شهد العالم العربي والإسلامي في القرنين الأخيرين واحداً من أهم وأعقد التحولات الفكرية والثقافية التي عرفها تاريخه، القديم منه والحديث، تمثل في دخول مفهوم الحداثة وما يحمله من مضامين وأفكار فلسفية واجتماعية وسياسية وغيرها.
جاءت هذه الأفكار إلى مجتمعاتنا محمَّلة بآثار صراع ارتبط بالعلمانية والعقلانية والدولة القومية، وهي مفاهيم لم تنشأ في بيئتنا، ولم يعرفها تراثنا العربي والإسلامي لا بمعناها العملي والتطبيقي ولا الفلسفي الفكري، وإنما تسللت إلينا عبر أدوات متعددة أوجدت لها بيئة قبول لدى بعض المتأثرين بثقافات الآخرين، وبعض الذين لا يعرفون حقيقة ديننا وتراثنا الفكري والثقافي القائم على العلم والحقيقة، والذي لا يهمل العقل ولا يغفله، بل يكرمه ويدعو إلى تفعيل دوره في النهوض الحضاري بأمم الأرض جميعاً.
كان للحداثة آثار بالغة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، أدت إلى نشوء جيل مقلِّد عطّل عقله وظل يسعى وراء كل فكرة أو عمل مستورد من الغرب
نشأت الحداثة كمذهب أو فكر غربي قام على أنقاض الصراع الذي شهدته أوروبا لعقود طويلة بين الكنيستين والعلم. ولا أعتقد أننا نحتاج إلى بحث طويل لمعرفة أو تأكيد أن الحداثة بدأت وانتشرت من الغرب، فدعوات المعجبين بالثقافة الغربية تفصح عن ذلك دون مواربة. والحداثة في تراثنا الفكري الإسلامي والعربي لا تعني شيئاً مما ذكرناه، بل هي -كما يصفها علماء اللغة- مرتبطة بالحديث أو الجديد، وهي «نقيض القديم»، كما يقول ابن منظور في لسان العرب.
أما الحداثة بالمعنى الغربي، فلم يتطرق لتعريفها أيٌّ من علماء المسلمين أو معاجمهم اللغوية، بل عرِّفت -كما أسلفنا- بأنها ما يتعلق بالجديد أو ما يُستجد أو ما يُستحدث. غير أن طه عبد الرحمن أورد لها تعريفاً في كتابه روح الحداثة بأنها «حقبة تاريخية ابتدأت في أقطار الغرب ثم انتقلت آثارها إلى العالم بأسره».
وقد انتشرت الحداثة بعدد من الوسائل والأدوات، لعل أهمها الاستعمار المباشر الذي تعرضت له معظم الدول العربية والإسلامية، وكان له دور بارز ومؤثر في نقل الحداثة. ويمكن إجمال أسباب الاتجاه نحوها في جانبين اثنين:
أولهما، أن قبولها جاء كردة فعل على حالة الجمود الفكرية والعقلية التي سادت العالم العربي حتى أوائل القرن التاسع عشر، إضافة إلى الاستبداد السياسي الذي عاشته البلدان الإسلامية، واستغلال بعض العلماء في ترسيخ سلطة الحاكم.
أما الجانب الثاني، فهو الانبهار بالغرب وثقافته وماديّاته أيضاً، وهي التي ما تزال حتى اليوم معياراً فاعلاً لدى كثير من أبناء العرب والمسلمين، يرون في الغرب وثقافته نموذجاً ينبغي الاقتداء به والسير على نهجه وطريقته، دون التفكير في إمكانية إنشاء مشروع منفرد ومستقل، نابع من هويتنا الإسلامية وتراثنا الفكري والثقافي.
