن أن وجود بيت ثقافة فى قرية، أو مكتبة صغيرة، أو قاعة للقراءة، أو حتى مسرح هاوٍ على «المصطبة»، يمثل حجر أساس فى بناء الإنسان. استمرار هذه الأنشطة المتواضعة -غير المكلفة- هو عنصر النجاح الحقيقى، وليس إقامة حفلة كبيرة لمشاهير الفنانين تنتهى بانتهائها دون أثر يُذكر. الثقافة أشبه بالبذرة: إن لم تُزرع فى تربة صالحة، وتُروَ بالماء، وتُرعَ بالعناية، وتتم حمايتها من الآفات، فلن تثمر.
■ إذن أنت ترى أن الثقافة الجماهيرية، والمناهج الدراسية، والمؤسسات البنكية والاستثمارية جميعها مسئولة عن تنمية المجتمع؟
نعم، تماماً. هى مسئولية وطنية بالدرجة الأولى، حتى لو لم تكن إلزامية. بناء الإنسان وتفعيل المناهج الثقافية بشكل حقيقى، من أول الابتدائى وحتى الجامعة، مع التركيز على الأنشطة الفنية والثقافية واستمراريتها، هو الضمانة الحقيقية للتنمية. والثقافة مثل الماء الجارى فى الترع: إن توقفت عن الجريان، نضبت. لذلك، لا بد أن تكون مستمرة ومتدفقة.
■ دعنا ننتقل إلى واقع الفن التشكيلى فى مصر، كيف تراه الآن؟
– الحركة التشكيلية المصرية منذ نشأتها فى القرن الماضى قوية جداً، مرت بمرحلة الرواد، ثم الأجيال التالية التى حققت إنجازات إبداعية. لكن كثيراً من الأسماء كان يمكن أن تضع مصر فى مصاف الدول الكبرى لولا غياب الدعم الإعلامى والتسويقى. بيكاسو، مثلاً، لو لم يكن خلفه إعلام قوى ودعم مؤسساتى من إسبانيا وفرنسا، لما وصل إلى العالمية. المسألة ليست موهبة فقط، بل دعم، وتسويق، وكتب، ومعارض. فى مصر نفتقد هذا كله.
على سبيل المثال، أقيمت ندوة دولية فى التسعينات عن أعمال النحات محمود مختار، وجاء شيخ النقاد فى إسبانيا مانويل جارسيا، وكان قد بلغ الثمانين من عمره.. زار المتحف ثلاث مرات، وقضى ساعات طويلة يتأمل أعمال مختار. وعندما سُئل عن رأيه قال: «نحن لا نعرف مختار فى أوروبا، لكن فى متحف القاهرة هناك اثنا عشر عملاً يضارعون أعمال رودان الفرنسى العظيم». وأضاف: «لو أتيحت لى فرصة أخرى لزيارة القاهرة، فسأذهب أولاً إلى متحف مختار»، هذه شهادة عالمية كبرى.
ومع ذلك، أين نحن من هذا؟ أين محمود سعيد؟ أين أحمد صبرى؟ أين رجب عياد؟ أجيال كاملة من المبدعين لم تعرف عالمياً كما يجب. السبب أن الإعلام ضعيف، والكتب شبه منعدمة. هناك محاولات فردية من بعض المتحمسين، لكن أين الدولة؟ أين الموسوعات التى توثق الفن المصرى منذ نشأته حتى الآن؟ نحتاج إلى موسوعة علمية دقيقة، بصور احترافية، تترجم للغات العالمية كل خمس سنوات، وتوزع على متاحف ومكتبات العالم. عندها فقط سيعرف العالم أن لدينا فناً عظيماً لا يقل عن غيره.
إن ما نتحدث عنه يخص الفنان التشكيلى، فهو بحاجة إلى رعاية ودعم على مستوى التطوير الثقافى، وعلى مستوى التعريف الفنى والنقدى، ثم تترجم هذه المؤلفات وتنتشر. وأعتقد أن هذا لا ينطبق فقط على الفن التشكيلى، بل هى أزمة عامة فى مصر تشمل كل الفنون، سواء الشعر أو غيره.
وأنا لا أقصد هنا أن أضرب مثالاً بعينه، لكننى أقول إن هذه الأزمة تنسحب أيضاً على السينما، والمسرح، والآثار، والشعر، والأدب.
خذ مثلاً لو دخلت المتحف البريطانى ستجد كتباً مذهلة، قد تبيع ما تملك لتقتنى أحدها لما فيها من جمال وإخراج فنى وصور مبهرة. هذه الكتب الأجنبية، التى يبدعها مؤلفون أجانب، تؤثر كثيراً على هويتنا الوطنية وثقافتنا المصرية. نحن أصحاب حضارة عريقة علمت العالم كله فى شتى المجالات، ومع ذلك لا نجد لدينا مراجع كبرى عن السينما أو المسرح أو الموسيقى أو الفنون البديعة. فكيف يمكن حل هذه الأزمة؟
الحل -من وجهة نظرى- يكمن فى مشروع قومى كبير.. أقترح على معالى وزير الثقافة أن يتبنى فكرة «الموسوعات المتعددة»، بحيث تكون هناك موسوعة عن السينما، وأخرى عن المسرح، وثالثة عن الموسيقى، ورابعة عن الفنون التشكيلية، وهكذا. يتم تشكيل لجان من الخبراء والعلماء والمثقفين والمبدعين فى كل مجال، لوضع مادة علمية متكاملة، مدعومة بالصور الاحترافية والإخراج الفنى الراقى، ثم تراجع لغوياً، وتصمم على أعلى مستوى من خلال مصممين محترفين، وبعدها تترجم إلى اللغات الأجنبية -الإنجليزية ثم الفرنسية- حسب الإمكانيات.
هذه الموسوعات ستكون مرجعاً تاريخياً للأجيال القادمة، كما ستُعرف العالم بإبداع المصريين فى مختلف المجالات الفنية على مدى القرن العشرين وما بعده. إننى أتمنى أن ينفذ هذا المشروع القومى الكبير، وأثق أن الوزير يملك من الحماس والقدرة ما يجعله يتبنى مثل هذه المبادرة.

