شهد قطاع غزة واحدة من أعنف الحروب في تاريخه الحديث، مخلفة وراءها دمارًا هائلًا في البنية التحتية، وآثارًا اجتماعية واقتصادية كارثية. فقدت آلاف العائلات معيليها؛ مما أدى الى ارتفاع غير مسبوق في نسب الإعالة، بينما ازداد عدد الأيتام وذوي الإعاقات بشكل مأساوي. في الوقت نفسه تفاقمت معدلات البطالة نتيجة لتدمير المصانع والمشاريع الصغيرة والمتوسطة بالقطاع وجرف الأراضي الزراعية؛ مما زاد من تعقيد المشهد الاقتصادي في القطاع المحاصر.
تأثير الحرب في نسب الإعالة
تعرف نسبة الإعالة وفقًا للبنك الدولي بنسبة المعالين من الأشخاص الذين تقل أعمارهم عن 15 عامًا وأكبر من 64 عامًا) إلى عدد السكان في سن العمل الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و64 عامًا). ووفقًا للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، فقد بلغ عدد سكان دولة فلسطين المقدر نهاية العام 2024، 5.5 ملايين فلسطيني (3.4 ملايين في الضفة الغربية، في حين انخفض عدد سكان قطاع غزة المقدر للعام 2024، بنحو 160 ألف فلسطيني، ليبلغ 2.1 مليون (وبانخفاض مقداره 6% عن تقديرات عدد السكان لقطاع غزة للعام 2023)، منهم أكثر من مليون طفل دون سن الثامنة عشرة، يشكلون ما نسبته 47% من سكان القطاع. وتراجع عدد الأفراد الذين تقل أعمارهم عن 30 سنة إلى 65% وبلغت نسبة الأفراد الذين أعمارهم (65 سنة فأكثر) 4%. بالتالي، فإن التحوّل في نمط الخسائر البشرية يؤثر حتمًا في ديناميكيات الأدوار والعلاقات الجندرية؛ نظرًا لارتباطها بالأدوار الاجتماعية التقليدية. كما أن لهذا التغيير انعكاسات على نمط الحياة الطبيعي في المجتمعات ذات الخصوصية الثقافية، لا سيما في غزّة؛ حيث يُنظر إلى الرجل تقليديًا كمعيل للأسرة؛ مما يُلقي على عاتق المرأة مسئوليات الأعمال المنزلية ورعاية الأطفال، بينما يتولى الرجل توفير الدعم المالي للأسرة. في ظل هذه التحديات الإنسانية القاسية، تواجه 13,901 امرأة فلسطينية واقعًا مأساويًا بعد فقدان أزواجهن نتيجة حرب الإبادة الجماعية، ليصبحن المعيلات الوحيدات لأسر حرمت من معيليها الأساسيين، وتتحمل هؤلاء النساء أعباءً ثقيلة لتأمين لقمة العيش ورعاية الأبناء، في ظل ظروف اقتصادية خانقة تفاقمت بفعل الحصار والدمار، وإضافة إلى صعوبة الحفاظ على استقرار الأسر، فإنهن يواجهن تحديات مضاعفة في إعالة عائلات فقدت سندها، وتربية أطفال بين أنقاض المنازل، في ظل شحّ الموارد الذي يفاقمه الحصار.
ووفقًا للأمم المتحدة فإن عدد الأيتام غير المحميين في غزة يتراوح الآن بين 17 و18 ألف طفل، وكثير منهم غير مصحوبين بأي من فرد من أفراد أسرهم. وبالطبع فإن ارتفاع عدد الايتام يشكل عبئًا إضافيًا، ويرجع ذلك إلى أن هؤلاء الأطفال غير قادرين على توفير الاحتياجات الاساسية بأنفسهم؛ مما يزيد من نسب الفقر عامة بالإضافة الى ارتفاع الطلب على الخدمات الاجتماعية في ظل انعدامها في قطاع غزة؛ مما يشكل ضغطًا اقتصاديا واجتماعيًا غير مسبوق.
المصدر: وزارة الصحة الفلسطينية، يناير 2025- منظمة العمل الدولية، يونيو 2024
في هذا السياق، توضح هيئة الأمم المتّحدة لشئون المرأة أنّ فقدان الوالدَين أو المعيل يؤدّي إلى تغييراتٍ في تكوين الأسرة مثل التحوّل من الأسر النواة والأسر الممتدّة الغالبة إلى الأسر الممتدّة للغاية. وعلى ضوء ذلك، تخشى النساء من أنه في ضوء نقص الغذاء وإغلاق المدارس وفقدان الفرص التعليمية، ستلجأ الأسر إلى آليّاتٍ معقدة وصعبة للتأقلم مثل الزواج المبكّر، خاصّةً في ظلّ ارتفاع عدد الفتيات الصغيرات اللواتي فقدن أحدَ الوالدَين أو كليهما، أو اضطرار المرأة الى العمل وتحمل الظروف البيئية الصعبة في سن مبكر لتوفير الغذاء والماء والحصول على المساعدات من المنظمات الإغاثية.
