في ندوة، حملت وجع وثقل الشوق والانتظار الطويل، انتظار دام لأكثر من أربعة عقود، وما راكمه من أسئلة بقيت معلقة، عادت وداد حلواني، رئيسة لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان، لتضع الأساس النفسي والإجتماعي والإقتصادي والسياسي للنقاش حول قضية المفقودين والمخفيين قسرًا، وأعادت تثبيت ما حاول الزمن والسلطات دفنه: “أنّ جرح المفقودين لم ولن يُغلق، وأنّ معركة الأهالي التي بدأت منذ تأسيس لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان في 24 تشرين الثاني 1982، أي قبل 43 عامًا، لم تكن يومًا معركة أو رواية هامشية، بل هي النواة الأصعب في بناء ذاكرة وطنية لا تزال مغيّبة، والندوب التي خلّفتها لا تزال تتناسل وتُتَوارث من جيل إلى جيل”.
في قاعة مكتبة كلية الحقوق والعلوم السياسية في جامعة القديس يوسف، انعقدت الندوة بعنوان “حين يصبح الغياب ذاكرة: الفقدان جرح مفتوح في المجتمع اللبناني”، لتعيد فتح ملف المخطوفين والمفقودين في الحرب اللبنانية، بوجوهه الإنسانية والاجتماعية والنفسية والسياسية، لمناسبة الذكرى 43 لتأسيس لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين. وبدا المشهد وكأنّه يتجاوز مناسبة رمزية ليصبح جلسة وطنية صريحة عن الذاكرة والعدالة والإنكار، وخاصة جلجلة أهالي المخطوفين والمفقودين التي زادها تخلي السلطات الرسمية عنهن وعنهم صعوبة ووجعا. وفي قلب هذا المشهد، أعيد طرح القضية بوجوهها كافة، وبما خلفتها من ندوب ما زالت تتناسل من جيل إلى جيل.
وداد حلواني: التاريخ يرويه الضحايا لا المنتصرون
حلواني، بصوت يشبه الذاكرة نفسها، بدت كلمتها، كأنّها تصافح الحضور من قلب الألم: “نلتقي اليوم في الذكرى الثالثة والأربعين لولادة لجنة الأهالي. ثلاثة وأربعون عامًا من الانتظار، من التمسّك بالأمل، ومن الإصرار على ألّا يغيب أحبّتنا مرّة ثانية في الصمت”.
مرّت حلواني على العقود الأربعة كما لو أنّها تعيد رسم خريطة سياسية ونفسية للبلد: “حرب ابتلعت الأحبّة، دولة هشّة تخلّت عن مسؤوليّاتها، ميليشيات هدّدت، سلطات ألّفت لجان بلا صلاحيات، ووعود بلا نهاية”. لكن ما شدّدت عليه، هو أنّ القضية تجاوزت منذ زمن حدود العائلة: “أدركنا أنّ قضيّتنا ليست مسألة عائلية، بل قضية وطن. وما حدث لأبنائنا يخصّ أبناء لبنان كله”.
وأعادت حلواني رسم ما يشبه “تاريخًا موازيًا للحرب”، “تاريخًا يرويه الضحايا لا المنتصرون: حركة احتجاجية سلميّة خرجت من قلب الخوف، مواجهة مباشرة مع أمراء الحرب والميليشيات، نفق حفر في جبل من العنف الطائفي، ودولة غائبة إلّا عندما تكون بصدد الالتفاف على المطالب”.
ثمّ جاء انتقال حلواني إلى مرحلة ما بعد الحرب ليكشف عن الزيف البنيوي للمصالحة التي أُعلن عنها رسميًّا: قانون عفو شامل، غياب أي محاسبة، ودفن جماعي للذاكرة.
الخاتمة التي صاغتها حلواني، ورّدت كلمات المتحدثين بعدها صداها، كانت حول ضرورة إدخال القضية إلى المدارس والجامعات: “الذاكرة ليست ترفًا بل حماية”. والشباب، كما قالت: “ورثوا الحرب من دون أن يعيشوها. لذا يصبح دورهم اليوم سدّ الفجوة بين الجيل الذي عرف الحرب والجيل الذي لم تُسرد له قصّتها”.
