تتحرك الموسيقى اليوم بسرعة تجعل المستمع يشعر أحياناً أن كل الأصوات متشابهة، وأن خوارزميات المنصات الرقمية هي من تقرر ماذا نسمع ومتى.. وسط هذا الضجيج، ينهض بلد صغير على أطراف أوروبا ليقدّم درساً جديداً للعالم: يمكن لمشهد موسيقي محلي، متجذر في ذاكرة الصراع والهوية، أن يتحول خلال سنوات قليلة إلى واحدة من أكثر الساحات البديلة حيوية وتأثيراً.
هكذا يقدّم لنا المشهد الموسيقي البديل في أيرلندا قصة تحوّل لا تتعلق بالأغاني فقط، بل بنظرة مجتمع كامل إلى نفسه، وبكيفية استخدام الفن لمواجهة الماضي وبناء مستقبل أكثر انفتاحاً وثقة.
المشهد الموسيقي البديل في أيرلندا
تصف الصحفية آنا كافولا في تقرير موسّع لصحيفة الغارديان كيف انتقلت فرق الإندي والروك والهيب هوب الأيرلندية من الهامش إلى أبرز المهرجانات العالمية، من غلاستنبري في بريطانيا إلى فوجي روك في اليابان، مع أسماء مثل Sprints وNewDad وFontaines DC وCMAT وKneecap، التي باتت تجذب جماهير من ملبورن إلى مكسيكو سيتي.
لم يعد الأمر مجرد “أصوات محلية لطيفة”، بل موجة فنية كاملة تعيد تعريف ما نعنيه حين نقول “الموسيقى الأيرلندية”.
جوهر هذه الموجة أن الأغاني لا تهرب من الواقع، بل تواجهه مباشرة. كثير من الأعمال تستحضر إرث “الاضطرابات” في أيرلندا الشمالية، وتجربة الفقر، والركود الاقتصادي بعد فقاعة “النمر الكلتي”، وتطرح أسئلة عن السلطة والظلم والهجرة والهوية. حين تتحول هذه المواضيع إلى موسيقى بديلة صادقة، يشعر المستمع في أي مكان في العالم أن المعاناة مشتركة، وأن القصة الأيرلندية تشبه قصته هو أيضاً.
مدن صغيرة وأصوات كبيرة
ما يلفت النظر أن كثيراً من نجوم هذه الموجة لا يأتون من عواصم عملاقة، بل من مدن متوسطة وصغيرة مثل غالواي ودندي وغلاسكو الأيرلندية الشمالية. في هذه البيئات، تتجاور الحانات الصغيرة مع المسارح المستقلة، ويتحوّل أي مخزن قديم أو مركز ثقافي محلي إلى مساحة للحفلات والتجارب الجديدة.
تتحدث كافولا عن روح تمرد واضحة عند هذا الجيل: فرق ترفع لافتات لدعم حقوق المتحوّلين جنسياً في حفلات كبرى، وفنانين تُقصَر مشاركاتهم في المهرجانات بسبب مواقفهم السياسية، وحملة واسعة من فناني أيرلندا للتضامن مع فلسطين واستقبال جوقات نسائية فلسطينية في جولة داخل البلاد.
هنا لا يبدو المشهد الموسيقي البديل في أيرلندا مجرد “ترفيه”، بل مساحة سياسية وثقافية يعبّر فيها الشباب عن موقفهم من العالم.
وهذه الروح تتغذى أيضاً من ذاكرة جماعية ثقيلة. فنانو الشمال تحديداً يتحدثون عن “صدمة متوارثة” من عقود العنف والانقسام، وكيف تحولت هذه الذاكرة إلى مادة خام لأغانٍ غاضبة لكنها تحمل قدراً كبيراً من الأمل، ورغبة في “تحرير اليد الميتة للماضي” كما يقول أحد نصوص الأغاني التي نقلها التقرير.
التكنولوجيا والإنترنت تغيّران القواعد
لم يكن هذا الانفجار ممكناً من دون منصات البث ومواقع التواصل، لكنه لم يكن ليحدث أيضاً لو أن الفنانين اكتفوا بملاحقة ما تفرضه هذه المنصات. كثير من أسماء المشهد الأيرلندي البديل حققت شهرتها من خلال مقطع راقص ينتشر على تيك توك، أو أغنية تُستخدم في لعبة فيديو عالمية، أو أداء تلفزيوني في برنامج موسيقي شهير، كما حدث مع بعض الفنانين.
لكن الفارق هنا أن الفنانين لم يحاولوا إخفاء لهجتهم أو تخفيف حمولتهم السياسية أو تبسيط رسائلهم لتناسب “السوق العالمية”. على العكس، احتفظوا بلكناتهم المحلية، وكتبوا عن مراكز التسوق الفارغة في مدنهم، وعن ارتفاع الأسعار، وعن الهجرة الجماعية، وعن صعود اليمين المتطرف.
