تمثال عين الفوارة
بعدما انقشع الجدل، يجدر أن نعود إلى تمثال «عين الفوارة»، من أجل قراءة متأنية، والإجابة على سؤالين: ماذا يخيفهم في تمثال امرأة عارية؟ تمثال من الحجر الأبيض. ولماذا لا يفرقون بين الفن والواقع؟ فقد تعرض التمثال، الذي ينتصب في وسط مدينة سطيف (شرق الجزائر)، إلى اعتداء آخر، قبل شهرين، وإلى محاولة هدم. ومن كثرة محاولات تشويه هذا التمثال، لم نعد نحصي المرات التي تعرض فيها إلى اعتداءات. لقد كثرت المحاولات مثلما كثر الناقمون على التمثال نفسه في السنين الأخيرة، من غير أن نسمع منهم تبريراً مقنعاً عن معاداة منحوتة من حجر.
تعود أشهر محاولات هدمه إلى عام 1997، في خضم العشرية السوداء، بينما البلاد تتأرجح في دوامة دم وقتل، وتدفن العشرات من الضحايا كل يوم، في تلك الأثناء بادرت جماعة إرهابية إلى تفخيخ التمثال بالديناميت. لكنه نجا وجرى ترميمه وإعادته إلى مكانه. فهو يقف أعلى نافورة ماء يعود تاريخها إلى زمن الرومان، وهو رمز للمدينة، بل واحد من رموز الجزائر في مجملها، منذ تشييده نهاية القرن التاسع عشر. قضى التمثال، الذي يُظهر امرأة عارية ترغب في الاستحمام، وشكلها يبرر أن تنبع من تحت رجليها نافورة ماء، قضى ما يربو من قرن في أمن وسلام، تعودت عليه الأعين والنفوس، وبات من المريب أن نزور المدينة من دون رؤيته، ولم يتحرج أحد من شكل المنحوتة، بل كانت مبعث اعتزاز نظير قيمتها الفنية، وسادت ثقافة التقاط صور جنبها. ومن يشرب من ماء النافورة (دافئ شتاءً ومنعش صيفاً) فلا بد أن يعيد زيارة مدينة سطيف، هكذا تقول الأسطورة.
لكن بدءاً من تسعينيات القرن الماضي، وجراء تعميم خطابات الكراهية والتحريم والتفكير، تحول تمثال من حجارة إلى عدو، أو أراد البعض أن يجعلوا منه عدوا لهم. والعدو الأمثل في خطابات الظلاميين هو المرأة. يحملونها خطايا الجن والإنس، يظنون أن السماء تمطر أو تحجم عن الهطول بسبب لباس الخمار، أو السفور. هذه المرأة التي وجدت نفسها مطوقة بحائط من الفتاوى، التي تحرم عليها إظهار يديها، أو تحرم عليها الخروج إلى الشارع، يُحرم عليها رفع صوتها أو الاختلاط برجال في العمل.