كلمات المتداخلين والمتداخلات والمشاركين والمشاركات من أساتذة وحقوقيين وباحثين وأخصائيين نفسيين، وناشطين، تلاقت لتفكيك المسار الذي مرّت به القضية منذ الثمانينيات وحتى اليوم. بعضهم ركّز على التبعات الاجتماعية والاقتصادية على النساء والعائلات، وبعضهم على الأثر النفسي للفقدان الغامض على العائلات وأخريات على تأثير الفقدان على المجتمع ومسار العدالة الانتقالية وحفظ الذاكرة الاجتماعية، والثغرات البنيوية في تطبيق القانون 105/2018، بينما تناول آخرون التحدّيات التقنية والإنسانية أمام الهيئة الوطنية الجديدة. لكن ما جمعهم هو التأكيد أنّ ملف المفقودين لم يعد مطلبًا إنسانيًا وحقوقيًا فحسب، بل أصبح سرديّة مضادّة لكلّ محاولات محو الذاكرة.
صوت الأهالي الذي لا يشيخ

المأساة بالنسبة إلى الأهالي، ليست تاريخًا يستعاد، بل حياة معلّقة، زمن متجمّد عند لحظة الخطف، لا يتقدّم ولا يسمح لهم بالتقدّم.
هؤلاء الذين علقوا بين الألم والأمل، يتوارثون الانتظار كما يتوارث الناس أسماءهم. فالحقيقة بالنسبة لهم ليست مطلبًا بل حقًّا في استعادة النّفس، في معرفة أين ذهبت أرواح أحبّتهم، وكيف يمكن لحياة أن تكتمل من دون هذا الجواب؟ في هذا المشهد، تصبح الشهادات الثلاث التالية أكثر من روايات شخصية، إنّها مرايا لوجدان جماعيّ لم يُشف بعد.
تقول فردوس نزيه آغا الطفلة التي كبرت على ظلّ الغياب لـ “المفكرة القانونية”: “كنت في الثالثة من عمري عندما خطف والدي، نزيه آغا، عام 1982 من منطقة عبرا”. لم تحفظ ملامحه، فلا صورة واضحة بقيت في ذاكرتها، لكن غيابه كان الصورة الوحيدة التي رافقتها طوال حياتها.
كان والدها بائع سمك، والرجل الذي تستند إليه العائلة. خطف من أمام عربته، تلك التي كانت مصدر الأمان الوحيد للأسرة.
تروي فردوس كيف وجدت والدتها نفسها، وهي في الرابعة والعشرين فقط، مسؤولة عن خمسة أطفال: أكبرهم في العاشرة وأصغرهم لم يتجاوز الثلاثة أشهر. عملت الأم في صالة أدوات رياضية، ودفعت ابنها الصغير للعمل كبائع متجوّل كي يتمكّنوا من الاستمرار. لم تكمل فردوس ولا إخوتها دراستهم، فالحياة كانت أقسى من أن تعطيهم فرصة لذلك.
تصف والدتها بالمرأة القويّة، لكنها كانت ترى الانكسار خلف صلابتها: “كانت تبكي في السرّ… لم تكن تريد أن تحمّلنا حجم وجعها”.
سميح علي محمود، خطف شقيقع في العام 1976، في يوم “السبت الأسود” قرب سينما ريفولي. ومنذ ذلك اليوم، يقول سميح لـ “المفكرة”، تعيش العائلة على وقع مأساة لا تقاس بالسنوات بل بالجرح المفتوح:
“خبرية بتاخدنا وخبرية بتجيبنا… تعرّضنا للابتزاز مرارًا وتكرارًا”.
أكثر من خمسين عامًا مرّت، وما زال السؤال نفسه ينهشهم: أين هو؟ ماذا جرى؟ هل رحل أم أنّه ما زال في مكان ما ينتظر من ينتظره؟
يروي سميح أنّ والديه ماتا بحسرته، تاركين وصية واحدة: “فتّشوا عنه… لا تتركوا حقه يضيع”.
هذا الفراغ، كما يقول، “لا تملأه سوى الحقيقة. ليس الانتقام ولا التعويض، بل مجرّد معرفة المصير” كي يستطيعوا دفن أخيهم وقراءة الفاتحة على روحه، وطي الصفحة التي بقيت مفتوحة نصف قرن.