انعدام الأمن الغذائي وتأثر سلاسل التوريد
بلغ انعدام الأمن الغذائي مستوياتٍ عالية وآخذة في الارتفاع، فقد ذكر تقرير التصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي أن كل قطاع غزة يُصنف بأنه في حالة طوارئ وهي المرحلة الرابعة من التصنيف التي تسبق المجاعة، وأفاد التقرير بأن أكثر من 495 ألف شخص (22% من السكان) يواجهون مستويات كارثية من انعدام الأمن الغذائي الحاد في المرحلة الخامسة، التي تواجه فيها الأسر نقصًا شديدًا للغذاء والتضور جوعًا واستنفاد القدرة على المواجهة. وتشير التوقعات إلى انكماش الناتج المحلي الإجمالي لغزة بنسبة 86%. وقد كشف تقرير من البنك الدولي، أن كل سكان قطاع غزة يعانون من الفقر مع بلوغ نسبته حاجز 100%، بالإضافة إلى تجاوز التضخم 250%. وقد تسبّبت الحرب أيضًا في ارتفاع نسبة الفقر المتعدد الأبعاد في فلسطين، من 19.5% إلى 47.1%
الأيتام والمصابون بإعاقات دائمة
خلفت الحرب في قطاع غزة قرابة مئة ألف جريح من بينهم آلاف أصيبوا بحالات بتر لأطرافهم ومنهم أطفال في ظل شبه انعدام تام للأطراف الاصطناعية أو أدوات ووسائل رعاية ذوي الإعاقة. وذكرت الأمم المتحدة مؤخرًا أن أكثر من 22 ألفًا يعانون من إصابات غيرت حياتهم، منها إصابات في الأطراف تتراوح بين 13 ألفًا و17 ألفًا.
ووفقًا للأونروا، وصل معدل فقد الأطراف الى فقد 10 أطفال إحدى الساقين أو كليهما يوميًا. كما أصبحت غزة موطنًا لأكبر مجموعة من الأطفال مبتوري الأطراف في التاريخ الحديث. وازدادت احتمالات أن تتعرض النساء الحوامل للإجهاض بمقدار 3 مرات، كما أنهن أكثر عرضة بثلاث مرات للوفاة بسبب مضاعفات الولادة”.
معدلات البطالة في غزة بعد الحرب
وفقًا لمنظمة العمل الدولية فقد ارتفعت نسبة البطالة إلى ما يقارب 80% وتقلص الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 83.5%. ووفقًا للنشرة الدورية الصادرة عن منظمة العمل الدولية، أوقفت جميع منشآت القطاع الخاص إنتاجها تمامًا أو خفضت إنتاجها بشكل كبير، حيث فقد القطاع 85.8% من قيمة إنتاجه أي ما يعادل 810 مليون دولار أمريكي خلال الأشهر الأربعة الأولى من الحرب فقط. وفي الضفة الغربية، عانى القطاع الخاص من انخفاض في قيمة الإنتاج بنسبة 27% بما يعادل 1.5 مليار دولار أمريكي خلال الفترة نفسها. ويترجم ذلك إلى خسائر في إنتاج القطاع الخاص تعادل 19 مليون دولار أمريكي يوميًا في جميع أنحاء الأرض الفلسطينية المحتلة خلال الأشهر الأربعة الأولى من الحرب فقط.
وخلص مسح أجرته منظمة العمل الدولية بالشراكة مع الاتحاد العام لنقابات عمال فلسطين إلى أن 51% من عمال الضفة الغربية الذين لا يزالون يعملون واجهوا تخفيض ساعات العمل، في حين واجه 62.8% منهم انخفاضًا في الأجور.
وخلص مسح ثانٍ أجرته منظمة العمل الدولية واتحاد الغرف التجارية والصناعية والزراعية الفلسطينية إلى أن 65.3% من الشركات في الضفة الغربية أبلغت عن تخفيض في القوى العاملة لديها؛ حيث لجأت العديد من الشركات إلى تسريح العمال بشكل دائم أو مؤقت.
سيناريوهات إعادة إعمار غزة
لا يقتصر إعادة إعمار غزة على عمليات بناء المنازل أو البنية التحتية فقط بل هي عملية إعمار شاملة للمجتمع بكافة جوانبة خاصة الجانب الاجتماعي كونة الأكثر تضررًا بطبيعة الحال. لذا من الضروري أن تعتمد استراتيجيات إعادة الإعمار على مقاربات مبتكرة تأخذ في الاعتبار التغيرات الديموغرافية والاجتماعية وتستجيب لها بفاعلية. وتركز السيناريوهات المقترحة الآتية على البعد الاجتماعي، كما تستهدف تمكين الأفراد نفسيًا، وتعليميًا، واقتصاديًا لضمان تعافٍ حقيقي ومستدام في ظل حالة الدمار التي طالت معظم نواحي الحياة.