ولهذا فقد كان للحداثة آثار بالغة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، أدت إلى نشوء جيل مقلِّد عطّل عقله وظل يسعى وراء كل فكرة أو عمل مستورد من الغرب. فمثلاً، تم تبنّي فكرة «الدولة القومية» وتطبيقها في واقعنا، ويرى المفكر وائل حلاق أن الدولة القومية الحديثة التي فُرضت على العالم الإسلامي أدت إلى تفكيك الشريعة الإسلامية كقانون منظم للحياة العامة، حيث تحتكر الدولة الحديثة سلطة التشريع، مما أدى إلى إهمال الفقه الإسلامي وتهميش دوره، ليستبدل به قانون وضعي مستمد من النماذج الأوروبية.
فرضت الحداثة تحولات كبيرة في بنية الأسرة والمجتمع؛ فمع انتشار التعليم وتوسع المدن وخروج المرأة للعمل بدأت البنية الأبوية تتآكل تدريجياً، لتحل محلها مفاهيم جديدة حول دور الفرد ومكانته وحقوقه
يقول وائل حلاق: «الدولة القومية الحديثة لم تكن مجرد هيكل سياسي، بل كانت حاملة لمشروع أيديولوجي علماني أعاد تعريف كل شيء، بما في ذلك القانون والأخلاق والتعليم، مما أدى إلى تحييد الشريعة الإسلامية بشكل منهجي».
وعلى صعيد الأسرة والمجتمع، فرضت الحداثة تحولات كبيرة في بنية الأسرة والمجتمع؛ فمع انتشار التعليم وتوسع المدن وخروج المرأة للعمل بدأت البنية الأبوية تتآكل تدريجياً، لتحل محلها مفاهيم جديدة حول دور الفرد ومكانته وحقوقه. وفي هذا الصدد يشير برنارد لويس إلى أن «الصحافة والتلغراف والسكك الحديدية لم تكن مجرد أدوات، بل كانت حاملة لأفكار جديدة أدت إلى تآكل النظام الاجتماعي التقليدي الذي استمر لقرون».
وهذا يعني أننا أقبلنا على هذه الوسائل دون وعي، واستخدمناها دون تفكير، وأن الجيل الذي شهد ظهور هذه الأدوات أصيب بعمى الانبهار الذي أنساه تراثه الفكري والثقافي والفقهي.
وعلى أثر ذلك ظهرت دعوات التيار التغريبي التي نادت بتبنّي الحداثة الغربية بشكل كامل كسبيل وحيد للتقدم، معتبرة أن التراث والتقاليد هما سبب الجمود والتخلف. وقد تأثر أصحاب هذه الدعوات -كما أسلفنا في بداية المقال- بالمعركة التي حصلت في أوروبا بين العلم والكنيسة، والتي استمرت لعقود طويلة وأدت في النهاية إلى انتصار العلم ونشوء حالة من التذمر تجاه الكنيسة والدين، دفعت لإقصائه تماماً عن الحياة. ويريد هؤلاء تطبيق هذا النموذج بحذافيره في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، وكان من أبرزهم سلامة موسى وطه حسين في بعض توجهاته، وغيرهما.
أدى زحف فكر الحداثة الغربية نحو المجتمعات العربية والإسلامية إلى تحولات جذرية في المنظومة الأخلاقية، إذ تقوم الفلسفة الحداثية على مرتكزات الفردية والعقلانية والعلمانية، وهي تمثل نقيضاً للمنظومة الأخلاقية المستمدة من الوحي
وفي المقابل ظهرت دعوات التيار الإصلاحي الذي تزعمه جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، اللذان دعوا إلى التوفيق بين الحداثة والإسلام، معتبرين أنه لا تعارض بينهما، وأنه لا بد من أسلمة الحداثة أو «عصرنة» الإسلام من خلال إعادة تفسير النصوص الإسلامية لتتلاءم مع متطلبات العصر.
ويرى المفكر محمد عابد الجابري أن العقل العربي وقع في مشكلة بنيوية أثناء مواجهته للحداثة، وتعامل معها بانتقائية دون التفكير في عمقها الفلسفي، حيث يقول: «إن العقل العربي عقل معطَّل لأنه تخلى عن وظيفته النقدية تجاه تراثه من جهة، وتجاه الحداثة من جهة أخرى، مما أوقعه في حالة من التبعية الفكرية».