أسعد غريزي فُقد في العام 1982، في منصورية بحمدون بينما كان متوجّهًا إلى عمله في ورشة باطون. كان بالنسبة لشقيقه منير بمثابة “الأب الثاني”.
يقول منير لـ “المفكرة” : “كنت تلميذًا، وكان هو سندي، بعد فقدانه شعرت بالضياع”.
لم يتوقف الحزن في بيت العائلة يومًا. وحين رحل والدهم وشقيق آخر، شعر منير بأنّ ألم فقدانهما كان أخف، لأنّ الجثتين دفنتا، وأُقيم الحداد عليهما. “أما أسعد، فلا يزال في منطقة بين الحياة والموت، حيث لا يقين يسمح بالشفاء”.
ملابسه ما زالت معلّقة كما تركها، وأمه احتفظت بعدّته التي كان يستعملها في العمل، على أمل أن يعود ليأخذها بيده. يقول منير إنّ حتى الإجراءات الإدارية تزيد الوجع: “حصر الإرث لا يزال عالقًا، واسمه لا يزال في إخراج القيد “حيًّا”. وإن أرادوا تسوية أوضاعه، عليهم دفع مبالغ كبيرة لا قدرة لهم عليها، ليضيف: “من واجب الدولة إصدار قرار يسمح لعائلات المفقودين بتسوية أوضاعهم بلا تكاليف باهظة وهذا أقلّ حق”.
الفقدان الغامض زمن نفسي لا يتحرك

مديرة الندوة رئيسة قسم الصحافة في “المفكرة القانونية”، سعدى علّوه، استعادت بداياتها المهنية حين قادها العمل الصحافي إلى لجنة أهالي المفقودين، وإلى وداد حلواني ورفاقها الذين “كالنمل حفروا في الصخر” لتثبيت حق الأهالي في معرفة مصير أحبّائهم. تقول: “تأنسنت الحرب بالنسبة لي وأنا التي كنت في أطراف البلاد بعيدة عنها نسبيًا.. معهن، وفي وقفتهن كل يوم خميس، ومحطات نضال العائلات، أدركت أنّ الحرب ليست دمارًا بعيدًا ولا جنازات وصور خراب فقط، بل قصص تنتظر نهاياتها. وتعلّمت أنّ النضال الذي لا يعرف اليأس هو وحده الذي ينتزع الحق”.
الأستاذة الجامعية الدكتورة وفاء أبو شقرا، رئيسة مركز الأبحاث في كلية العلوم في الجامعة اللبنانية، روت بداياتها مع القضية، يوم كلفتها إذاعة “صوت الشعب” عام 1986 بتغطية اعتصامات الأهالي في حديقة جبران خليل جبران. هناك، حفرت في ذاكرتها صورة أم عزيز حاملة صور أبنائها الأربعة. الصورة “التي حاولت محوها عند مغادرتي لبنان عام 1991، لكن، لم تُمحَ”.
واستعادت قول مخرج الأفلام بول فان زيل Paul van Zyl: “لا تملك المجتمعات ترف إغفال التعامل مع ماضيها. إن لم نواجهه سيظلّ يطاردنا”. لتضيف: “وهذا ما حدث معي، إذ عاد الماضي ليطرق بابي حين دعتني وداد حلواني للمشاركة في هذا اللقاء، فشعرت أنّه ‘موعدي مع الاعتذار’”.
وعرضت أبو شقرا قراءة نقدية لمسار القضية، من تبخّر آلاف اللبنانيين والفلسطينيين والسوريين عبر محطات الحرب، إلى الفراغ المؤلم الذي تركه غيابهم. فالعائلات كما شرحت تعيش “خسارة ملتبسة، محرومة من أي جواب، مثقلة بالقلق والذنب، ومحاصرة بتبعات اجتماعية وقانونية واقتصادية مرهقة”.
وتابعت: “نظام العائلة تغيّر. الأدوار تبدّلت. وأثقل الفقدان كاهل الأمهات والزوجات اللواتي حملن العبء الأكبر في ظلّ قوانين جائرة ومجتمع لا يرحم”. وتستعيد وقائع البحث المحموم “الذي دفع العائلات إلى صرف مبالغ كبيرة، وركض خلف وعود كاذبة، في محاولة لالتقاط خيط يبدّد الغموض الذي يأكل العمر”.
