في لوحتها التي تحمل عنوان “سيقولون إننا استمتعنا بذلك” والمعروضة في معرض Uncanny في واشنطن تستبدل الفنانة الهايتية فابيولا جان لوي صورة الملكة البريطانية شارلوت في إحدى اللوحات الكلاسيكية الشهيرة بامرأة ذات بشرة سوداء. تبدو المرأة ذات الملامح الهادئة في ملابس مزركشة وذات هيئة أرستقراطية كما في العمل الأصلي تماماً. غير أن الفنانة الهايتية لا تكتفي بهذا المشهد المخملي الفاتن، ففي الخلفية ثمة جريمة تحدث. نستطيع أن نتبين طبيعة هذه الجريمة عبر الشرفة المطلة على الحديقة بجوار المرأة.
هذا المشهد الهامشي المقحم على العمل، مستوحى من لوحة أخرى تحمل عنوان “اغتصاب امرأة أفريقية” للفنان الهولندي كريستيان فان كوينبيرغ (1632). غير أن الفنانة تستبدل كذلك صورة المرأة الأفريقية في هذا المشهد الهامشي بقرد. تكشف فابيولا في هذا العمل كيف أن التاريخ الفني لم يكن منفصلاً عن الواقع العنيف للعبودية، بل كان في بعض الأحيان متواطئاً معه ومجملاً له.
Uncanny كمصطلح
عمل الفنانة الهايتية يبدو لوهلة بديعاً بالفعل ويمثل إحدى المعالجات الكلاسيكية المألوفة، لكننا إذا ما تأملنا تفاصيله واستغرقنا في دلالاته فربما ينتابنا إحساس غير مريح. هذا بالضبط ما يشير إليه مصطلح Uncanny الذي صاغه عالم النفس الألماني إرنست ينتش لأول مرة عام 1906. يشير المصطلح إلى هذه الأشياء أو الظواهر المألوفة التي تبدو غير مريحة أو غريبة ومثيرة للريبة. وقد رسّخ عالم النفس النمساوي ومؤسس التحليل النفسي سيغموند فرويد حضور هذا المصطلح في كتابه Uncanny الصادر عام 1919. تناول فرويد في كتابه هذه الفكرة بالتفصيل، ليس فقط على أنها إحساس بالمجهول أو الغرابة، بل أيضاً على أنها شيء قادر على إبراز عناصر خفية أو مكبوتة، بل ووصفها بأنها مخيفة أحياناً.
Uncanny كمعرض
عمل فابيولا جان لوي هو أحد الأعمال التي يضمها المعرض المقام حالياً في المتحف الوطني للنساء في واشنطن والمستمر حتى 10 أغسطس/آب المقبل. يستلهم المعرض عنوانه من Uncanny، هذا المصطلح الشهير في علم النفس، ويجمع بين أكثر من 60 عملاً لفنانات بارزات منذ عشرينيات القرن العشرين وحتى اليوم. بين الفنانات المشاركات تبرز الفنانة سما الشيبي، وهي فنانة عراقية فلسطينية مقيمة في الولايات المتحدة الأميركية.
تقدم الشيبي عملها تحت عنوان “انهيار” وهو فيديو مدته ست دقائق، تستخدم خلاله النحل باعتباره استعارة للاجئين البيئيين، الذين يُجبَرون على الفرار بسبب التغيرات البيئية التي تهدّد سبل عيشهم. هذه الصور والتخيلات الكارثية التي يتحدث عنها عمل الشيبي تأتي على وقع نغمات هادئة لآلة الكمان خلفيةً موسيقيةً للفيديو. سما الشيبي التي وُلِدت في البصرة بالعراق عام 1973، تُعرف بأعمالها التي تدمج بين الفن والسياسة، حيث تستكشف قضايا الهوية واللجوء والاغتراب.
معرض القلق وعدم الشعور بالارتياح
وتسلّط أعمال عدة أخرى الضوء على الأفكار المثيرة للقلق والتي تتحدى السياقات البصرية المعتادة. في عمل الفنانة الأميركية لوري سيمونز “موسيقى الندم” نرى دمية أنثوية تجلس وسط دائرة من دمى ذكورية تحدّق بها، ما يخلق مشهداً يوحي بالخضوع والانتهاك، مستلهماً رمزية الدمى في أفلام الرعب لإثارة القلق والريبة. ثمة فنانات أخريات يستخدمن الغرابة لتحدي التوقعات الاجتماعية والجنسانية. على سبيل المثال تعرض الفنانة النرويجية فريدا أوروبابو عملاً بعنوان “رأسان”، وهو تركيب يُعيد تشكيل صور أرشيفية لنساء سوداوات من خلال تجزئة الأجساد وتشويهها، مما يثير مشاعر عدم الارتياح ويدعو المُشاهد إلى مواجهة التاريخ العنيف للعنصرية والاستعمار.
تطالعنا كذلك مجموعة من الأعمال التي تثير شعوراً بعدم الارتياح بسبب تشابهها الكبير مع الواقع، ولكن مع وجود تفاصيل غريبة تذكرنا بأنها ليست طبيعية تماماً. من بين هذه الأعمال، تعرض الفنانة الإنكليزية، جيليان ويرينغ، سلسلة من الصور التي ترتدي فيها أقنعة سيليكون تشبه ملامحها، وكأنها ترتدي قناعاً لوجهها نفسه مما يثير شعوراً بعدم اليقين أو القلق. هذا الشعور الذي عبّرت عنه الفنانة الإنكليزية حاضر كذلك في أعمال مشارِكة عدة في هذا المعرض، حيث تسلّط بعض الفنانات الضوء على كيف أصبحت الحدود بين الإنسان والتكنولوجيا ضبابية أكثر من أي وقت مضى. تُشير أعمال عدة إلى هذا التداخل بين الإنساني والاصطناعي، والذي يخلق إحساساً بعدم اليقين، وهو موضوع متكرّر في الفن المعاصر، خاصة عندما يتعلّق الأمر بالهوية والجسد والتكنولوجيا.
معرض Uncanny يقدم لنا رؤية عميقة ومقلقة، حيث تستخدم الفنانات مفهوم “الغرابة” لتحدي الأفكار النمطية والتعبير عن القلق الوجودي من خلال أعمال فنية متنوعة بين النحت والتصوير والفيديو. وهو دعوة إلى التفكير في تاريخ الفن ودوره في تشكيل وعينا بالتاريخ والهوية، فأعمال عدة تُعيد صياغة الواقع بأساليب مختلفة مستكشفة ما فيه من غرابة، أو ربما رعب أحياناً.