حرب على الذاكرة… تدمير داخلي وخارجي لمحو تاريخ لبنان وبناء بلد آخر بلا ذاكرة
ما يحدث اليوم في نفق نهر الكلب الأثري أحد أهم الشواهد التاريخية
ربى أبو فاضل – “الديار”
لم يكن تاريخ لبنان يوما مجرد سردية وطنية تروى فحسب، بل طبقات متعاقبة من الحضارات تركت بصمتها على الحجارة والمعابد والمسارات القديمة التي نسجت هوية هذا البلد، غير أن هذه الذاكرة الممتدة لآلاف السنين تتعرض اليوم على أمتداد الاراضي اللبنانية، لاعتداءات ممنهجة تفقد المدن ملامحها وتطمس الذاكرة الجماعية، فبين البناء العشوائي وغياب التخطيط وضعف الرقابة، وتداخل المصالح السياسية والمالية، وصولا إلى الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة التي دمرت مواقع أثرية ودينية وتاريخية على امتداد العقود، كلها سلسلة حلقات في مشروع واحد، اقتلاع ذاكرة الأرض وإنشاء واقع جديد لا يشبه لبنان الذي عرفناه.
فالتعدي على المواقع التاريخية لم يعد مجرد مخالفة عمرانية أو تجاوز قانوني، بل تحول إلى جريمة ثقافية مكتملة الأركان، ترتكب بوعي أو بتجاهل قاتل، لتقويض الإرث العمراني والمعماري والإنساني الذي صاغ هوية البلاد، ورغم وجود عشرات القوانين والاتفاقيات الدولية التي تلزم الدولة بالحماية، تستمر المخالفات بلا رادع، فيما تتوسع ورش البناء في محيط مواقع يفترض أن تكون محمية بشكل صارم، لتتحول المخالفة من تجاوز قانوني إلى تشويه بصري وثقافي حقيقي.
ولعل أبرز تجسيد لهذه الأزمة ما يحدث اليوم في نفق نهر الكلب الأثري، أحد أهم الشواهد التاريخية في لبنان، فعلى بعد أمتار قليلة من اللوحات المنقوشة التي توثق تعاقب إمبراطوريات على الأرض اللبنانية، والمصنفة عالميا لدى اليونسكو، ترتفع منشآت إسمنتية نافرة، وتصب كتل باطون، نافرة وبناء، في مشهد يهدد سلامة الصخور التي تحمل هذه الشواهد النادرة، هذا ليس مجرد خطأ هندسي، بل تشويه بصري وقانوني فاضح.
وفي هذا السياق أكدت النائبة نجاة عون صليبا أن “الورشة التي تقام على جسر نهر الكلب تشكل تهديدا مباشرا لهذا المعلم التراثي الفريد، الذي حمل آثار حضارات عبر آلاف السنين، ولا تجوز تغطيته بالباطون” وأشارت إلى أنها تواصلت مع وزير الثقافة ورئيس الحكومة، وطلبت من كل الجهات المعنية التدخل فورا لإيقاف العمل، وختمت بالدعوة إلى “تضافر جهود الجميع، ناشطين ومهتمين بالتراث، للضغط على الجهات المعنية وإيقاف هذه التعديات، وصون جسر نهر الكلب من التشويه والمحافظة على هويته التاريخية”.
من جانبه أكد الناشط البيئي بول أبي راشد رئيس جمعية الأرض لبنان لـ “الديار” أن “البناء ضمن حرم المواقع الأثرية يحمل آثارا بيئية خطرة، تشمل تشويه المشهد الطبيعي والبصري، إذ تصنف هذه المواقع دوليا كمشاهد ثقافية، وأي منشأة حديثة وسطها تفقد المكان أصالته وقيمته الجمالية، كما تهدد عمليات الحفر والصب الطبقات الأرضية التاريخية، ما يعني فقدان سجل طبيعي وثقافي يمتد إلى آلاف السنين، وزيادة مخاطر الانهيارات والتشققات في الصخور الهشة التي بنيت عليها غالبية هذه المواقع”، مشيرا إلى أن “هذه الأعمال قد تدمر الموائل الطبيعية المحيطة وتزعزع التوازن البيئي، بالإضافة إلى التلوث البصري والثقافي الذي يقلل من قيمة الموقع محليا وعالميا، ويهدد إمكان تصنيفه ضمن قائمة التراث العالمي”.
وأكد أبي راشد إلى أن ” حماية المواقع الأثرية مسؤولية مشتركة بين وزارة الثقافة للترخيص والحماية، ووزارة البيئة لضمان دراسة الأثر البيئي، والقضاء لوقف المخالفات، والبلديات للإشراف المحلي، بالإضافة إلى المجتمع المدني والجمعيات البيئية كمراقب أول عند تقاعس الجهات الرسمية”.
ويضيف أبي راشد: “يؤدي المجتمع المدني والجمعيات البيئية دورا أساسيا في حماية التراث، بالمراقبة والتوثيق، وتقديم شكاوى رسمية وفق قانون البيئة رقم 444/2002، وممارسة الضغط الإعلامي والحقوقي لضمان وقف التعديات وتحميل المخالفين مسؤوليتهم، مستفيدين من خبرائهم لتقييم المخاطر وإعداد التقارير، مع التأكيد أن التراث ملك الشعب كله ويجب الدفاع عنه كقضية وطنية.”
