+A
-A
بغداد اليوم – بغداد
بعد عودة العراق مرة أخرى إلى نظام سانت ليغو المعدل (1.7)، وهو النظام الذي أثار خلافاً واسعاً منذ لحظة إقراره، والذي يرى كثير من المراقبين أنه لا يقود إلى تمثيل دقيق لإرادة الناخبين، بل يمنح الأفضلية للقوى السياسية الكبيرة على حساب المستقلين والمرشحين الذين يحظون بتأييد شعبي موزع. وخلال تطبيق هذا النظام في انتخابات 2025، تكشّفت مفارقات حادة جعلت المشهد الانتخابي عرضة للنقد من جديد، أبرزها صعود مرشحين حصلوا على بضعة آلاف فقط من الأصوات مقابل سقوط آخرين تجاوزوا الستة آلاف في المحافظة نفسها.
هذه المفارقة ليست انعكاساً لتقلب المزاج الانتخابي بقدر ما هي نتيجة مباشرة لطريقة احتساب الأصوات وفق معادلة سانت ليغو. فالنظام الذي يعتمد القوائم والتحالفات والكسور الانتخابية يمنح القليل من الوزن للصوت الفردي ويعطي الأفضلية لتحالفات تمتلك قدرة أكبر على تجميع الأصوات داخل كتلة واحدة، حتى إذا كانت أصوات أعضائها أقل من أصوات مرشحين مستقلين أو من قوائم صغيرة في المنطقة ذاتها.
الخبير السياسي والانتخابي علي الحبيب يوضح لـ”بغداد اليوم” أن المشكلة لم تعد في شكل الدوائر أو حجمها، بل في طبيعة القانون نفسه. فسانت ليغو بنسخته المعدلة يجعل الصوت الفردي أقل تأثيراً، ويضع المرشحين أصحاب الشعبية الحقيقية أمام معادلة حسابية لا يملكون القدرة على مجاراتها. ويشير الحبيب إلى أن القانون لا يعكس حجم الأصوات الفعلية التي يحصل عليها المرشح، بل يعكس قدرة القائمة التي ينتمي إليها على تجميع أكبر عدد ممكن من الأصوات ومن ثم توزيعها داخلياً بما يخدم أضعف مرشحيها في بعض الأحيان.
ويضيف الحبيب أن هذه الإشكالية تؤدي إلى صعود مرشح بألفين وثلاثمئة صوت فقط، بينما يخسر آخر تجاوز الستة آلاف صوت لأن قائمته لم تحقق رصيداً أولياً يكفي للحصول على مقعد. وهذا الخلل لا يظهر في العراق وحده، بل يُعتبر من الملاحظات العالمية على نظام التمثيل النسبي المعتمد على القوائم المغلقة أو شبه المغلقة، إلا أن تأثيره في العراق أشد، بسبب حجم التدخل السياسي والمالي، وتفاوت القوة التنظيمية بين الكتل، وافتقار كثير من المناطق إلى منافسة متوازنة.
ويوضح متخصصون في الشأن الانتخابي، أنه مع إلغاء نظام الدوائر المتعددة والعودة إلى الدائرة الواحدة على مستوى المحافظة، أصبح المشهد الانتخابي أكثر ميلاً لصالح القوى التقليدية. فالقائمة الكبيرة ذات الامتداد الجغرافي والتنظيمي والمالي قادرة على الاستفادة من كل صوت يدخل إلى صندوقها، فيما تضيع أصوات المرشحين المستقلين أو القوائم الصغيرة داخل معادلة لا تسمح لهم بالحصول على المقعد إلا إذا حققوا مجموعاً أصواتياً شبيهاً بالقوى الكبرى، وهو أمر شبه مستحيل في محافظات تشهد تعدداً سياسياً حاداً مثل بغداد ونينوى والبصرة.
ويرى الحبيب أن هذا النظام يعمّق فجوة الثقة بين الناخب والعملية السياسية، ويجعل البرلمان أقرب إلى صورة تفاوضية بين الكتل منه إلى نتيجة مباشرة لإرادة الناخبين. فالمواطن الذي يمنح صوته لمرشح معين قد يجد أن صوته ذهب إلى مرشح آخر داخل القائمة نفسها، أو تم احتسابه بطريقة لا تحقق نتيجته الطبيعية في صناديق الاقتراع. ويزيد هذا الواقع من الشعور العام بأن العملية الانتخابية لا تنتج تمثيلاً عادلاً، بل تعيد إنتاج الموازين ذاتها التي حكمت البلد في السنوات السابقة.
ومن منظور أوسع، يؤدي استمرار العمل بسانت ليغو إلى برلمان يختلف جذرياً عن المزاج الشعبي الحقيقي. فالكتل التي تمتلك القدرة على إدارة الموارد التنظيمية والمالية ستبقى صاحبة اليد العليا، بينما يُستبعد المرشحون أصحاب الشعبية والبرامج والرؤية بسبب عدم قدرتهم على منافسة تحالفات مستقرّة تمتلك أدوات انتخابية تتجاوز قدراتهم الفردية.
ويخلص الحبيب إلى أن العراق بحاجة إلى إعادة نظر جذرية في نظامه الانتخابي، لا من باب تعديل الأرقام أو تغيير المعادلة الحسابية، بل من باب إعادة تعريف فكرة التمثيل نفسها. ويشير إلى أن الإصلاح المطلوب يجب أن يضمن أن يكون المقعد النيابي انعكاساً لصوت الناخب، لا لوزن القائمة أو حجم التحالف. فالقانون الذي يسمح لصوت قوي أن يُهدر ولصوت ضعيف أن يتحول إلى مقعد لا يمكن أن يبني ديمقراطية مستقرة أو يعيد الثقة إلى العملية الانتخابية.
وفي ضوء كل ذلك، يبدو أن الانتخابات المقبلة ستكون استمراراً للأزمة ذاتها ما لم يتم اعتماد قانون انتخابي جديد يقوم على عدالة التمثيل وتكافؤ الفرص ويحترم الإرادة الشعبية دون أن يطويها داخل حسابات الكتل والتحالفات. فالديمقراطية لا يمكن أن تستقيم ما لم يعادل صوت الناخب وزناً حقيقياً في صندوق الاقتراع، وما لم يكن المقعد النيابي نتيجة مباشرة لذلك الصوت، لا نتيجة معادلات حسابية تختفي خلفها إرادة الناخبين، بحسب مراقبين.
المصدر: قسم الرصد والمتابعة في بغداد اليوم

