نبدأ من مسلّمة أساسية: لا وجود لإسرائيل من دون الولايات المتحدة. على الأقل לא لإسرائيل التي يريد الإسرائيليون العيش فيها. إسرائيل ذات اقتصاد مزدهر، ومنظومات أمنية متقدمة، وديمقراطية نابضة تستفيد من شراكات دولية ومظلّة دبلوماسية — كل ذلك غير ممكن من دون الولايات المتحدة.
حتى في وثيقة النقاط الثماني عشرة التي صاغها دافيد بن غوريون، أشار أوّل رئيس حكومة إلى ضرورة التحالف مع قوة عظمى. وعلى مدى العقود الأخيرة تبلور التحالف واسع الأبعاد مع الولايات المتحدة على أساس قيم مشتركة مثل الديمقراطية والحرية والإيمان اليهودي–المسيحي؛ ومصالح مشتركة تشمل ضمان تدفّق البضائع عبر قناة السويس، والحفاظ على استقرار أسعار النفط، والتعاون الاستخباراتي والعملياتي والاستراتيجي في إطار الحرب الباردة (ولاحقًا في إطار “الحرب على الإرهاب”)؛ إضافة إلى الثقل الثقافي والسياسي ليهود الولايات المتحدة، والإيمان الديني للمسيحيين الإنجيليين.
إلّا أنّ المشكلة تكمن تحديدًا هنا: التحالف بين الولايات المتحدة وإسرائيل تبلور في الثمانينيات والتسعينيات ومطلع الألفية، في عالم مختلف تمامًا، حيث كانت المصالح والقيم التي وجّهت البلدين مختلفة عمّا هي اليوم. أولويات الولايات المتحدة الاستراتيجية تبدّلت، وعدد متزايد من الأميركيين لم يعد يفهم ما الجدوى الأمنية في منح نحو أربعة مليارات دولار سنويًا لقوة إقليمية. وفي الوقت الذي أصبحت فيه المجتمع الإسرائيلي، المثخن بجراح العمليات والحروب، أكثر تشككًا بفرص السلام — تحوّل المجتمع الأميركي، الذي نزف خيرة أبنائه في العراق وأفغانستان، إلى مجتمع متشكّك بالحروب ذاتها. جيلٌ كامل من الأميركيين نشأ من دون ذاكرة 11 أيلول، لكن مع ذاكرة حيّة جدًا لما خلّفته “الحرب على الإرهاب” من كلفة ودمار وانكسار.
الشباب اليهود في الولايات المتحدة، الذين تربّوا على سرديّة تقول إنّ إسرائيل عاجزة عن ارتكاب الشرّ وأنّه يجب الدفاع عنها دائمًا، يجدون أنفسهم في الجامعات وعلى شبكات التواصل مكشوفين أمام الجانب الأقلّ بريقًا من الدولة. هناك يشعرون بأنهم خُدعوا واستُغلّوا. حتى الشباب الإنجيليون يتبيّن أنهم أكثر ليبرالية بكثير من آبائهم. وإلى كل ذلك ينضاف الاستقطاب الداخلي المتعاظم داخل المجتمع الأميركي، وهو استقطاب لا علاقة له بإسرائيل أو بالصراع، ويتجلّى في انعدام الثقة المتزايد بين الحزبين وبين قواعدهما الانتخابية.
أمام هذا الواقع تقف إسرائيل حاملة بضاعة بالية من ثمانينيات القرن الماضي: فكرة “الإجماع الحزبي”. وحين لا تنغمس في رهان أحمق يقوم على الاستثمار الحصري في الجمهوريين — ولا توجد استراتيجية أقل حكمة من وضع كل المال في سهم واحد — تنشغل القيادة الإسرائيلية، بكل أطيافها، بالحديث عن “استعادة الإجماع الحزبي”. الاعتقاد بأنّ إسرائيل قادرة على دفع تيد كروز وإليزابيث وارن — وكلٌّ منهما مقتنع بأنّ الآخر يدمّر الولايات المتحدة — إلى تجاوز خلافاتهما والتوحّد حول إسرائيل، هو اعتقاد واهٍ من أساسه.
في الماضي، كان من الشائع أن تُرسَم خريطة المواقف داخل المجتمع الأمريكي مثل دالة غاوسية، بشكل جرس: أطراف على اليمين واليسار، وأغلبية واسعة تقيم في المنتصف. لكن تلك الأيام طُويت، وصارت كصفحات صفراء في كتاب قديم. اليوم، وبلا تجميل للواقع، نقف أمام جرسين منفصلين: واحد جمهوري، وآخر ديمقراطي. عالمان متوازيان، لغتان مختلفتان، ورؤيتان متناقضتان للواقع. وفقط عند الحواف، حيث تلامس الهوامش بعضها على استحياء، يبقى خيط رفيع مما كان يُسمّى يومًا “الوسط” — خيط لا كتلة.
على الحافة اليمنى للجرس الجمهوري، بات البعض لا يخجل من مغازلة الفاشية والنازية. وعلى الحافة اليسرى للجرس الديمقراطي، هناك من يرحّب جهارًا بالاشتراكية الصلبة بل وبالشيوعية. هذان الطرفان — الذين لم يكن أحد يجرؤ يومًا على جمعهما في جملة واحدة — يشتركان اليوم في أمرين: أن “الصهيونية” كلمة بذيئة في نظرهما، وأن “النخب العالمية” — ونعرف جميعًا من المقصود — هي العدو.
لكن بين هذين الجرسين تقف كتلة حرجة من الناخبين والمشرّعين، كتلة لا يمكن وصفها بـ”المعتدلة” ولا بـ”الوسطية”، لكنها براغماتية حتى النخع. وفي الحالتين، هذه الكتلة تنظر إلى إسرائيل وتقول، وبقدرٍ غير قليل من العدالة: الأمور يجب أن تتغيّر.
“الشراكة مع إسرائيل مهمّة”، قالوا لي في مكتب عضو كونغرس بارز من الحزب الديمقراطي، “لكننا لن نعود إلى ما قبل السادس من أكتوبر”.
في القيادة الإسرائيلية، باتت الحاجة إلى صحوة حقيقية مسألة طارئة. فما الجدوى من أن يدرك موظفو وزارتي الخارجية والدفاع حجم التحولات العميقة في المجتمع الأميركي، إن كانوا يفتقرون للدعم السياسي والغطاء الشعبي اللذين يتيحان لهم العمل على تكييف الشراكة مع واشنطن؟ هذا التكييف ليس ترفًا ولا خيارًا إضافيًا؛ إنه شرطٌ أساسي للحفاظ على التحالف وترسيخه.
فوز زهران ممداني برئاسة بلدية نيويورك وتحوله إلى رمز داخل الحزب الديمقراطي، وفي المقابل، التطبيع الكامل للنازي الجديد نيك فوينتس في الأوساط الجمهورية — ليست مجرد أحداث متفرقة، بل أجراس إنذار تنبّه إلى كتلة هائلة من التحولات التي تقترب منها السفينة المسماة “إسرائيل”.