من الزاوية النفسية، شرحت الأخصّائية والمعالجة النفسية شارلوت الخليل مفهوم “الفقدان الغامض” أو “الخسارة الغامضة” (Ambiguous Loss) كما صاغته الاختصاصية النفسية بولين بوس، والذي تصفه بأنّه “أعقد أنواع الفقدان”، لأنّه بلا بداية واضحة ولا نهاية حاسمة: في هذا النوع من الفقدان، يتوقّف الزمن. العالم الخارجي يتحرّك، أمّا الزمن الداخلي فيبقى معلّقًا عند لحظة الاختفاء”.
وتعدد خليل الآثار النفسية على الأفراد: يقظة مفرطة وانتظار لا ينتهي، ذنب يلتهم صاحبه، إنكار وتجنّب كآلية دفاع، اكتئاب وفقدان قدرة على التخطيط، بحث لا يتوقّف، رغم مرور السنوات. أما داخل العائلة، فتشرح خليل التباينات بين أفرادها بين من يقود معركة البحث، ومن يحاول النجاة، ومن تتعطّل حياته بالكامل، ومن يبقى الطفل الممزّق بين الحزن والانتظار. وتقول: “وفي بلد مثل لبنان، يصبح الفقدان ‘جرحًا ذا بعد جماعي’، يتفاقم مع غياب الاعتراف الرسمي، ومع مجتمع يطالب الأهالي بـ ‘النسيان’”.
وتقترح خليل مقاربة علاجية ترتكز على: مساحة آمنة، تنظيم الانفعالات، تقوية الروابط العائلية، الاعتراف بالألم، بناء معنى جديد، والطقوس الرمزية كبديل عن غياب الجثمان. وتختم بالقول إنّ: “الفقدان الغامض يتمزّق بين سؤالين لا يلتقيان: هل يعود؟ أم هل نبدأ الحداد؟”.
المخرجة المسرحية زينة دكّاش، رئيسة مؤسّسة للمركز اللبناني للعلاج بالدراما، ومعالجة نفسية، قالت: “حين يسكت التاريخ يتكلّم الفن”. وترى أنّ الفن هو مساحة مقاوِمة للنسيان. تستعيد صدمتها الأولى في المدرسة حين وجدت كتاب التاريخ ينتهي عند الانتداب، متسائلة: “وماذا عن السنوات العشر التي قضيتها في الملجأ؟ أين الحرب في كتبنا؟” كبرت وكبر معها السؤال، إلى أن التقت بوداد حلواني واكتشفت للمرّة الأولى أنّ أحدًا يوثّق الذاكرة: “شعرت أنّني، رغم أنّني لم أفقد أحدًا – جزء مني مفقود مع المفقودين”.
ووصفت دكّاش لبنان بأنّه يعيش “صدمة جماعية” لم تعالَج، وأننا عالقون في مرحلة خيبة الأمل التي لا يفترض أن تدوم أكثر من سنة لو قامت الدولة بدورها الطبيعي في الاعتذار، كشف الحقيقة، أو إنشاء رموز تذكارية. وتقدم مثال الأرجنتين، حيث فرضت الدولة بعد الحرب واجب زيارة المتاحف التذكارية، ليتعلّم الطلاب أسماء المفقودين ويمنعوا موت الذاكرة. أما في لبنان، فلا متحف، ولا نصب تذكاريًا، ولا مكانًا نبكي فيه. نعيش إنكارًا مزمنًا، وجيلًا بعد جيل نربّي أبناءنا على قبول دفن الحقيقة”.
ورأى المنسّق الأكاديمي للبرنامج العربي في الديمقراطية وحقوق الإنسان والمحاضر في جامعة القديس يوسف جهاد نمّور أنّ التحدّي اليوم هو كيفية إيصال ملف المفقودين إلى جيل لم يعش الحرب، ولا يراها ضمن أولويّاته في بلد ينهار.
وروى كيف اكتشف وجود المفقودين للمرّة الأولى عبر أغنية تتناول الاختفاء القسري في تشيلي. ومن خلال عمله الأكاديمي، يحاول اليوم صناعة “تعلّم تجريبي” لطلابه، عبر لقاءات مباشرة مع: عائلات مفقودين، معتقلين سابقين، الصليب الأحمر ومحاربين سابقين.
