Published On 4/11/2025
|
آخر تحديث: 13:17 (توقيت مكة)
ما إن نذكر لفظة “العلمانية” حتى ينقسم الناس سريعًا إلى فريقين متعارضين: فريق مؤيد يراها خلاصًا ملائكيًا وطريقًا للتحرر، وفريق معارض يعتبرها شرًا مطلقًا وعملاً شيطانيًا يهدد القيم والدين. وبين هذين التصورين المتناقضين يضيع الفهم الدقيق لمفهوم العلمانية كفلسفة ونظام سياسي. فهي ليست كما يراها المعارضون مجرد هدمٍ للدين، وليست كما يتصورها المؤيدون جنةَ الخلاص.
الحقيقة أنها نظام سياسي واجتماعي له إشكالياته، وقد أثبتت التجارب – حتى في الغرب الذي نشأ فيه – أن هذا النظام ليس مثاليًا ولا يخلو من الأخطاء.
العلمانية ليست مجرد فصلٍ ميكانيكي، بل هي اعتمادٌ على العقل والعلم والحرية في تدبير شؤون الحياة، مع جعل العلاقة بالدين علاقةً فردية محضة لا شأن للسياسة بها
يقوم التعريف الدقيق للعلمانية على تغليب العقل البشري على النقل الديني في إدارة الشؤون العامة؛ أي أنها ترفض جعل الدين مرجعية عليا في السياسة، لكنها لا تلغي الدين ذاته ولا الممارسة الفردية له. فحين يثور خلاف، يكون المرجع هو العقل والعلم والتجربة، لا النصوص الدينية.
نشأ هذا التوجه تاريخيًا نتيجة التزمت الديني الذي فرضته الكنيسة الكاثوليكية في أوروبا، إذ تدخلت في تفاصيل حياة الناس وسياسات الدول. ومن هنا جاءت الحاجة إلى نزعةٍ فردية في التدين والعبادة، بحيث يصبح الدين علاقة شخصية بين الإنسان وربه، بعيدة عن هيمنة أي جهاز سلطوي.
وقد أفرزت هذه النزعة الفردية حاجةً ملحّة إلى استقلال السياسة عن الدين؛ فالسياسة تُعنى بإدارة شؤون مجتمعٍ متنوع لا ينتمي جميع أفراده بالضرورة إلى الدين نفسه أو إلى درجة التدين ذاتها. فكيف يمكن فرض نظام سياسي ديني على من لا يتبناه؟ أليس في ذلك ظلم بيّن لهم؟
هكذا جاء الفكر العلماني ليقترح نظامًا سياسيًا يتيح للفرد أن يمارس علاقته مع الله بحرية، دون أن تُفرض عليه سلطة دينية من الدولة، أو حتى من الأسرة أو المدرسة أو المجتمع.
بهذا المعنى صار الشعار الشهير “فصل الدين عن الدولة” هو التعبير المختصر عن الفكرة، لكنه يبقى شعارًا مضللًا لأنه يختزل العلمانية في عبارةٍ مبسطة. فالعلمانية ليست مجرد فصلٍ ميكانيكي، بل هي اعتمادٌ على العقل والعلم والحرية في تدبير شؤون الحياة، مع جعل العلاقة بالدين علاقةً فردية محضة لا شأن للسياسة بها.
في السياق العربي ما زالت القبيلة والعشيرة والطائفة تتحكم في مفاصل السلطة والمجتمع، لذلك لم نطبق يومًا علمانيةً حقيقية، بل اكتفينا بـ”علمانيةٍ شكلية” هشة لا تمس البنية التقليدية العميقة
كثيرون يظنون أن العلمانية نموذجٌ واحد جامد، بينما الواقع أنها تتعدد بتعدد السياقات والتجارب. ويمكن التمييز بين ثلاثة نماذج رئيسية ظهرت في العالم:
العلمانية الشاملة: وهي علمانية متشددة أو ملحدة لا تنكر وجود الدين كظاهرة، لكنها لا تؤمن به، وتعمل على تحييد جميع الممارسات الدينية، فردية كانت أم جماعية. هذا النموذج هو الأكثر حضورًا في أوروبا.
العلمانية الجزئية: نموذج أكثر اعتدالًا، يقتصر على فصل الدين عن الدولة دون أن يمس المجتمع؛ أي أنه يسمح بممارسة الشعائر الدينية في الأسرة والمدرسة والمجتمع، لكنه يمنع تدخل الدين في السياسة. يظهر هذا النموذج بوضوح في السياسة الداخلية للولايات المتحدة.
العلمانية الشكلية: وهي شكلٌ خارجي فقط، حيث يُرفع شعار العلمانية لكن المضمون الفعلي يبقى طائفيًا أو مذهبيًا أو عرقيًا. ففي الممارسة العملية تُدار السياسة على أسسٍ طائفية أو قبلية أو إثنية. هذا النموذج هو السائد في العالم العربي، كما يظهر أيضًا في السياسة الخارجية الأميركية التي تحمل طابعًا بروتستانتيًا من الداخل، لكنها تتعامل خارجيًا بمنطقٍ طائفي أو ديني. وكذلك إسرائيل التي تتبنى علمانيةً شكلية في بعض مؤسساتها لكنها في جوهرها مشروعٌ صهيوني ديني–قومي.
في السياق العربي ما زالت القبيلة والعشيرة والطائفة تتحكم في مفاصل السلطة والمجتمع، لذلك لم نطبق يومًا علمانيةً حقيقية، بل اكتفينا بـ”علمانيةٍ شكلية” هشة لا تمس البنية التقليدية العميقة. ورغم ذلك نكثر من الشكوى من “فشل العلمانية”، وكأننا جربناها فعلاً، بينما الواقع أننا لم نعرف منها إلا القشور.
إشكالية العلمانية العربية ليست في جوهرها، بل في شكلياتها؛ فنحن غالبًا نتبنى الشكل ونترك المضمون، نرفع شعارات الحداثة والديمقراطية بينما تستمر القبيلة والطائفة في التحكم بمصائر الدول
إن المجتمعات العربية بحاجةٍ إلى العلمانية الجزئية المعتدلة، لا إلى الشاملة ولا إلى الشكلية، فهي النموذج الأنسب لنهضتنا السياسية، لأنها تسمح بالخروج من أسر المذاهب والطوائف والإثنيات، وتوحد الجهود الوطنية حول ما يجمع لا ما يفرق.
بتطبيق هذا النموذج يمكننا اجتثاث الطائفية من جذورها، وخلق فضاءٍ سياسي جامع يتسع للجميع. وخير الأمثلة على خطورة الطائفية ما نراه في لبنان، حيث النزاعات لا تنتهي بسبب التركيبة الطائفية، أو في بلدان المغرب العربي حيث التنوع الإثني والطائفي يهدد الاستقرار حين يُستغل سياسيًا.
إشكالية العلمانية العربية ليست في جوهرها، بل في شكلياتها؛ فنحن غالبًا نتبنى الشكل ونترك المضمون، نرفع شعارات الحداثة والديمقراطية بينما تستمر القبيلة والطائفة في التحكم بمصائر الدول.
الحل لا يكمن في رفض العلمانية من أساسها، ولا في التعلق بشكلها الزائف، بل في تبني مضمونها الحقيقي القائم على العقلانية والحرية والمواطنة الجامعة.
حينها فقط نستطيع أن نحقق نجاحًا سياسيًا وننافس الدول الكبرى بلغتها وأدواتها، لا بمجرد تقليدٍ شكلي لا يغيّر شيئًا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

