قلة من الشخصيات أثارت جدلًا عالميًا بقدر ما فعل جورج سوروس الذي يتردد اسمه في محافل الاقتصاد والسياسة.
فهو الملياردير المجري- الأميركي الذي وُسم بنظريات المؤامرة التي تعتبره رجل الظل في أحداث سياسية واقتصادية عالمية.
يتهمه البعض بدعم أجندات سياسية يسارية وليبرالية، وبمحاولة فرضها على دول أخرى من خلال تمويل منظمات غير حكومية.
يقف الرجل في المنتصف، بين اليمين واليسار، لكنه مناهض للتيار اليميني في أوروبا وأميركا. وبحسب الكاتب الألماني هانيس غراسيغير، فإن “اليمين المتشدد يكره سوروس لأنه يهودي، واليسار يكرهه لأنه رأسمالي”، وفقًا لهيئة الإذاعة البريطانية.
من هو جورج سوروس؟
وُلد جورج سوروس عام 1930 في المجر لعائلة يهودية، ونشأ في ظل الاحتلال النازي بين عامي 1944 و1945.
كان والده تيفادار سوروس محاميًا ومؤلفًا، فيما كانت والدته إليزابيث تنتمي لعائلة يهودية ثرية. ويخبر أن عائلته نجت من القتل على يد النازيين لأنها تمكنت من إخفاء أصولها عبر الحصول على أوراق هوية مزورة.
ويُنقل عن سوروس قوله: “لم ننجُ فحسب، بل تمكنا أيضًا من مساعدة الآخرين”.
ومع ترسيخ الشيوعيين لسلطتهم في المجر بعد الحرب، غادر سوروس بودابست عام 1947 إلى لندن، وعمل بدوام جزئي كحمّال في السكك الحديدية ونادل في ملهى ليلي بينما كان يتابع دراسته في كلية لندن للاقتصاد.
ثم هاجر إلى الولايات المتحدة في عام 1956 ودخل عالم المال والاستثمار، حيث جمع ثروته.
وبعد 14 عامًا فقط، في عام 1970، أطلق صندوقه التحوطي الخاص، وأصبح من أنجح المستثمرين.
“مؤسسات المجتمع المنفتح”
وفي منتصف ثمانينيات القرن الماضي، وانطلاقًا من المجر، استخدم سوروس ثروته لبناء شبكة من المؤسسات الخيرية التي تُعرف باسم “مؤسسات المجتمع المنفتح”، وهو اسم يظهر تأثر سوروس بالفيلسوف النمساوي-الإنكليزي المتخصص في فلسفة العلوم كارل بوبر.
يعتبر الفيلسوف في كتابه “المجتمع المنفتح وأعداؤه”، أنه لا توجد فلسفة أو أيديولوجية تُحدد الحقيقة بشكل قاطع، وأن المجتمعات لا تزدهر إلا عندما تُتيح الحوكمة الديمقراطية وحرية التعبير واحترام الحقوق الفردية.
أطلق سوروس صندوقه التحوطي الخاص في عام 1970 بعد أن هاجر إلى الولايات المتحدة- مؤسسات المجتمع المنفتح
التقى سوروس ببوبر لأول مرة عندما كان طالبًا في كلية لندن للاقتصاد.
وكما يورد موقع “مؤسسات المجتمع المنفتح”، بدأ جورج سوروس عمله الخيري عام 1979، بتقديم منح دراسية للسود في جنوب إفريقيا خلال فترة نظام الفصل العنصري.
وفي ثمانينيات القرن الماضي عمل على تمويل زيارات أكاديمية من المجر إلى الغرب ودعم مجموعات ثقافية مستقلة ناشئة.
وبعد سقوط جدار برلين، أنشأ جامعة أوروبا الوسطى كمساحة لتشجيع التفكير النقدي، الذي كان آنذاك مفهومًا غريبًا على معظم جامعات الكتلة الشيوعية السابقة.
ومع انتهاء الحرب الباردة، وسّع نطاق الأعمال الخيرية تدريجيًا ليشمل إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية والولايات المتحدة. وبحسب مؤسسات سوروس، “كان يدعم الجهود الجديدة الرامية إلى بناء مجتمعات أكثر مساءلة وشفافية وديمقراطية”.
وكان من أوائل الأصوات البارزة التي انتقدت الحرب على المخدرات، حيث وصفها بأنها “أكثر ضررًا من مشكلة المخدرات نفسها”، وساهم في انطلاق حركة الماريوانا الطبية الأميركية. وفي أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أصبح داعمًا قويًا لجهود زواج المثليين.
