في كل مناسبة وطنية يظهر المجتمع المقاوم في لبنان ليؤكد حضوره ورسالته، في الزمن الذي تختبر فيه البلاد كل أنواع الضغوط. حيث يكشف في كل مرة عن العمق والوعي الذي يتمتع فيه، ويعيد التأكيد على أنّ ما يُقال عنه من محاولات تشويه أو حملات تشكيك لا يتجاوز كونه ضجيجاً عابراً لا يصمد أمام المشاهد الحية.
من بين تلك اللحظات البارزة، كان الحدث الذي رافق زيارة البابا لاوون الرابع عشر إلى لبنان، وما حمله من صورٍ لافتة وارتدادات اجتماعية وإعلامية، خصوصاً في الضاحية الجنوبية لبيروت. حيث المشهد لم يكن عادياً، لا من حيث حجم المشاركة الشعبية ولا من حيث طبيعتها، إذ سجلت جمعية كشافة الإمام المهدي حضوراً لافتاً في استقبال البابا على طريق المطار ومختلف طرقات الضاحية -التي ما زالت مشاهد الدمار واضحة فيها-، إلى جانب الأهالي الذين توافدوا بأعداد كبيرة رغم الطقس الماطر. رفعت الصور والأعلام، واصطفّ الشبان والفتيات على جانبي الطريق، في مشهد يختلط فيه الانضباط الكشفي مع العفوية الشعبية التي تميّز مجتمع المقاومة.
اللافت في هذا الاستقبال كان الخطاب الواعي الذي أفصح عنه المشاركون خلال المقابلات المباشرة معهم. في وسط هذا المشهد الذي اعتادت بعض الجهات أن تقرأه من زاوية واحدة، جاءت كلمات هؤلاء الشباب لتقدّم صورة مختلفة. بعضهم تمنى للبابا “رحلة جميلة في لبنان”، فيما توقّف آخرون عند معنى الزيارة، معتبرين أنها مثال واضح على العيش المشترك وأن لبنان، بكل أطيافه، هو بلد لجميع أبنائه. لم تكن هذه الجمل مجاملة عابرة، بل تعبيراً فطرياً عن ثقافة متجذّرة في هذا المجتمع، الذي يتهم أحياناً “بالانغلاق والتصلب”، في حين أنه يُظهر، عند كل مناسبة، وعياً وطنياً قلّ نظيره.
هذه الصورة تزداد أهمية عندما توضع في سياق السنوات الماضية، بكل ما حملته من حملات سياسية وإعلامية ضد الضاحية وأهلها، ومحاولات متكررة لتصوير هذا المجتمع وكأنه يعيش في قطيعة مع باقي اللبنانيين أو غير معنيّ بالمناسبات الجامعة -أو كما صوره بعض الإعلام من فترة بأنه مجتمع مؤدلج تسيطر عليه أفكار التفرقة-. ومع ذلك، بقي هذا المجتمع يقوم بواجباته، من دون تردّد أو مزايدة، وبقي حاضراً حيث يُطلَب منه أن يكون، وبقي قادراً على الفصل بين الخلافات السياسية وبين المبادئ الوطنية والأخلاقية.
حيث وقف أهالي الضاحية بكل فئاتهم على الطرقات، يلوّحون بأعلام الفاتيكان، ويستقبلون الموكب البابوي رغم الطقس القاسي -ولم يظهر أي دليل على تعصب هؤلاء الناس إلى معتقدات أو أفكار واحدة-.
أما على المستوى السياسي، فقد استقبل البابا وفداً من حزب الله برئاسة رئيس كتلة الوفاء للمقاومة النائب محمد رعد في القصر الجمهوري. هذا اللقاء حمل رسائل واضحة، أبرزها أن الحزب لا يزال جزءاً أساسياً من المعادلة اللبنانية، وأنه يتعامل مع المناسبات الوطنية والدينية بجدية ومسؤولية تفوق ما يقوم به كثير من الأطراف الذين يدّعون احتكار التمثيل أو الحرص على الدولة. ومن الواضح أيضاً أن الحزب يحرص، عند كل محطة، على توظيف المناسبات الكبرى لشرح ما يتعرّض له لبنان من اعتداءات إسرائيلية، ونقل صورة الواقع إلى كل الجهات المعنية، بما في ذلك الفاتيكان الذي يتمتع بتأثير معنوي وروحي كبير على المستوى العالمي.
إن الاهتمام الذي أبداه الحزب بالزيارة، إلى جانب المشاركة الشعبية الواسعة، يعكس استمرار حضور المقاومة في الوجدان اللبناني، وقدرتها على الجمع بين الدور الوطني وبين الدور الدفاعي، من دون أن تضحي بأحدهما على حساب الآخر. كما يعكس قدرة هذا المجتمع على تقديم نموذج متوازن حيث يواجه هذا المجتمع التهديدات من جهة، ويحافظ على التعددية والعلاقات الجامعة من جهة أخرى، من دون أن يسمح للحملات التحريضية بقطع هذا الخيط الدقيق.
في النهاية، قد لا تغيّر هذه المشاهد موقف من يتعمّد تجاهل حقيقة المجتمع المقاوم، لكنها بالتأكيد تعزّز سردية أخرى أكثر صدقاً وارتكازاً على الواقع. سردية تقول إن المقاومة ومجتمعها ليسا منعزلَين، ولا غارِقَين في خطاب واحد أو رؤية واحدة، وليسا مُحتَلَّين من أي جهة أخرى -كما يصفهما بعضُ المحتَلّين عقلياً-. والجميل في هذا المجتمع هو حضوره المتوازن في مختلف الميادين، ومحاولته الدائمة للإصلاح، ونبذ الفتنة، وحماية لبنان.

