لم يعد التهديد الأكبر الذي يواجه أبناءنا مختبئا في الأزقة المظلمة؛ لقد أصبح موجودا في جيوبهم على بعد ضغطة واحدة، فبينما يواصل الأردن تقدمه في مؤشرات التنافسية الرقمية وانتشار الذكاء الاصطناعي بين القوى العاملة، يزداد الفضاء الإلكتروني ازدحاما وتعقيدا، ليظهر العنف الرقمي بوصفه تحديا يمس الأمن الإنساني ويستدعي تحولا في منهجية المواجهة، فالتحول الرقمي في المملكة -المدعوم بتنفيذ استراتيجية التحول الرقمي 2026–2028 واستراتيجية الذكاء الاصطناعي 2023–2027- خلق بيئة رقمية متقدمة، لكنه في الوقت نفسه كشف الحاجة إلى منظومة حماية أكثر مرونة، تستبق التهديدات بدل الاكتفاء برد الفعل.
البيئة الرقمية الحالية قوية على مستوى البنية التحتية والخدمات والهوية الرقمية، إلا أن الفجوة الحمائية لا تزال تمثل تحديا، خاصة مع زيادة تعرض المراهقين لمظاهر التنمر والتحرش الإلكتروني، ومع استمرار تغير أنماط العنف بوتيرة أسرع من التشريعات، إذ يصبح السؤال الملح: هل يمكن للأردن أن يطور نموذجا استباقيا يحول هذا الخطر إلى فرصة؟ والإجابة تكمن في بناء منظومة وطنية تعمل على مستويات متوازية، تتكامل فيها الجهات الأمنية والمجتمعية والتربوية والتقنية.
الخطوة الأولى تبدأ ببروتوكول وطني موحد للإبلاغ والاستجابة، يربط المركز الوطني للأمن السيبراني والجهات الأمنية والاجتماعية عبر مسار واضح للضحايا، ما يقلل زمن التعامل مع الحالات ويضمن كفاءة الاستجابة، وبالتوازي يصبح التمكين المجتمعي عنصرا محوريا، من خلال حملات توعية رقمية موجهة للفئات الأكثر هشاشة، بلغة قريبة من الجيل زد وبمحتوى يرسخ مهارات السلامة الرقمية، وصولا إلى بناء وعي يقي قبل أن يعالج.
وعلى المستوى التشريعي يشكل قانون حماية البيانات الشخصية رقم 24 لسنة 2023 نقلة مهمة، لكنه يظل خطوة أولى، فالتطور السريع لأساليب العنف من انتحال الهوية باستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي، إلى التصيد العاطفي وإلى الابتزاز عبر التلاعب بالصور، يستدعي إطارا قانونيا مرنا يلاحق المستجدات ويستند إلى أدلة رقمية واضحة، مع تعزيز دور الحوكمة الرقمية والمشاركة الإلكترونية لضمان شراكة المجتمع في صياغة قواعد الاستخدام الأخلاقي.
وفي الوقت نفسه يمكن للتقنيات ذاتها أن تصبح جزءا من الحل، فخوارزميات الذكاء الاصطناعي القادرة على تحليل الأنماط السلوكية تتيح للأردن تطوير أنظمة إنذار مبكر تلتقط مؤشرات الخطر قبل أن تتفاقم، بشرط وضع معايير صارمة تحمي الخصوصية وتجعل المستخدم شريكا في الحل لا ضحية للرقابة، وتعزز هذه الرؤية مشاريع الاستراتيجية الوطنية للذكاء الاصطناعي التي تشمل 68 مشروعا في 12 قطاعا، ما يفتح الباب أمام تعاون بين الجهات الحكومية والجامعات والقطاع الخاص لتطوير حلول محلية مبتكرة.
ويبقى العنصر التعليمي حجر الزاوية، فدمج مهارات الأمن السيبراني والوعي الرقمي في المناهج والاستفادة من منصات مثل “سراج”، ودعم الشمول الرقمي من خلال محطات المستقبل، كلها خطوات قادرة على بناء جيل رقمي ناضج يتعامل مع الفضاء الإلكتروني بوعي ومسؤولية، ويشكل خط دفاع أول في مواجهة التهديدات.
حتى تكتمل الصورة يحتاج الأردن إلى خارطة طريق واضحة نحو 2030، تبدأ بمرحلة تأسيسية تبنى فيها التشريعات والمنصات، تليها مرحلة تمكينية للوعي والتدريب، ثم مرحلة ريادية يتحول فيها الأردن إلى مركز إقليمي للنماذج الرقمية الآمنة، ومع توفر 57 مشروعا في استراتيجية التحول الرقمي، تبدو الأدوات جاهزة؛ ويبقى الرهان على التكامل والإرادة والرؤية الاستباقية.
هكذا يتحول العنف الرقمي من تهديد متصاعد إلى فرصة لبناء مجتمع رقمي أكثر نضجا وصلابة، ويصبح الأردن قادرا على قيادة نموذج إقليمي يعزز الأمن الإنساني الرقمي ويستثمر قوة التكنولوجيا بدل أن يخشى مخاطرها، وإذا كان المستقبل رقميا فمن الأفضل أن نصنعه بأنفسنا بدل أن ننتظره.