دعم سوروس المنظمات المستقلة مثل غلوبال ويتنس، ومجموعة الأزمات الدولية، والمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، ومعهد الفكر الاقتصادي الجديد.
حصل على دكتوراه فخرية من جامعات ييل وأكسفورد وكورفينوس بودابست. وانتُخب زميلًا فخريًا في الأكاديمية البريطانية. كما اختارته، صحيفة فاينانشال تايمز شخصية العام 2018 لمناصرته الديمقراطية.
وفي عام 2025، منحه الرئيس بايدن وسام الحرية الرئاسي، وهو أعلى وسام مدني أميركي، وذلك “تقديرًا لجهوده طوال حياته في تعزيز المجتمع المفتوح والديمقراطية وحقوق الإنسان في جميع أنحاء العالم”.
أعلنت مؤسسات المجتمع المفتوح، في عام 2017، أن سوروس حوّل 18 مليار دولار من ثروته لتمويل العمل المستقبلي للمؤسسات، ما رفع إجمالي عطائه للمؤسسات منذ عام 1984 إلى أكثر من 32 مليار دولار.
وفي يونيو/ حزيران 2023، سَلّمَ الملياردير الأميركي، جورج سوروس، إدارة إمبراطوريته المالية والتي تبلغ قيمتها 25 مليار دولار لابنه أليكس. وأكّد الوالد في مقابلة مع صحيفة “وول ستريت جورنال”، أنّ ابنه “استحقها بجدارة”.
“نظرية الانعكاسية”
اشتهر سوروس بنظريته الاقتصادية المعروفة باسم “نظرية الانعكاسية” وهي نظرية تحاول فهم تفاعل الأسواق المالية مع تصورات المشاركين فيها.
ويرفض سوروس فكرة أن الأسواق دائمًا تعكس معلومات دقيقة وعقلانية. ويرى أن تحركات الأسواق تتأثر بشكل كبير بتوقعات وآراء المشاركين، والتي قد تكون غير عقلانية.
كما ويفترض أن هناك حلقات ردود فعل بين تصورات المشاركين وأحداث السوق. يمكن أن تؤدي هذه الحلقات إلى دورات من الازدهار والانهيار، حيث تعزز التوقعات الإيجابية ارتفاع الأسعار، والتوقعات السلبية تؤدي إلى انخفاضها.
كما يرى سوروس أن الأسواق تميل إلى عدم الاستقرار والتوازن، وأنها عرضة للأزمات والصدمات. ويؤمن بأن فهم هذه الدورات قد يساعد المستثمرين على اتخاذ قرارات أفضل.
كذلك يعتبر أن التحيزات النفسية تلعب دورًا هامًا في الأسواق وتجعلها في كثير من الأحيان غير عقلانية.
اشتهر سوروس بنظريته الاقتصادية المعروفة باسم “نظرية الانعكاسية”- مؤسسات المجتمع المنفتح
أي تأثير على السياسات الاقتصادية؟
وفيما يرى البعض أن سوروس مستثمر ناجح يدرك فن اقتناص الفرص، يتهمه آخرون بالتأثير على السياسات الاقتصادية في بعض الدول والدفع لأزمات “مفتعلة”.
يُحمّل سوروس مسؤولية إفلاس البنك المركزي في بريطانيا في عام 1992، ويزعم أنه قد استدان، بجانب محللي عملة آخرين، مبالغ بالجنية الاسترليني، ثم باعها، ما تسبب في تراجع سعر العملة في السوق، وأجبر المملكة المتحدة على السحب من آلية التبادل الأوروبية.
وبحسب هيئة الإذاعة البريطانية، فقد حقق سوروس أرباحًا بقيمة مليار دولار جراء هذه العملية. ويرجح البعض أن توقعات الملياردير بشأن قيمة العملة ساهمت بجمعه ثروة تتخطى الـ40 مليار دولار.
وفي عام 1997، وخلال الأزمة المالية في آسيا، راهن سوروس على انخفاض العملات في تايلاند وماليزيا، وحقق أرباحًا ضخمة. وقد اتُهم آنذاك بإشعال الأزمة، بحسب جامعة “هارفرد”. لكنه نفى ذلك، مشيرًا إلى أن سياسات الحكومات نفسها كانت السبب.
