بمناسبة اليوم العالمي للمرأة، نُظّمَ معرضان لفنانتين طليعيتين في مؤسستين في باريس. المعرضان فتحا النقاش حول نوع الحماية التي تحتاجها نساء اليوم، وهل هنّ في حاجة أصلًا للحماية؟
ففي متحف مايول، يُختتم معرض بعنوان “ناديا ليجيه: امرأة طليعية”. المعرض جاء ليكرّس الفنانة ناديا بصفتها فنانة، وليس فقط زوجة ومساعدة ووصيّة على إرث فرناند ليجيه. وفي مركز بومبيدو، افتتح معرضٌ بعنوان “سوزان فالادون/ Susanne Valadon: ملحمة معاصرة”، وهو معرضٌ استعادي ضخم حقًا جاء ليكون الأول من نوعه في باريس.
في معرض ناديا ليجيه، يُعرض كلّ شيء، بدءًا من صور ستالين مع الأطفال، المستمدّة بالكامل من روح الواقعية الاشتراكية، وصولًا إلى الدبابيس التي راحت الفنانة تصنعها مع دخولها مرحلة الشيخوخة. أمّا في معرض مركز بومبيدو، فكانت هنالك كثير من اللوحات المخصصة للفنانة سوزان فالادون، التي كانت ترسمها بانتظام لتكسب لقمة عيشها. بشكلٍ عام، يمكن القول إنّ العمل جاء مدروسًا جيدًا، وتمكّن القائمون على المعرض من تنفيذه بشكلٍ جيد، من دون تعديل في إرث الفنانتين الإبداعي بأيّ شكلٍ من الأشكال.
أثناء حياتيهما، لم تكن الفنانتان ناديا ليجيه، وسوزان فالادون، في الصفّ الأوّل بين الفنانين. بالنسبة لناديا ليجيه، بدأت دراسة فنّ الرسم في مدينة سمولينسك الروسية، في فرع فيتيبسك يونوفيتس، وظهرت أعمالها المبكرة متأثّرةً بشكلٍ واضح بالحركة التفوقية/ السوبرماتية (Suprematismus: حركة فنية تجريدية ظهرت خلال الحرب العالمية الأولى). هذا التأثير سيعاود أيضًا الظهور في أعمالها التجريدية المبكرة، ففي المرحلة المتوسطة تشربت جميع مسامّ كيانها الفنيّ بجماليات أسلوب زوجها. وفي الوقت نفسه، كانت ناديا موهوبة، وكان ممكنًا أن تصبح مستقلة حقًا لو تهيّأت لها ظروف أُخرى. لكن كونها شخصية ثانوية في عالم الفنّ لا يجعل المعرض أقلّ إثارة للاهتمام. فقيمته تكمن أيضًا في الانعكاس المثير للعصر المضطرب الذي ورثته ناديا في حياتها خلال النصف الأول من القرن العشرين.
ملصق معرض “ناديا ليجيه: امرأة طليعية” في متحف مايول
“كانت سوزان فالادون فنانة موهوبة حقًا، بل كانت موهوبة أكثر بكثير من ناديا ليجيه”
تختلف الظروف التي عاشتها سوزان فالادون جذريًا، فهي تنتمي إلى جيلٍ مختلفٍ، وقامت بتعليم نفسها بنفسها، أولًا كعارضة أزياءٍ، لتصبح العارضة الرئيسية للفنانين الانطباعيين، وكذلك لفناني ما بعد الانطباعية. وثانيًا، بدأت سوزان بخوض تجربة الرسم بنفسها، وشاهدت رسامين كبارًا، مثل: رينوار؛ تولوز لوتريك؛ ديغا، وماتيس، وهم يعملون، وطلبت نصائحهم، وحصلت على رعايتهم. ديغا نفسه اشترى بعض أعمالها، وأوصى أصحاب المعارض باقتناء أعمالها. كمحصلة لكل هذه الظروف، أصبحت سوزان فنانة ناجحة للغاية، وتعاقدت مع عملاء ووكلاء أعمال، ونالت عضوية الجمعية الوطنية للفنون الجميلة، لتكون أول امرأة تقبلها الجمعية. كما شاركت بنشاطٍ في الصالونات الرسمية. وبكلّ المقاييس، يمكن القول إنّ الرسم مهنة رائعة بالنسبة لابنة غير شرعية لامرأة بسيطة تغسل الثياب، ولم تدرس شيئًا يمتّ بصلةٍ إلى هذه المهنة. في الوقت نفسه، كانت سوزان فنانة موهوبة حقًا، بل كانت موهوبة أكثر بكثير من ناديا ليجيه. في معرض سوزان لوحات رائعة بالفعل: صورة إريك ساتي، الذي كانت تربطه بالفنانة علاقة قصيرة وعاصفة، مثل كلّ علاقاتها الأُخرى، أو بعض لوحاتها العارية الأخيرة. من ناحيةٍ أُخرى، كانت سوزان واقعة بشكلٍ واضح تحت تأثير عشاقها وأصدقائها: هنا تولوز لوتريك، وهنا ماتيس. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ بعضًا من لوحاتها التجارية المبتذلة من عشرينيات القرن العشرين، لا تساعد في رؤية أصالتها الفنية وأسلوبها الفريد. الشيء المهمّ في المعرض أنّه إلى جانب لوحات سوزان مباشرة علّقت لوحات أصدقائها وعشاقها ورعاتها من الفنانين، مما جعل المشاهد أمام تسلسلٍ هرميّ فنيّ مميز. إن كان اختيار اللوحات يهدف، في كلتا الحالتين، إلى خلق انطباعٍ بالشمولية، فإنّ السرد المرافق، يطرح على عكس ذلك، وبكلّ الطرق الممكنة، موضوع مصير المرأة الصعب وكيفية مواجهته. أولًا، تساعد سوزان أمّها في كيّ الثياب، وتعمل في السيرك، كما تعمل كموديل أمام الفنانين. أمّا الفنانة الثانية، على النقيض من سوزان، فقد درست الرسم بجدّ منذ البداية، خلافًا لإرادة والديها، فبدت شخصًا متحررًا حقًّا، ثم فرتّ بعيدًا عن الثورة البلشفية، لتصبح رفيقةً مخلصةً للعبقرية، وتشارك في المقاومة ضدّ النازية.