الجلسة الافتتاحية
وكانت سبقت الندوة جلسة افتتاحية، تحدّثت في مستهلها ممثلة جامعة القديس يوسف الدكتورة رلى أبو حبيب خوري وهي مديرة مركز الدراسات في العالم العربي الحديث ( CEMAM ) التي ترى أنّ “تقاطع السياسة والمصالح مع الأولويّات يضع هذه القضية في خانة ماض يجب أن يمضي لكي نتفرّغ للحياة اليومية ومآسيها الحاضرة. وهذه الأخيرة أي المآسي الحاضرة، على عنفها وقساوتها، كصورة ذلك الزوج الذي يحضن زوجته ويحاول إبعادها عن سيارة يحترق فيها ابناهما، (في إشارة إلى الغارة الإسرائيلية التي شنّتها إسرائيل على زوطر الشرقية في جنوب لبنان، وأودت بشهيد أمام أعين والديه) لا تلغي ولا تقلّل من عنف الماضي وقهره. وما لقاؤنا اليوم إلّا لإبقاء هذه القضية في خانة الحاضر المستمرّ لحين إيجاد ما يُبلسم الجراح المفتوحة”.
ولفتت إلى أنّ قضيّة المفقودين هي قضية إنسانية تتجاوز الانتماءات والهويّات والطوائف، لتصل إلى جوهر ما يعنيه أن يعيش الإنسان بكرامة، وأن يُحفظ له حقه الأساسي في المعرفة والحقيقة. لا يمكن للأجساد المفقودة أن تبقى معلّقة، لا هي متوفاة رسميًا ولا هي حيّة فعليًا، ولا يمكن لحياة العائلات المبتورة أن تستمرّ وتستقيم من دون مرافقة ومساندة”. وتحدثت أبو حبيب خوري عن الأبعاد الاجتماعية والإقتصادية والثقافية والنفسية، مشدّدة على أنّ “قضية المفقودين لا يجب أن تكون حملًا على عائلاتهم وحدهم بل هي مسؤولية وطنية وأخلاقية”.
مسؤولة الملف اللبناني في اللجنة الدولية للصليب الأحمر غادة الصايغ أكّدت بدورها أنّ اللجنة سارت على مدى عقود من الزمن جنبًا إلى جنب مع عائلات المفقودين، مضيفة أنّ “شراكتنا مع لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان لا تقوم فقط على التعاون التقني، بل على إنسانية مشتركة. لقد كانت اللجنة (لجنة أهالي المفقودين) قوّة دافعة وبوصلة أخلاقية وصوتًا ثابتًا يذكّر دائمًا بأنّ خلف كلّ شخص مفقود عائلة تحمل آمالًا ومخاوف وروابط حب لا تنكسر”. وأضافت: “نحن في اللجنة الدولية نثمن هذا التعاون عميقًا، ونجدّده اليوم بكل امتنان واحترام. عملنا معا لضمان أن تحظى هذه القضية بالإشراف والجدية التي تستحقها”.
وذكّرت بأنّ “القانون الدولي الإنساني يكفل للعائلات الحق في معرفة مصير ومكان أحبّتهم المفقودين. وهذا الحق ليس رمزيًا بل هو أساس عملية التعافي وشرط للمصالحة وجزء جوهري من إعادة الثقة بين المواطنين والمؤسسات”.
ولفتت إلى أنّ اللجنة الدولية تبقى ملتزمة التزامًا راسخًا بدعم لجنة الأهالي في جهودها المتواصلة وبمساندة الهيئة الوطنية مع بدء ولايتها الجديدة، واستنادًا فقط إلى المبادئ الإنسانية، والحياد والاستقلال وبمواصلة العمل مع جميع الجهات المعنية لتحويل الأقوال إلى أفعال ولضمان ألّا يتوقّف التقدّم.