سيناريو “ضواحي الأمل”:
الفكرة: إنشاء “قرى ذكية” تجمع بين الإسكان، التعليم، والتوظيف في بيئة متكاملة، بحيث لا يكون السكان مجرد متلقين للمساعدات، بل يتم دمجهم في أنشطة إنتاجية وتعليمية مستدامة. وتحتوي القرى على:
مراكز التعليم والتأهيل المهني: تضم القرى مدارس حديثة تعتمد على التعليم المدمج، بالإضافة إلى مراكز تدريب لتعليم الحرف والمهن اليدوية القائمة على الموارد المتاحة. مشاريع اقتصادية مجتمعية: إقامة ورش عمل ومشاريع صغيرة داخل القرى، مثل الزراعة والتصنيع الغذائي، بحيث توفر فرص عمل مباشرة للسكان.الدعم النفسي والاجتماعي: مراكز متخصصة لعلاج الصدمات النفسية، مع برامج دعم للأيتام والأرامل وذوي الإعاقات.المدارس المتنقلة: وحدات تعليمية متنقلة يمكنها الانتقال إلى المناطق المتضررة، لضمان استمرار التعليم في حال وقوع أزمات جديدة.الفصول الافتراضية: إنشاء منصة تعليم إلكترونية تتيح للطلاب التعلم عن بُعد، مع دعم من معلمين محليين ودوليين.برنامج “إعادة الحياة بعد الحرب”، إنشاء مراكز تعليمية علاجية للأطفال الأيتام وذوي الاعاقات توفر بيئة آمنة تعزز التعليم والتأهيل النفسي، تستخدم تقنيات الواقع الافتراضي لعلاج اضطراب ما بعد الصدمة ومساعدة المصابين على التكيف مع فقدان أطرافهم من خلال برامج محاكاة علاجية.سيناريو “غزة بلا بطالة”: نموذج الاقتصاد الاجتماعي التعاوني:
الفكرة: تحويل غزة إلى نموذج اقتصادي يعتمد على التعاونيات المجتمعية، بحيث يمتلك الأفراد مشاريعهم الخاصة ويشاركون في إدارتها؛ مما يخلق فرص عمل ويقلل من الاعتماد على المساعدات الخارجية، وذلك بتخصيص جزء من المساعدات الدولية لتأسيس مثل تلك المشاريع عن طريق:
تأسيس “حاضنات أعمال مجتمعية”: مراكز توفر الدعم التقني والمالي للشباب لبدء مشاريع صغيرة تعتمد على موارد محلية مثل إعادة التدوير، الزراعة، والخدمات الرقمية.التوسع في “التعاونيات الإنتاجية”: مجموعات من الأفراد يعملون معًا لإدارة مشاريع زراعية، صناعية، أو حرفية، حيث يتم توزيع الأرباح بعدالة بين المشاركين.سيناريو “المرأة الفلسطينية أيقونة الإعمار”:
الفكرة: إعادة إعمار غزة بتمكين النساء اقتصاديًا واجتماعيًا، ليكونّ جزءًا أساسيًا من عملية التعافي، عن طريق:
بنك المرأة للإعمار”: مؤسسة مالية تقدم قروضًا صغيرة ومنحًا للسيدات لبدء مشاريعهن الخاصة.برامج تدريب مهني وريادي للنساء: دورات تعليمية حول إدارة المشاريع، التسويق الإلكتروني، والخدمات الرقمية، لفتح فرص عمل جديدة.دعم الأمهات المعيلات: توفير حضانات مجتمعية للأطفال داخل أماكن العمل؛ مما يساعد الأمهات على تحقيق توازن بين العمل ورعاية الأسرة.
في النهاية، يظل نجاح إعادة الإعمار مرتبطًا بقدرة المؤسسات الحكومية والمنظمات الدولية والقطاع الخاص على تبني نهج تشاركي ومستدام، يضمن دمج الفئات الأكثر تضررًا في العملية التنموية؛ مما يعزز من التنمية الشاملة في غزة.
المصادر:
الحرب ترفع نسب البطالة في القطاع، منظمة العمل الدولية، https://www.ilo.org/ar/resource/news ، يونيو 2024.الإبادة في غزة من نظور النوع الاجتماعي والأثر على الطفولة، الشبكة العربية للطفولة المبكرة، https://www.anecd.net/ .حرب غزّة: الآثار الاجتماعية والاقتصادية المتوقعة على دولة فلسطين، الإسكوا، https://www.unescwa.org/ar/publications ، اكتوبر 2024.تقرير دولي: مخاطر المجاعة مرتفعة بأنحاء غزة و96% من السكان يواجهون انعداما حادا للأمن الغذائي، الأمم المتحدة، https://news.un.org/ar ، يونيو 2024.مخاطر التحوّلات الديمُغرافية لسكان غزة، مركز رع للدراسات الاستراتيجية، https://lcss.gov.ly يناير 2025.ملخص اقتصادي حول الحرب على غزة، معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني “ماس”، https://documentwestbank.palestine-studies.org، ديسمبر 2023.تقييد الإنتاج المحلي للأغذية يفاقم الأزمة الإنسانية في قطاع غزة، منظمة الفاو،https://www.fao.org/newsroom ، اغسطس 2024.