هذه الصراحة منحت المشهد الموسيقي البديل في أيرلندا قوة خاصة؛ فالجمهور المتعب من الموسيقى المصنّعة بخوارزميات الذكاء الاصطناعي صار يبحث عن شيء “حقيقياً ومُجذّراً”، كما تقول إحدى المسؤولات الثقافيات في بلفاست.
تنوع يعيد تعريف الهوية
من العناصر الحاسمة في قوة هذا المشهد اتساع تعريف “من هو الأيرلندي”. تقرير الغارديان يشير إلى صعود فنانين من أصول نيجيرية وأفريقية وآسيوية، إلى جانب فنانين من أيرلندا نفسها، يقدّمون خليطاً من الراب والتراب والروك والإلكتروني، وأسّس بعضهم منصات مثل Chamomile Club تحت شعار “Black Kids Doing It” لتكوين منظومة متكاملة من موسيقيين ومصممين ومصوري فيديو ومنسقي أزياء.
وهناك أيضاً فرق تمزج الغناء بالغيلية (اللغة الأيرلندية) مع الهيب هوب، وتروي قصص الهجرة والبطالة والحياة في الأحياء الشعبية. هذا التنوع لا يُجمَّل بديكور فلكلوري؛ بل يقول بوضوح إن أيرلندا اليوم ليست صورة بطاقة بريدية من القرن الماضي، بل مجتمع متعدّد يحاول أن يحمي هذا التعدد في وجه موجات عنصرية واحتجاجات يمينية متصاعدة.
هكذا يغدو المشهد الموسيقي البديل في أيرلندا مساحة لتفاوض دائم على معنى “الأيرلندية”، بين من يريد حصرها في رموز تقليدية وبين جيل يرى أن الهوية تتسع للجميع، ما داموا يشاركون في صناعة القصة الجديدة للبلد.
سياسات ثقافية تدعم المجازفة
القصة ليست رومانسية بالكامل؛ فخلف نجاح الفنانين توجد بنية تحتية عملت بصمت سنوات طويلة. مجلات ومواقع محلية مثل Thin Air وNialler9 وغيرها وثّقت هذه الفرق مبكراً قبل أن تلتفت إليها الصحافة البريطانية والعالمية، كما نظمت مؤتمرات ومهرجانات مثل Output وAVA مساحات لقاء بين الفنانين والمنتجين والوكلاء.
الأهم هو القرار السياسي: في أكتوبر 2025 قررت الحكومة الأيرلندية تحويل برنامج “الدخل الأساسي التجريبي للفنانين” إلى سياسة دائمة، بحيث يحصل الفنانون المشاركون على نحو 325 يورو أسبوعياً. دراسة مستقلة موّلتها الحكومة أظهرت أن هذا الدعم حسّن إنتاجية الفنانين وصحتهم النفسية، بينما بلغت كلفة البرنامج نحو 25 مليون يورو سنوياً، وهو رقم متواضع مقارنة بما يخلقه من حيوية في قطاع الفنون.
وهذا النوع من السياسات يعطي رسالة بسيطة: المجتمع مستعد لتحمّل جزء من المخاطرة مع الفنان، كي يتفرغ للتجربة والابتكار. من دون هذا الأساس الاقتصادي، يبقى المشهد البديل هشاً يعتمد على حماس متطوعين، بينما يضطر كثير من المبدعين لترك الفن بحثاً عن دخل ثابت.
دروس لعوالم موسيقية أخرى
ما يحدث في أيرلندا لا يتكرر بحذافيره في أماكن أخرى؛ لكل بلد تاريخه وتركيبته. لكن تجربة المشهد الموسيقي البديل في أيرلندا تقدّم عدداً من الدروس القابلة للتعميم: لا يمكن بناء مشهد قوي من دون أن يكون متصلاً بحياة الناس وقضاياهم اليومية، ومن دون أن يحتضن التنوع بدلاً من الخوف منه، ومن دون أن تسانده منصات إعلامية محلية تلتقط المواهب مبكراً.
والأهم أن الاستثمار في الثقافة ليس رفاهية. حين يتعامل صانعو القرار مع الفنان باعتباره جزءاً من البنية التحتية للمجتمع، مثل التعليم والصحة، يمكن أن يتحول بلد صغير إلى قوة ناعمة حقيقية، تُسمَع أغانيه بلغات ولهجات مختلفة على مسارح العالم.
عندها يصبح السؤال الذي طرحه تقرير الغارديان عن أيرلندا – كيف صنعت “أفضل مشهد موسيقي بديل في العالم” – بداية حوار أوسع: ماذا نحتاج نحن أيضاً لبناء مشهد بديل يعبّر عنّا بالصدق نفسه، وبالجرأة ذاتها على مواجهة الماضي وابتكار المستقبل؟
اقرأ أيضاً: فبراير في لندن يتحدّى الملل!