ورأت أنّ “معالجة قضية المفقودين مسؤولية وطنية تتطلّب إرادة سياسية وخبرة تقنية والتزامًا مشتركًا من جميع المؤسّسات وقطاعات المجتمع. لكنها تتطلّب قبل كلّ شيء التعاطف والاستعداد لوضع أنفسنا في مكان العائلات التي تعيش منذ عقود مع أسئلة بلا أجوبة. ودعت إلى العمل معًا كي لا يرث الجيل المقبل هذا العبء، بل ليرث بدلًا منه إرثًا من الحقيقة والمساءلة واحترام الكرامة الإنسانية فهذه الجراح المزمنة تبدأ بالالتئام ليس بالنسيان بل بالمعرفة”.
قانون 105/2018: المكسب الأهم والمعركة الأصعب

اليوم، ومع إقرار قانون المفقودين وإنشاء الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسرًا، بدا وكأنّ نافذة صغيرة فتحت في جدار الصمت الطويل. لكن الاختبار الحقيقي لم يبدأ بعد. هذا ما قاله رئيس الهيئة المعين جوزيف سماحة في حديث مع “المفكرة”، موضحًا أنّ “الكشف عن مصير المفقودين يحتاج إلى إرادة سياسية، وملفات مفتوحة بلا خطوط حمراء، ومسح مقابر جماعية طال تجاهلها، وتعاون وثيق بين الخبراء والسلطات القضائية والحقوقية”.
وفي كلمته، يرى سماحة أنّ “القانون 105/2018 كرّس الحق في معرفة مصير المفقودين والمخفيين قسرًا منذ العام 1975، كحق دائم لا يمكن تجاهله ولا يمرّ عليه الزمن. كما أنشأ الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسرًا وجعل مهمّتها البحث والتحرّي عن كلّ مفقود أو مخطوف مجهول مكانه بنتيجة نزاع مسلّح محلي أو دولي أو بفعل جهات رسمية محلية أو اجنبية. وقد منح القانون 105 الهيئة استقلالًا ماليًا وإداريًا وبداية شاملة تغطّي كلّ حدث من دون التمييز بين لبنانيين أو أجانب أو مدنيين أو عسكريين، بهدف بيان مصيرهم ومكان وجودهم إن كانوا على قيد الحياة أو مكان دفنهم إن كانوا متوفّين، ومن ثم إبلاغ عائلاتهم بمصيرهم.
وأضاف أنّ “الهيئة ليست مرجعًا جزائيًا ولا يدخل في مهامها ملاحقة المسؤولين عن الخطف أو محاسبتهم بل فقط مساعدة العائلات وتأمين حقهم في المعرفة. الهيئة تعمل بصورة مستقلّة وبشفافية كاملة ويحق لها الاستعانة بالسلطات والأجهزة اللبنانية والأجنبية لطلب أي مستندات ومعلومات تراها ضرورية أو مفيدة من أجل تأمين مهامها”.
وكانت الهيئة السابقة قد وضعت الأسس التنظيمية لعملها وخصّصت مقرًا رسميًا لها ونسّقت مع جهات محلية ودولية واستقبلت بعض القرارات لتقفّي الأثر وكشفت عن موقعين مشتبه باحتوائهما على مقابر جماعية في عرسال وملوخا.
والهيئة المعيّنة حديثًا وعدد أعضائها 9 بصدد استكمال العمل، سواء من الناحية التنظيمية أو من الناحية العملية لجمع وتنسيق المعطيات المتعلّقة بالمفقودين لإنشاء سجل وطني للمفقودين. وفي الوقت نفسه للبحث عن الأماكن التي يحتمل أن تحوي مقابر جماعية وتعمل الهيئة على فتح مسار رسمي مع الجانب السوري وتحديدًا مع الهيئة الوطنية السورية ذات المهام المتشابهة، سعيًا لتوقيع اتفاقية تعاون لكشف مصير مفقودين.
وأشار إلى أنّ “الهيئة تواجه في عملها تحدّيات كثيرة، ليس أقلّها غياب التمويل الكافي وتكتّم أطراف عديدة على معلومات متعلّقة بالمفقودين ومصيرهم، ورفض الدعم الكافي لتنفيذ المهام، غير أنّها لن تألو جهدًا لتنفيذ مهامها والسعي لبلسمة هذا الجرح النازف لدى العائلات التي ما زالت تنتظر من دون يأس أو كلل، لتبيان مصير أبنائهم”.

