داخل مخيم التعاونية الواقع على أطراف بلدة ببنين شمال لبنان يواصل السكان من اللاجئين السوريين “روتينهم” اليومي، بعد قرارهم عدم العودة إلى محافظاتهم السورية في الرقة والحسكة الواقعة تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية.
هؤلاء يشكلون جزءاً من شريحة كبيرة فضلت البقاء في لبنان على رغم مرور 13 عاماً من التهجير والعيش داخل الخيام المدعومة من المفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة، فيما غادر جيرانهم المتحدرون من مدينة القصير في ريف حمص بسبب إحكام النظام الجديد سيطرته عليها، والعودة الجزئية لمؤشرات الحياة، وعملهم في أراض زراعية يملكونها.
وما بين العائدين من جهة ومن قرر البقاء من جهة أخرى هناك شريحة ثالثة من اللاجئين، عادت إلى لبنان بعدما غادرت إلى بلادها في إطار العودة الطوعية، واكتشفت لاحقاً أن “الحياة صعبة في سوريا ومستويات الفقر مرتفعة”، كما تقول سمر، التي تكشف عن أن “العائلة عانت كثيراً خلال الأسابيع التي أمضتها في سوريا، ولم يتمكن الأبناء من التأقلم مع نمط الحياة هناك، ولم يحظوا بفرصة دخول الاختصاص الجامعي المناسب لدراستهم الثانوية في لبنان”.
لا مزيد من التقديمات الصحية
صادم كان وقع الرسائل النصية التي وردت إلى هواتف اللاجئين من أرقام المفوضية العليا للاجئين، حين أبلغتهم أنه بدءاً من الأول من ديسمبر (كانون الأول) 2025، ستتوقف التقديمات الصحية والتغطية الاستشفائية في لبنان.
يكشف أيهم (لاجئ سوري في لبنان التقيناه شمال لبنان) أن الخفوضات لم تبدأ مع هذه الرسائل بل قبلها، فهو اضطر إلى إجراء جراحة لوالده الكبير في السن على حساب العائلة، التي أنفقت مدخراتها وحصلت على بعض التبرعات من الأقرباء والجيران، لأن المفوضية لم تتكفل بالعملية أو تؤمنها له في مستشفيات مدعومة منها.
يقول إنه مضطر إلى البقاء هنا بسبب دراسة الأطفال في مدارس لبنان، واعتيادهم على نمط الحياة في هذا البلد المستضيف، إضافة إلى دمار كبير طاول أملاك العائلة في سوريا، وعدم تمكنهم من استئناف عملية الإعمار بسبب الكلفة المرتفعة.
من جهته، يتحدث الناشط السوري في لبنان أحمد التركاوي عن “انسحاب كامل للمفوضية من حياة السوريين في لبنان”، ويتحدث عن التأثيرات السلبية لقرارات المفوضية على حياة غالبية اللاجئين السوريين الذين لم يعودوا إلى بلدهم بعد، إذ سيخسر هؤلاء فرصة الاستشفاء والعناية الصحية، مما يشكل ضغطاً على النساء الحوامل بالتحديد، فيما في المقابل تبقى محدودة جداً المساعدات المالية التي يحصل عليها العائدون إلى سوريا، والتي تقتصر على تعويضات نقدية بالدولار الأميركي، مما يضعهم بين خيارين أحلاهما مر.
الخدمات المقدمة في مستشفيات حكومية
اعتمد اللاجئون السوريون إلى لبنان منذ أعوام طويلة في استشفائهم على الخدمات المقدمة في مستشفيات حكومية، أو خاصة متعاقدة مع المفوضية العليا لشؤون اللاجئين.
يرى مدير المستشفى الحكومي (التابع للدولة) في طرابلس الدكتور ناصر أن “قرار المفوضية قفزة في المجهول، وسيحرم اللاجئين وشريحة كبيرة منهم من الخدمات الصحية”، لافتاً “لقد تبلغنا من المفوضية عن إيقاف التغطية بصورة نهائية، وهي كانت تدفع الفواتير في مهلة شهرين إلى ثلاثة أشهر في أقصى حد، وهو سيخلق أزمة صحية لأن وزارة الصحة اللبنانية لا تغطي استشفاء اللاجئ السوري أو الأجنبي”.
ويكشف عدرة عن “رفع الصوت ومطالبة المفوضية بعدم الوقف الفوري والمفاجئ للخدمات قبل إيجاد حلول بديلة، وإن لم يكن هناك إمكان للتغطية الشاملة، فلا بد من خطة لتأمين نفقة العمليات الحارة والطارئة إلى حين عودة الجميع لبلادهم”، ويوضح “نحن نتبع سياسة طوارئ إنسانية، إذ لا نسأل المريض عن الجهة الضامنة أو جنسيته وخلفيته قبل القيام بالإجراءات الضرورية والإسعافات الأولية… لكن نخشى من أزمة مالية في المستشفيات الحكومية في حال لم يتمكن المريض من تغطية الفاتورة”.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فيما يتحدث المحامي أسامة السبسبي، المتابع لملف السوريين في لبنان، عن ضرورة استمرار سياسة العودة الطوعية وتقديم الخدمات الأساسية للمتبقين في لبنان، مع تأكيد ضرورة عودة السوريين إلى بلادهم لإنهاء آثار الحرب، منوهاً ببقاء أعداد كبيرة من اللاجئين في لبنان لأسباب إنسانية، أو حتى اقتصادية، إذ تنحدر شريحة منهم إلى مناطق مدمرة، وتفتقر إلى البنى التحتية والخدمات الأساسية.