من الجليّ تمامًا أنّ هنالك موضوعات اليوم لا يمكن لأيّ صناعة فنية إغفالها، النسوية والفنّ النسويّ أحد تلك المواضيع. وبغض النظر عما يعتقده القائمون على المعرض، هنالك سردية أيضًا تحددها هذه المواضيع، وهنالك بعض المؤامرات التي يتوجب الحديث عنها. بالإضافة إلى ذلك، يدرك الجميع أنّه بفضل كلّ هذا أقيم في السنوات العشر الماضية قرابة 12 معرضًا ممتازًا للفنانات، منها معارض جماعية، ومنها معارض شخصية استطاع الجمهور للمرة الأولى رؤيتهنّ والتعرّف عليهنّ، الأمر الذي جعل صورة العملية الفنية أعمق وأكثر تعقيدًا، وهو واحد من أهمّ أهداف عمل أيّ مؤسسة فنيّة.
لماذا من الضروري تكرار عبارات مثل: “رغم كلّ مصاعب الحياة”، و”رغم الزوج/ الحبيب/ عالم الرجل بشكلٍ عام”؟! فلا ينكر أحدٌ تقريبًا البشاعة التي كانت موجودة في حياة النساء، وخاصّةً قبل مئة عامٍ، أو حتى قبل 50 عامًا. وكذلك لا أحد ينكر أنّ النظام الأبويّ معادٍ بالفعل لكلّ ما هو إنسانيّ، وليس فقط تجاه النساء. يتضمّن التكرار المستمر لمثل هذه العبارات شيئًا ما يقلّل بالفعل من شأن النساء أنفسهنّ، ومن إنجازاتهنّ.
توحي هذه الصيغ ضمنًا أنّه لو لم يكن العالم ذكوريًّا، لكانت فناناتنا في الصفّ الأوّل من تاريخ الفنّ، وليس في الثاني، أو الثالث والخامس. لسببٍ ما، تبدو الرسّامة لي كراسنر متحفّظة في كلامها عندما يدور الحديث عن زوجها، أو عن صعوبات الحياة. أمّا الرسّامة إليس نيل فليست في حاجةٍ لمثل هكذا تحفظات، مع أنّه لا يمكن وصف حياتها بالسهلة، أو المرحة (أقيمت معارضهما الواحدة تلو الأخرى قبل عامين في غوغنهايم في مدينة بلباو)، ربما لا يتعلق الأمر بحقيقة أنّ لي كراسنر كانت متزوجة من جاكسون بولوك، بينما لم تكن إليس نيل كذلك، بل في كون الشخصيتين مختلفتين من حيث الأهمية والمكانة.
على الرغم من ذلك، يبقى الأمر الرئيس هو أن لا تكون صياغة قضية المرأة بهذه الطريقة متناقضة مع أفكار النسوية؟ سوزان فالادون، بمزاجها العاصف، وحريتها الجنسية المنفلتة وغيرها، ومثابرتها في العمل وقدرتها على التركيز على أهدافها، هل شعرت بأنّ بعض الرجال قد عملوا على محوها؟ قد يزعم بعضهم أنّ هكذا صياغة مثيرة للجدل من الناحية البلاغة في السؤال ذاته، خاصّةً أنّ مستوى وعي الأنثى الذاتي كان مختلفًا في ذلك الوقت. بطريقة أُخرى، في عالم اليوم، الذي يركّز على التنوع والاختلاف، هل من المخجل حقًّا أن تكون المرأة في الصف الثاني، أو الخامس، أو حتى الخامس والعشرين؟ وهل تعلمنا حقًّا، بعد كلّ هذا الوقت، أنّ كثافة وعمق أيّ سلسلة، شعرية كانت، أم فنيّة، هي أهمّ وأثمن خواص أيّ عملية ثقافية. ولماذا يتعيّن بالضرورة تصوير الفنانات، اللاتي لسنَ في الواجهة، كضحايا من أجل تبرير قيمتهنّ في تاريخ الفنّ؟
ألم يحن الوقت للمجتمع الثقافي لأن يركز جهوده على بناء صورةٍ متعددة المستويات للعالم، حيث يمكن للرجال وللنساء، على حدٍّ سواء، الوصول إلى ما يستحقون بهدوء (ليس بالضرورة في الصفّ الأول)، من دون أن يشعروا بالحرمان، وبالحاجة إلى التبرير.