سياسة التخويف.. من البشر إلى الحجر
مع ذلك فإن المرأة في مدينة سطيف، حيث يوجد التمثال، لها رأي آخر. لم تخضع إلى موجة التكفير، لم تتوار خلف حيطان، بل ظلت المرأة «السطايفية» تتقدم في حياتها من غير اكتراث. تواصل العمل الذي بدأت فيه، من غير أن تلقي بالاً للفتاوى. لم تفلح معها محاولات الحجر عليها أو حجبها من الحيز العام. هكذا انتقلت سياسة التخويف من البشر إلى الحجر. جعلوا من منحوتة هدفا لهم، والقصد منها ليس التمثال في حد ذاته، بل كل امرأة تتمثل صورتها، أي كل امرأة لا تخجل من الخروج إلى الشارع على سجيتها، أي كل امرأة تزين شعرها أو تتزين في هندامها. فالاعتداء على تمثال من حجارة، إنما الغاية منه الاعتداء على مخيلة نساء. يريدون هدم تمثال من أجل هدم روح المقاومة، التي تسكن قلوب نسوة المدينة. ولأن الديناميت غير متاح، من أجل تفخيخ التمثال مرة أخرى، فقد تحولت مساعي تشويه المنحوتة إلى استخدام مطرقة وإزميل. ومرة نسمع أن المعتدي مختل عقلياً، في حاجة إلى عناية طبية، ومرة أخرى نسمع أن المعتدي كان سكران، والسكير يرفع عنه القلم. هذا السكير الذي طار عقله ونسي من أين جاء وأين يذهب، لكنه لم ينس موقع التمثال وبادر إلى محاولة هدمه. لكن محاولة الهدم الأخيرة، قبل شهرين، كانت الأسوأ في تاريخ المعتدين على هذه القطعة الفنية، فقد صدر في حقه حكم بعشر سنوات سجناً. هل هذا الحكم من شأنه أن يوقف موجة الكراهية إزاء تمثال؟
بالتالي فإن الاعتداءات المتكررة على تمثال عين الفوارة، تعود إلى أنه يمثل صورة امرأة، وهذه إجابة على السؤال الأول الذي طرحناه. المشكلة في حد ذاتها أن المنحوتة تمثل امرأة لا رجلا. في حال أن التمثال كان يُظهر رجلاً فلم يكن ليثير قلقا في بعض الأذهان. رغم أنها من حجارة مرمر، لا من لحم ودم، فإنها لم تسلم من ديناميت ومن مطارق، ثم للإجابة عن السؤال الثاني في عدم التفريق بين الفن والواقع، فالأمر يعود إلى علاقة الجزائريين المستعصية مع الفن. ففي مخيلة كثير من الناس يصعب تخيل وظيفة «فنان». ما هذه الوظيفة؟ سوف يطرحون السؤال. قد لا يستوعبون الأمر. لا يتخيلون شخصا لا مهنة له عدا الفن. لأن الفن في نظرهم يدخل في باب التسلية وليس مصدر رزق. كما إن الفن في حد ذاته قد خضع، منذ سنين، إلى تأويلات عقائدية، تتراوح بين تحريم الرسم إلى تحريم النحت إلى تحريم الغناء والرقص. إن كلمة «لا يجوز» هي كلمة تتردد في أرجاء الجزائر. الرسم لا يجوز وكذلك النحت لا يجوز، حسب مقاييس البعض. كما إن منحوتة عين الفوارة جرى تأويلها في بعض الأذهان على أنها من الأصنام. كما لو أن وجودها يتعارض مع الدين.
إن العلاقة المستعصية مع الفن، تؤدي إلى استباحة منحوتة فنية، وتجعل منها هدفاً للمؤمنين بمنطق التحريم. كما نعلم أن تدريس الفن في المدارس هو الخاصرة الرخوة في العملية التعليمية. مادة الرسم صارت زائدة، أو مجرد لحظة ترفيه في المنهاج. لا يتم الترغيب فيها، بل يجري التعامل معها كأنها مادة إضافية. ولا يتربى الطفل على علاقة سوية مع الفن. لأن الفن لا يُطعم صاحبه خبزاً، مثلما يقول البعض. والحقيقة أن الفن لا يطعم خبزاً في الجزائر نظير الاستخفاف بالفن والزج به في دائرة الحلال والحرام. هكذا يكبر الطفل في علاقة نفور مع الرسم، أو النحت أو الفن التشكيلي. لأن التعليم صار مرتبطا بكسب الرزق، والأولياء يحثون أبناءهم على تعلم مواد تفيدهم في دخول تخصصات تؤدي بدورها إلى تبوء مناصب يكسبون منها راتبا. بات التعليم مرتبطا بكسب لقمة العيش. وهذا الركض من أجل لقمة العيش أدى إلى تجاهل القيمة الفنية، التي تحتل وسط مدينة سطيف، والتعامل معها بوصفها صنما لا فنا. مع ذلك فكلما تعرضت سيدة عين الفوارة إلى محاولة هدم أو تشويه، يجري ترميمها مرة أخرى، وتواصل مهمتها في حراسة نبع الماء وفي حراسة ذاكرة السكان والمدينة.
كاتب جزائري