ويؤكد مصدر في وزارة الثقافة على أن “حماية التراث الثقافي والتاريخي للبنان مسؤولية وطنية وقانونية، وأن أي تعد على المواقع الأثرية أو البناء فوقها يعد مخالفة صريحة للقوانين النافذة، خصوصاً قانون حماية الآثار والتراث رقم 65/2017” مضيفا أن “الوزارة تتابع عن كثب التعديات وتعمل على توثيقها، وتتعاون مع القوى الأمنية والبلديات لاتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة”.
يشار إلى أن وزير الطاقة والمياه جو الصدي قام الشهر الماضي بجولة تفقدية إلى نهر الكلب وأوضح أن الوزارة أنجزت لائحة مفصلة بالتعديات على النهر وأُرسلت إلى وزارة الداخلية، مؤكداً “ضرورة معالجتها فوراً لأنها تقضم ثلث مجرى النهر”.
ولا يقتصر التعدي على جسر نهر الكلب، فعدد كبير من المواقع الأثرية اللبنانية يشهد تعديات مماثلة، من بناء فوق الآثار الرومانية في بيروت، إلى إزالة أجزاء من القلاع التاريخية في الشمال، مرورا بالتعديات على المقابر والمعابد القديمة في الجنوب، وتشير دراسات محلية ودولية إلى أن غياب الرقابة الفعلية، وغياب إرادة سياسية قوية، ساهم في توسع هذه الظاهرة، حتى أصبحت بعض المواقع مهددة بفقدان هويتها بالكامل.
كما تأتي الاعتداءات الإسرائيلية لتضيف بعدا آخر من التدمير الممنهج للذاكرة اللبنانية، فمنذ عام 1978 وصولا إلى العدوان الاسرائيلي على لبنان عام 2024 والمستمر إلى اليوم، استهدفت إسرائيل عبر قصف دقيق مواقع أثرية ودينية وتاريخية في مناطق متعددة من لبنان، بما في ذلك كنائس قديمة، أديرة، ومواقع رومانية قرب صور، إضافة إلى أجزاء من القلاع التاريخية في الجنوب، في سياسة يصفها باحثون بأنها تهدف إلى قطع الجذور الثقافية وتفريغ الهوية من رمزيتها، ما يزيد من تعقيد مهمة حماية التراث الوطني في ظل غياب التنسيق الدولي والمحلي.
قد يبدو التشبيه قاسياً، لكنه واقعي، فالبناء فوق مواقع أثرية، أو تساهل بلديات ووزارات مع تعديات بصمت باسم التنمية، لا يختلف جوهرياً عن الغارات الإسرائيلية، فكلاهما يمحو ذاكرة لبنان ويقترب به من أن يصبح بلدا بلا تاريخ.
ويشير خبراء الاجتماع إلى أن التعديات على المواقع الأثرية لا تهدد التراث والبيئة فحسب، بل تمس أيضا الهوية المجتمعية المشتركة، فعندما يدمر موقع أثري، يفقد المجتمع رابطا رمزيا بين أفراده، وتبدأ الذاكرة الجماعية بالتآكل، وينمو الشعور باللاانتماء والاغتراب عن المكان، ويترجم هذا الواقع إلى انقسامات ثقافية متزايدة، وتفسيرات متناقضة للماضي، وفقدان القدرة على بناء سردية وطنية موحدة، ما يجعل حماية المواقع التاريخية مسألة حيوية ليس فقط للتراث، بل لصون النسيج الاجتماعي للبنان.
ولحماية التراث اللبناني وضمان صون المواقع الأثرية، يطالب خبراء وناشطون بتطبيق عدة إجراءات عاجلة، تشمل تجميد كل الأعمال العمرانية داخل نطاق 500 متر من المواقع التاريخية لحين إجراء دراسة أثرية إلزامية، وزيادة عدد مفتشي الآثار عبر التعاقد الطارئ وبتمويل من منظمات دولية معنية، ووضع كاميرات مراقبة في المواقع الحساسة مثل نهر الكلب وجبيل وصور، وإطلاق خريطة رقمية وطنية للمواقع الأثرية وتفعيل بلاغات الجمهور عبر تطبيق رسمي، وتشديد العقوبات على المخالفين واعتبار التعدي على المواقع التراثية جناية لا جنحة، وإدراج مواقع إضافية على لائحة التراث العالمي لمنحها حماية دولية، بما يضمن صون التراث وحفظ الهوية الثقافية والاجتماعية للبنان.
وتأتي هذه التوصيات كدعوة عاجلة للعمل قبل فوات الأوان، فلبنان اليوم أمام مفترق طرق، إما حماية ذاكرته وحضاراته، أو السماح لطبقات الباطون والدمار أن تطمر إرثا يمتد الى آلاف السنين، وينشئ جيلًا في بلد بلا شواهد، بلا أماكن تحكي تاريخ من مر من هنا، بلا ذاكرة، وبلا هوية ولا حتى مستقبل.
يشار إلى أن لبنان من أكثر الدول غنى بالمواقع الأثرية، إذ يضم أكثر من 18 ألف موقع أثري مسجل أو محتمل، ومع ذلك، يتعرض الكثير منها إلى تشويه بصري واعتداءات عمرانية خطرة، بالإضافة إلى تهديدات مباشرة نتيجة الاعتداءات من قبل العدو الاسرائيلي.