نظريات المؤامرة المرتبطة بسوروس
تصاعدت نظريات المؤامرة المرتبطة بسوروس في عام 2003، بعد أن أدان الغزو الأميركي للعراق. وبحسب “ميل آند غارديان”، أعرب جورج سوروس، عن رفضه لقرار الرئيس الأميركي جورج بوش اتخاذ إجراء عسكري “استباقي” ضد العراق.
وقال حينها خلال زيارة لجمهورية أذربيجان السوفيتية السابقة: “لست متأكدًا تمامًا من إمكانية فرض الديمقراطية بالقوة”. وأضاف: “إن الولايات المتحدة تواجه العديد من المشاكل في العراق، ولا يسعني إلا أن آمل أن لا يؤدي ذلك إلى إبعادنا عن طرق أخرى أكثر إبداعًا وإيجابية لبناء الديمقراطية”.
ورغم أن سوروس استثمر مبكرًا في شركات التكنولوجيا مثل “ألفابيت” و”غوغل” و”تسلا”، لكنه وجّه في عام 2018 انتقادات حادة لشركتي “فيسبوك” و”غوغل” واعتبر أنهما تمثلان “تهديدًا للديمقراطية”.
وأثناء العشاء السنوي الذي نظمه الملياردير على هامش منتدى دافوس الاقتصادي، قال إن وسائل التواصل الاجتماعي تعد “معوقات للإبداع”.
وفي ذلك الحين رأى أن إدارة دونالد ترمب تمثّل “خطرًا” على العالم. واعتبر أن لشركات الإنترنت العملاقة تأثيرًا “غير مسبوق وقدرة فائقة على التغيير”، بحسب هيئة الإذاعة البريطانية.
مؤامرات معادية للسامية
تصاعدت نظريات المؤامرة ضد سوروس في عهد ترمب الأول في الإدارة الأميركية. فسوروس هو من أبرز داعمي الحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة عبر مساهمته في تمويل الحملات الانتخابية الخاصة به، ولذلك يُتهم بالتدخل في السياسة الأميركية.
ففي عام 2018، زعمت منشورات غاضبة أن سوروس كان يُساعد قوافل المهاجرين المتجهة إلى الولايات المتحدة انطلاقًا من الحدود المكسيكية. وفي أكتوبر/ تشرين الأول من ذلك العام، وُضع طرد مفخخ في صندوق البريد الخاص بالمنزل الريفي لسوروس في إحدى ضواحي نيويورك.
كما أصبح سوروس محور مؤامرات معادية للسامية، إذ اتُهِم بأنه مدبر “مؤامرة إبادة البيض” التي انتشرت في الولايات المتحدة حينها.
وفي عام 2020، اتُّهم سوروس بتدبير وتمويل الاحتجاجات على قتل الشرطة للسود، التي هزت الولايات المتحدة في ذلك الحين.
بدأت الحملة المناهضة لسوروس مع اندلاع مظاهرات في جميع أنحاء الولايات المتحدة احتجاجًا على مقتل جورج فلويد على يد شرطة مينيابوليس. يصر البعض على أن سوروس موّل الاحتجاجات، بينما يقول آخرون إنه تواطأ مع الشرطة لتزييف وفاة فلويد.
وقد تزامنت تلك الادعاءات مع حملة جابت مواقع التواصل الاجتماعي تدعو السلطات إلى “التحقيق مع جورج سوروس بتهمة تمويل الإرهاب المحلي وفساده المستمر منذ عقود”، وفق ما أوردت وكالة “أسوشيتد برس”.
وفي مارس/ آذار الحالي، ألقى مالك منصة “إكس” وشركة “تسلا” للسيارت الكهربائية باللوم على مجموعة من المتبرعين الديمقراطيين، ومن بينهم سوروس، في الاحتجاجات وأعمال التخريب التي نُظمت في صالات عرض “تسلا” احتجاجًا على دوره في الإدارة الأميركية الجديدة بقيادة دونالد ترمب.
جورج سوروس وغزة
أكثر من ذلك، فقد زعم ماسك أن سوروس يدعم حركة المقاومة الإسلامية حماس ويهدد “أمن إسرائيل”.
ولا يعد ذلك غريبًا، فقد اتهمه مسؤولون إسرائيليون بأنه معاد لإسرائيل. ففي عام 2017، قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الإسرائيلية إيمانويل نحشون: “جورج سوروس يعمل باستمرار على تقويض الحكومات المنتخبة ديمقراطيًا في إسرائيل”، مضيفاً أن سوروس يمول منظمات “تشوه سمعة الدولة اليهودية وتسعى إلى حرمانها من حق الدفاع عن نفسها”.