من ناحية أخرى يتحدث السبسبي عن تأثير واضح لرحيل السوريين، فقد “تراجعت أعداد العاملين في القطاع الزراعي والحرفي، وارتفعت كلفة الأجور، إذ يبحث مالكو الأراضي عن إجراء لحراثة الأرض وزراعتها وجنيها من دون أن يجدوا”، فيما “ارتفعت معدلات الأجور بنسبة كبيرة، ففي بلدة عكار (شمال لبنان) لا يوجد عامل زراعي بأجر يومي دون مستوى 20 دولاراً أميركياً، وهو ما يزيد كلفة الإنتاج”.
مسؤولية التمويل
تعزو الناطقة باسم مفوضية اللاجئين ليزا أبو خالد وقف التقديمات الصحية والاستشفاء إلى “الخفوضات الكبيرة في التمويل”، مشيرة إلى اضطرار المفوضية إلى التوقف عن دعم كلف الاستشفاء للاجئين، وتقول “يأتي ذلك بعد التخفيضات التدريجية التي اضطررنا إلى تنفيذها في برنامج الصحة خلال الأعوام الأخيرة… نحن ندرك الضغط الذي سيسببه هذا القرار على نظام الرعاية الصحية المثقل أصلاً، وعلى صحة اللاجئين الأكثر ضعفاً في جميع أنحاء البلاد، وكما تم إبلاغ وزارة الصحة العامة، فإننا ما زلنا ملتزمين العمل بصورة تعاونية للدعوة إلى توفير موارد إضافية وحلول بديلة حيثما أمكن”.
سياسة طويلة الأجل
حظي اللاجئون السوريون في لبنان بالدعم والخدمات منذ عام 2011، بواسطة المفوضية العليا للاجئين وجمعية دولية، وتشدد أبو خالد على “قيام المفوضية بما في وسعها على قدر الموارد المتاحة للوقوف إلى جانب لبنان في استضافته للاجئين”، معبرة عن حزنها بسبب الاضطرار إلى اتخاذ هذه القرارات الصعبة، لكن “في ظل غياب التمويل الكافي والمستدام، ليس لدينا خيار آخر، إذ لا يمكننا إنفاق موارد غير متوافرة لدينا”.
وتوضح التسلسل الزمني للقرارات “منذ العام الماضي، كانت المفوضية تطلع وزارة الصحة العامة – والحكومة بصورة عامة – بانتظام على أزمة التمويل التي نواجهها، للأسف واجهت المفوضية، إلى جانب المجتمع الإنساني بأسره، انخفاضاً كبيراً وسريعاً وغير متوقع في التمويل خلال عام 2025. وحتى أغسطس (آب) من العام الحالي لم يتجاوز تمويل مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في لبنان نسبة 26 في المئة… أما التوقعات التمويلية لعام 2026 فتبدو قاتمة بالفعل”.
تعبر ليزا بو خالد عن التزام المفوضية البقاء والعمل في لبنان على رغم هذه الأوقات الصعبة وغير المسبوقة، داعية مجتمع المانحين إلى الاستمرار وزيادة الدعم في هذه المرحلة الحرجة للغاية، قائلة “نعمل بلا كلل مع الشركاء لتأمين موارد إضافية لتوسيع نطاق الدعم، بما في ذلك للحالات الطارئة”.
عودة طوعية
شهد عام 2025 على بدء مغادرة أعداد كبيرة من السوريين إلى بلادهم، وقدرت وزيرة التنمية الاجتماعية في لبنان حنين السيد توجه نصف مليون سوري للعودة إلى بلادهم حتى نهاية العام. في الموازاة، تتطرق بو خالد إلى ملف التسجيل لدى المفوضية وشطب الآلاف من المستفيدين، إذ إنه “خلال عام 2025، تم شطب أكثر من 335 ألف فرد من سجلات التسجيل لدى مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في لبنان بسبب العودة، وغالبية هؤلاء كانوا قد عادوا حتى قبل تلقي دعم من المفوضية للقيام بذلك”.
كذلك تلفت إلى أنه “حتى منتصف صيف 2025، استفاد نحو 32 ألف شخص حتى الآن من برنامج العودة الميسرة الذي تديره المفوضية في لبنان، وحصلوا على منحة نقدية قدرها 100 دولار أميركي لكل شخص في لبنان لدعم عودتهم الآمنة والكريمة إلى الوطن. يشمل برنامج العودة تقديم الدعم النقدي وغيره من صور المساعدة من المفوضية وشركائها، لمساعدة الأسر على العودة والاستقرار في سوريا، إضافة إلى دعم النقل لمن يحتاج إليه”.