وعلى الصعيد الأخلاقي، أدى زحف فكر الحداثة الغربية نحو المجتمعات العربية والإسلامية إلى تحولات جذرية في المنظومة الأخلاقية، إذ تقوم الفلسفة الحداثية على مرتكزات الفردية والعقلانية والعلمانية، وهي تمثل نقيضاً للمنظومة الأخلاقية المستمدة من الوحي. كما حاولت الأفكار الحداثية نقل السلطة الأخلاقية من النصوص الدينية في القرآن والسنة إلى العقل البشري، محاولة إعادة تعريف الفضائل والرذائل وفق رؤية الحداثة وفلسفاتها.
وجاء هذا التأثير عبر قنوات التبشير الخاصة بالاستعمار، والتعليم والإعلام ونحو ذلك، مما أدى إلى تمييع الأخلاق وانحسار رؤيتها لصالح العولمة التي تختزل الإنسان في مادة وغريزة. وبحسب المفكر عبد الوهاب المسيري، فإن الحداثة المادية الغربية قامت على «العلمانية الشاملة» التي تنزع القداسة عن العالم، وتؤدي إلى «انحسار الرؤية الأخلاقية». وفي ظل العولمة، يتم تسويق «المرجعية الواحدية» المادية التي تختزل الإنسان إلى مادة وغريزة، مما يقوّض الأسس الغيبية والمطلقة للأخلاق في مجتمعاتنا.
إن الحداثة لم تكن مجرد ظاهرة فكرية معزولة، بل هي مشروع وافد ارتبط بالاستعمار، وأسهم في إحداث تحولات كبيرة في بنية العقل العربي أولاً، ثم في بنية الدولة والمجتمع والأسرة، وأثارت جدلاً واسعاً بين المفكرين
ويرى مالك بن نبي أن العالم العربي وُجدت فيه قابلية للاستعمار في الثقافة والأخلاق نتيجة الاستيراد غير المنضبط للمنتجات والأفكار التي وصفها بـ«الميتة»، إذ يقول: إن العالم الإسلامي يعاني من «قابلية للاستعمار» ثقافية وأخلاقية، فقد استوردنا من الغرب ليس فقط منتجاته، بل نمطه في التفكير وأزمته الأخلاقية، مما أدى إلى تخريب ضميرنا الجماعي وإحداث أزمة في منظومة القيم.
إن الحداثة لم تكن مجرد ظاهرة فكرية معزولة، بل هي مشروع وافد ارتبط بالاستعمار، وأسهم في إحداث تحولات كبيرة في بنية العقل العربي أولاً، ثم في بنية الدولة والمجتمع والأسرة، وأثارت جدلاً واسعاً بين المفكرين من دعاة النهضة والإصلاح المستند إلى تراثنا الإسلامي فقهاً وعلماً، وبين دعاة التغريب والتبعية المطلقة الذين تشربوا ثقافة الغرب دون فحص أو تدقيق، ونتيجة لضحالة فكرهم وضعف اطلاعهم على تراثهم الغني بقيم التجديد والبناء.
إن دراسة الحداثة لا ينبغي أن تتوقف عند توصيف آثارها فحسب، بل يجب إقرانها بأسبابها ومسبباتها: كيف نشأت؟ ومن كان سبباً في قبولها بيننا؟ وما الذي يمكننا أخذه منها وما المطلوب رفضه؟ كما يجب أن تُواجَه بمشروع فكري أصيل ينطلق من هويتنا وثقافتنا، ويؤسس لحداثة بديلة تنبع من الذات، تحفظ الأصالة وتستوعب المعاصرة، وتقدّم نموذجاً حضارياً قادراً على المنافسة في عالم اليوم.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