كما دفع ميكي زوهار، عضو الكنيست من حزب الليكود في عام 2017، بمشروع قانون يهدف لتقييد مصادر التمويل للمنظمات غير الحكومية الإسرائيلية، وقد أُطلق عليه اسم “قانون سوروس”، بحسب صحيفة “العربي الجديد”.
وتورد وثيقة نُشرت على موقع الكونغرس الأميركي بتاريخ 13 يونيو/ حزيران 2024، أن مجلس النواب الأميركي أدان “الفوضى والتمرد في الجامعات، وجورج سوروس وكل من يمول المجموعات التي تقف وراء الاحتجاجات (الرافضة للعدوان على غزة)”، مع دعوة “جميع السياسيين والأحزاب السياسية من جميع الأيديولوجيات إلى رفض قبول أي مساهمات لأي من المنظمات والكيانات التي تمول الأعمال المعادية لأميركا والمظاهرات المعادية للسامية”.
فقد عارض جورج سوروس السياسات الإسرائيلية والأميركية تجاه الفلسطينيين، وتحديدًا رفض مشاركة حماس في الحكومة الفلسطينية.
حضور عالمي
وبحسب المنتدى الاقتصادي العالمي، تعمل مؤسسات سوروس في أكثر من 120 دولة. وتتمحور أنشطتها حول دعم الديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية، وفق ما تعلنه الموسسات عبر موقعها الإلكتروني. ونظرًا لتركز أعمال سوروس في بلدان تشهد تحولات سياسية أو تواجه تحديات في مجال حقوق الإنسان والديمقراطية فقد كان عرضة للانتقاد والاتهامات.
ففي مارس/ آذار الحالي، أفادت وكالة الأنباء الهندية أن مديرية الإنفاذ الهندية أجرت عمليات تفتيش في مكاتب مؤسسة المجتمع المفتوح المدعومة من جورج سوروس والكيانات المرتبطة بها كجزء من تحقيق مستمر بموجب قانون إدارة النقد الأجنبي.
وبحسب موقع “بزنس ستاندرد”، تتعلق القضية باستثمارات أجنبية مباشرة مزعومة من قِبل مؤسسة سوروس، واستخدام بعض المستفيدين لهذه الأموال في انتهاك مزعوم لإرشادات الوكالة الفيدرالية لإدارة الطوارئ، وفقًا للتقرير.
ومؤخرًا، تقدم ثلاثة محامين بإخبار ضد كل من مؤسستي “درج” و”ميغافون” الإعلاميتين في لبنان، بتهمة تلقي تمويل من جورج سوروس الذي يسعى، بحسب تقارير إعلامية محلية، إلى “الفتك بالاقتصاد اللبناني”.
معارض لبوتين
حظرت روسيا منظمة سوروس في عام 2015، واتهمته بمحاولة تقويض القيم الروسية. فسوروس هو من أبرز داعمي أوكرانيا ضد النفوذ الروسي. ففي فبراير/ شباط 2022، اعتبر سوروس “أن الاجتياح العسكري الروسي لأوكرانيا ربما يكون البداية لحرب عالمية ثالثة”.
ورأى أن الحرب في أوكرانيا جزء من صراع أوسع بين المجتمعات المنفتحة والمجتمعات المنغلقة مثل الصين وروسيا.
وقال الملياردير الأميركي “إن الطريقة الأفضل وربما الوحيدة للحفاظ على حضارتنا هي هزيمة بوتين في أسرع وقت ممكن وهذه خلاصة القول”.
وفي المجر، شنّ رئيس الوزراء فيكتور أوربان حملة ضده، متهمًا إياه بالسعي “لإغراق البلاد بالمهاجرين”.
كما وصفت وسائل إعلام صينية الملياردير الأميركي بأنه “يمثل القيم الغربية التي تهدد النظام الصيني”.
يظل سوروس شخصية مثيرة للجدل، إذ يراه البعض رمزًا للرأسمالية العالمية، وشخصية تتلاعب بالأسواق المالية لتحقيق مكاسب شخصية، فيما يعتبره البعض الآخر مدافعًا عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، وداعمًا للمجتمع المدني في جميع أنحاء العالم. لكن الجميع يتفقون على أن الرجل مؤثر حقًا.