د. خالد فتحي
ليس لنا ألا نحث الخطى وألا نسارع للحضور حين ندعى لمقهى ثقافي تكون ضيفته النجمة الكبيرة نجاة الوافي، فالاستماع إلى هذه الأيقونة المغربية المبدعة في فني التمثيل والاخراج ، وهي تحكي تجربتها الطويلة والزاخرة في الفن والحياة له أكثر من نكهة وأكثر من بعد، وأبهى هذه الأبعاد أنك لا تشعر بنفسك إزاء ممثلة استثنائية فقط، بل في مدرسة فنية متمايزة، ومنفرزة، ومكتملة الأركان… وأن صاحبة هذه المدرسة تستبد استبدادا جميلا بالحضور ، وتحلق به عاليا في عوالم الثقافة و الفن والإبداع والجمال، فتجعله يتذوق الفن بمعياريه الأساسيين، أي يتذوقه شكلا ومضمونا.
نجاة الوافي …. هي الفنانة و المثقفة التي انبجس فنها كفيض تدفق عن ثقافتها الواسعة… الفنانة التي استحوذت على قلوب المغاربة لما استحوذت على شروط العبقرية الفنية مستوفية بها كل أسباب النجاح : حضور طاغ وآسر للجمهور،
سرعة بديهة لافتة،
إتقان مبهر وانسيابية في اللغة سواء العامية منها أو الفصيحة.
وقدرة عجيبة وخارقة على تمثيل شخصيات مختلفة ومتعددة، ثم فوق كل ذلك معالم لا تخطئها لا العين ولا الأذن لموهبة فذة متحققة أكمل التحقق، كأنما قد خلقت صاحبتها للتمثيل، او كأنما قد خلق التمثيل لأجلها….هذه المواصفات هي من أهلتها دوما لنيل بطاقة الدخول دونما استئذان لبيوت وقلوب كل المشاهدين والمشاهدات.
استمعت لنجاة الوافي، وهي تتحاور وترد على الأسئلة في المقهى الثقافى ،وكنت قد استمعت لها مرارا من قبل بتاونات محتدها ومسقط رأس أبويها ، وهي تخاطب المعجبين والمعجبات في الدواوير بالمغرب العميق ، عن آلامهم وآمالهم، و تشحذ هممهم ، وتحدثهم عن النجاح الممكن بالعزيمة والارادة، فتأكدت لي مرة أخرى قناعتي الأولى عنها بأنها من طينة نادرة من الفنانين والفنانات…. ،أولئك الذين لا يجعلون من الفن فرجة فقط، بل يوظفونه لأجل بعث رسائل اجتماعية وانسانية تعكس واقع المجتمع وتسعى لتغيير مساره نحو الأفضل ….أي أنها فنانة عضوية تحرص على مايسميه النقاد والمثقفون بالالتزام الذي هو القيمة الضرورية لمد الفن بمعنى و بالخصوص بغاية يسعى إليها .لاشك أبدا أنها مابلغت هذه الذروة إلا لكونها فنانة وممثلة متعددة الاهتمامات من فكر ومعرفة، وعلم اجتماع، وعلم نفس، ولغات، وتاريخ ….فهذا مايرشح بوضوح من جزالة أسلوبها ،و لباقتها، وروعة سردها ،وتلقائيتها ،وغياب التصنع والتكلف في فنها ،حتى أني أعترف بنسياني كونها تمثل حين أشاهدها تمثل . حقا إنها تمتلك فطرة التمثيل ودربته معا، ،و انها تبرع أيما براعة في الأداء الفني السهل الممتنع الذي لاتبلغه إلا الصفوة الخالصة من الممثلين والممثلات .
إنه لمما يحار فيه الكثيرون لدى هذه الفنانة المقتدرة الرائعة، وضمن هذا الكثير النقاد أيضا ، أنها تتماهى بكيانها كله مع الدور الذي تؤديه…،تنغمس فيه، وتتقنه حركات وإيماءات، وإيحاءات ،وعبارات معلنة، و كذلك كلاما وأحاسيس مضمرة في تعابيرها وقسماتها وأسارير وجهها . من ينسى لها دور فتيحة وفطومة، و ادوارها في تريكة البطاش، والعين والمطفية،وشريكتي مشكيلتي ،والباندية .وبوشعيب بوسعود .وللا العروسة … الخ …. .فهي لاتتقمص الدور ،بل تذوب فيه ويذوب فيها .لدرجة تلاشي الحدود بينها وبين الشخصية التي تعكسها في الفيلم أو المسلسل. انها الممثلة التي تولد كل مرة تؤدي فيها دورا ما . لقد مثلت نجاة الوافي تقريبا كل الأدوار، بمافيها الأدوار المتناقضة والمتعاكسة ،انت تتعاطف معها وتعجب بها ظالمة أو مظلومة في الفيلم ،ساذجة أو مخادعة، خيرة او شريرة ،أما أو شابة في ريعان الشباب ،ولذلك ظلت دائما تتفلت بل و يصعب تصنيفها في قالب تمثيلي محدد .وكيف ننجح في ذلك وهي تمثل احيانا شخصيات مركبة ومعقدة تجمع حتى فيها بين هذه المفارقات .
انها اشبه ماتكون بتلك الخلايا التي ننعتها في الطب بالجذعية، فكما تتمايز هذه الخلايا الى خلايامتخصصة مختلفة،تستطيع نجاة الوافي بكل مهارة ودراية وموهبة أن تلعب تقريبا كل الأدوار….هي فنانة شمولية ،وهذا مقام في الفن لايرقى له الا العباقرة .
و لقد كنت دائما ما اسأل نفسي لماذا لم تمثل إلى الآن في المسلسلات العربية، اذ يمكنها ان تمثل دور زنوبيا ملكة تدمر ،ودور الخنساء ،ودور صحابية ،ودور شجرة الدر ، ودور كنزة أم ادريس الثاني ،وزينب النفزاوية…إلخ، وبوسع تعابير محياها وقسماتها ولكنتها غير المستقرة على لكنة واحدة ان تؤمن كل هذه الادوار …..الآن وقد اختيرت للتمثيل في عمل تلفزيوني عربي ضخم يحمل اسم سيوف العرب الى جانب عمالقة التمثيل العرب ،فهمت أن المسألة كانت مسألة وقت، و مسألة ازدحام أجندة لاغير ، فهي موزعة بين التمثيل والاخراج، وبين الإبداع بالمغرب وكندا والولايات المتحدة .
ما يستدعي التنويه لدى هذه الممثلة المتميزة ، انها ليست من المهرولات إلى الأعمال الرثة الرتيبة ،وليست من المتهافتات على ادوار التفاهة والابتذال،وانها فوق ذلك وفية لجذورها ووطنها ،وبالتالي تحتم عليها ان تصدر في كل أعمالها عن قيم إنسانية، أي أنها لاتمارس الفن لأجل الفن، وإنما تمارسه لأجل الناس.
اننا نحتاج مسيس الحاجة للترويج لنموذجنا المغربي ،وهو ورش كبير ومصيري يتطلب منا توظيف قوانا الناعمة،ومن ضمنها صناعتنا التلفزيونية والسينمائية ،ومن المؤكد أن لفنانين من مثل نجاة الوافي ما يقترحونه وينجزونه في هذا المضمار . ولذلك أملى كببر أن نستفيد من هؤلاء الموهوبين والفلتات ممن يمتلكون رؤية ومنهجا في الفن والثقافة ،ونجاة الوافي هي في طليعة فناناتنا اللواتي بامكانهن أن يبلورن بثقافتهن وموهبتهن هذا الحلم الجميل على أرض الواقع .